كنت لفترة طويلة من أنصار إبقاء أسعار الفائدة "مرتفعة لفترة أطول"، مشدداً على أن مجلس الاحتياطي الفيدرالي يجب أن يبقي معدلات الفائدة قصيرة الأجل عند المستوى الحالي أو أعلى للسيطرة على التضخم.
لكن تغيرت الحقائق، لذلك غيّرتُ رأيي. وينبغي لـ"الاحتياطي الفيدرالي" أن يخفض أسعار الفائدة، ويُفضل أن يكون ذلك في اجتماع السياسة النقدية الأسبوع المقبل.
لسنوات عديدة، أشارت القوة المستمرة للاقتصاد الأميركي إلى أن "الاحتياطي الفيدرالي" لم يفعل ما يكفي لإبطاء وتيرة نموه. فسخاء الحكومة في عصر الجائحة ترك للناس والشركات الكثير من الأموال لإنفاقها.
كما زاد الطلب بفضل الاستثمارات الضخمة لإدارة الرئيس جو بايدن في البنية التحتية وأشباه الموصلات والتحول الأخضر. كان تيسير الأوضاع المالية -وخاصة ارتفاع سوق الأوراق المالية- سبباً في زيادة ميل الأسر الأكثر ثراءً إلى الاستهلاك. وسيتطلب احتواء التضخم الناتج عن ذلك في ما يبدو تشديد "الاحتياطي الفيدرالي" السياسة النقدية بشكل مستدام.
نجاح مسعى إبطاء النمو
الآن بدأت الجهود التي يبذلها "الاحتياطي الفيدرالي" لتهدئة الاقتصاد بتحقيق تأثير واضح. لا شك أن الأسر الثرية لا تزال تستهلك، وذلك بفضل أسعار الأصول المرتفعة وإعادة تمويل الرهن العقاري بأسعار فائدة طويلة الأجل منخفضة تاريخياً.
لكن البقية استنفدت بشكل عام ما تمكنت من توفيره من التحويلات المالية الحكومية الضخمة، ويشعرون بوطأة أسعار الفائدة المرتفعة على بطاقاتهم الائتمانية وقروض السيارات الخاصة بهم، وتعثر بناء المساكن، إذ قوضت تكاليف الاقتراض المرتفعة اقتصاديات بناء مجمعات سكنية جديدة. كما أن القوة الدافعة التي ولّدتها مبادرات الرئيس جو بايدن الاستثمارية آخذة في التلاشي على ما يبدو.
يعني تباطؤ النمو بدوره وظائف أقل. ويظهر مسح للأسر بخصوص التوظيف إضافة 195 ألف وظيفة فقط خلال الاثني عشر شهراً المنصرمة. وعادت نسبة الوظائف الشاغرة إلى العاطلين عن العمل، البالغة 1.2، إلى ما كانت عليه قبل الجائحة.
الأمر الأكثر إثارة للقلق والانزعاج هو أن متوسط معدل البطالة لثلاثة أشهر ارتفع بنحو 0.43 نقطة مئوية عن أدنى نقطة سجلها في الأشهر الاثني عشر السابقة، وهو مستوى قريب جداً من عتبة 0.5 التي كانت تشير دائماً، كما حددتها "قاعدة سهم"، إلى الركود في الولايات المتحدة.
في الوقت نفسه، تراجعت الضغوط التضخمية بشكل ملحوظ بعد سلسلة من المفاجآت الصعودية في وقت سابق من هذا العام.
وارتفع مؤشر أسعار المستهلك المفضل لدى "الاحتياطي الفيدرالي" -وهو معامل الانكماش الأساسي لنفقات الاستهلاك الشخصي- 2.6% في مايو على أساس سنوي، وهو ما لا يزيد كثيراً عن هدف البنك المركزي البالغ 2%.
من المرجح أن تعزز قراءة يونيو، التي ستصدر الأسبوع المقبل، هذا الاتجاه، انطلاقاً من البيانات التي صدرت بالفعل والتي تؤثر على حساب نفقات الاستهلاك الشخصي الأساسية. وعلى صعيد الأجور، ارتفع متوسط الأجر في الساعة 3.9% في يونيو على أساس سنوي، مقارنة بذروة قاربت 6% في مارس 2022.
المخاوف لا تزال باقية
لماذا إذاً يلمح مسؤولو "الاحتياطي الفيدرالي" بقوة إلى أنه لن يكون هناك خفض لأسعار الفائدة في اجتماع الأسبوع المقبل؟
أرى ثلاثة أسباب لذلك. أولاً، لا يريد "الاحتياطي الفيدرالي" أن يُخدع مرة أخرى. ففي أواخر العام الماضي، تبيّن أن الاعتدال في التضخم كان مؤقتاً. وهذه المرة، سيكون من الصعب تحقيق المزيد من التقدم في خفض التضخم على أساس سنوي، وذلك بسبب القراءات المنخفضة في النصف الثاني من العام الماضي. لذلك قد يتردد المسؤولون في إعلان النصر.
ثانياً، ربما ينتظر باول من أجل بناء أوسع توافق ممكن في الآراء. وبما أن الأسواق تتوقع بالفعل خفضاً كاملاً في سبتمبر، فيمكنه أن يوضح لدعاة التيسير النقدي بأن التأخير لن يكون له عواقب تُذكر، في حين يبني المزيد من الدعم بين دعاة التشديد، لاتخاذ إجراء في سبتمبر.
ثالثاً، لا يبدو أن مسؤولي "الاحتياطي الفيدرالي" منزعجون بشكل خاص من خطر تجاوز معدل البطالة عتبة "قاعدة سهم" قريباً. والمنطق هنا هو أن النمو السريع في قوة العمل، وليس ارتفاع معدلات تسريح العمال، هو الذي يدفع الزيادة في معدل البطالة. وهذا ليس مقنعاً: فقد تنبأت قاعدة "سهم" بدقة بحدوث الركود في السبعينيات من القرن الماضي، عندما كانت القوى العاملة تنمو بسرعة أيضاً.
تاريخياً، تعمل أسواق العمل الضعيفة على توليد حلقة من ردود الفعل ذاتية التعزيز. فعندما يصعب العثور على وظائف، تقلص الأسر إنفاقها، ويضعف الاقتصاد، وتقلص الشركات استثماراتها، مما يؤدي إلى تسريح العمال والمزيد من خفض الإنفاق.
ولهذا السبب، كانت معدلات البطالة، التي تجاوزت عتبة 0.5 نقطة مئوية، ترتفع دائماً بشكل أكبر كثيراً، وكان أقل ارتفاع يقارب نقطتين مئويتين، أي من أدنى مستوى إلى الذروة.
ورغم أن الوقت ربما يكون قد فات بالفعل لدرء الركود من خلال خفض أسعار الفائدة، فإن التباطؤ الآن يزيد من المخاطر بلا داعٍ.