تدفع الخشية الشركات في أميركا لإعادة الموظفين إلى العمل من مكاتبهم، ومبعثها أن يكون الموظف الذي يعمل عن بعد يشغل وظيفة أخرى بدوام كامل في الخفاء، وذلك ليس عبر العمل 80 ساعة أسبوعياً بل من خلال التناوب على الوظيفتين في آن معاً.
على مدى العامين الماضيين، نشرت صحيفتا "واشنطن بوست" و"وول ستريت جورنال" ومجلة "وايرد" (Wired) و"بي بي سي" مقالات كاشفة حول من "يعملون في أكثر من وظيفة". التفاصيل مغرية دوماً بشكل لا يقاوم.
قال مهندس لمجلة "فانيتي فير" (Vanity Fair) إنه يكسب 295 ألف دولار سنوياً من عمله في وظيفتين، تتطلب إحداهما نحو 15 ساعة أسبوعياً، والثانية "لا تتطلب وقتاً على الإطلاق". أوضح المهندس أنه ليس متأكداً ما إذا كان مديراه يتذكران أنه ما يزال يعمل لديهما. قال مسوّق لـ"فايس" (Vice) إنه ينجز 80% من عمله من خلال "تشات جي بي تي"، ما يمنحه وقتاً كافياً لإضافة وظيفة أخرى.
قال موظفون إن جاذبية العمل في وظيفتين بدوام كامل مدفوعة تماماً بالماديات. يوفر أداء جيد في وظيفتين راتباً أفضل بكثير مما قد تحصل عليه إذا كان أداؤك ممتازاً في وظيفة واحدة فقط. ويزعم الموظفون أن لديهم فراغاً في يوم العمل المعتاد يتيح لهم بأن يبدوا وكأنهم موظفون مشغولون وملتزمون فيما يؤدون عملهم الآخر.
تغذي هذه الروايات مخاوف أوسع نطاقاً بين مديري الشركات من أن الجائحة قد ولّدت شريحة من العاملين غير الخاضعين للإشراف يستخدون غطاء العمل من المنزل لأداء الحد الأدنى من العمل. بالنسبة لأغلب المديرين، يُعد "الجمع بين وظائف عدة" أمراً يخشونه أكثر من خشيتهم مما يُسمى الاستقالة المخفية، وهي العمل بحد أدنى من المنتظر.
لكن المديرين المتخوفين من أن يعتري هذا قوة العمل لديهم، ينبغي أن يعرفوا أنه خشية من أسطورة كما حال ذاك الوحش الذي يُفترض أنه يعيش في بحيرة لوخ نيس الإسكتلندية.
حقيقة أم أسطورة؟
حين لا يسهم أحد الموظفين في دورة العمل، فلا بد أن يكون ذلك جلياً، أياً كان السبب. وإن كانت متطلبات العمل في منظمة ما متراخية بما يتيح للموظفين بسهولة العمل في وظيفة ثانية بدوام كامل، فإن ما يكشفه ذلك يجعل إصبع الاتهام يتجه نحو صاحب العمل أكثر من الموظف.
بالتأكيد هنالك البعض ممن يؤدون عدة وظائف عن بعد سراً، مثلما توحي هذه الروايات، رغم أنهم في الأغلب لا يجيدون إخفاء الأمر مثلما يعتقدون. لكن الأمر غالباً أندر بكثير مما قد توحي به بعض عناوين الأخبار المثيرة.
فعند تمحيص البيانات التي تثبت ظاهرياً وجود هذه النزعة، تجدها واهية.
هنالك استبيان لموقع "ريسيوميه بيلدر" (Resume Builder) في 2022 كثيراً ما يُستند إليه، وقد شمل 1250 موظفاً يعملون عن بعد، يزعم أن 79% من الموظفين العاملين إما عن بعد أو بالنظام الهجين كانوا يعملون في وظائف عدة. وفقاً للاستبيان ربع من يعمل عن بعد يلتزم وظيفتين على الأقل بدوام كامل. لكن صيغة السؤال في الاستبيان كانت محيرة: "إلى جانب وظيفتك بدوام كامل، ما عدد الأعمال الأخرى التي استؤجرت لأدائها (بما لا يشمل العمل لحسابك الخاص)؟".
الوظائف الجانبية
إضافة لما سبق، لا تلائم بعض الوظائف الجانبية المدرجة الصورة النمطية لمبرمج يحاول أن يستمع لما يدور في اجتماعين على تطبيق "زووم" في آن واحد. على سبيل المثال، 39% من الموظفين العاملين عن بعد ممن لديهم أكثر من وظيفة أضافوا العمل لحسابهم الشخصي كوظيفة ثانية. قال 28% من هؤلاء إن العمل الحر هو وظيفتهم الجانبية، وقال نحو 25% إن وظيفتهم الثانية في مجال التأثير على وسائل التواصل الاجتماعي، فيما ذكر 15% إنهم يعملون في مجالات إباحية.
يدفعني ذكر العمل في ذاك المجال للتشكك بقوة في الاستبيان بأكمله. هل نعتقد حقاً أن العمل في المجال الإباحي شائع لهذه الدرجة؟ هناك نحو 168 مليون عامل في الوظائف المدنية في الولايات المتحدة. رغم أن الطبيعة القانونية المبهمة للعمل في المجال الإباحي تُصعّب قياس حجمه، يقدّر الخبراء أن هناك بين مليون ومليوني شخص يعملون في هذا المجال، فهو يمثل ما بين 0.6% و1.2% من قوة العمل.
هذا ليس المسح الوحيد المشكوك في أمره الذي يشير إلى وجود أعداد كبيرة من الموظفين الذي يعملون في وظائف متعددة. زعم استبيان أعدته "مونستر" (Monster) في 2023 وشمل ألف موظف أن 37% من الموظفين -وهذا فيما يبدو يشمل كل الموظفين وليس العاملين عن بعد فحسب- كان لديهم أكثر من وظيفة بدوام كامل. لا يمكن أن يكون ذلك صحيحاً ببساطة. فلتنظر حولك، هل تعتقد أن ثلث زملائك لديهم وظيفة ثانية بدوام كامل؟
ترسم مصادر أخرى للبيانات صورة مغايرة تماماً لأصحاب الوظائف المتعددة. وفقاً لمكتب إحصاءات العمل، لدى 4.4% من الرجال و5.2% من النساء فقط أكثر من وظيفة. أغلب هؤلاء يعملون في عدة وظائف بدوام جزئي أو وظيفة واحدة بدوام كامل إلى جانب وظيفة بدوام جزئي. وفقاً لتحليل بنك الاحتياطي الفيدرالي في سانت لويس لبيانات مكتب إحصاءات العمل، يعمل أقل من 0.3% من العاملين في الولايات المتحدة في وظيفتين بدوام كامل.
حقيقة تعدد الوظائف
أغلب هؤلاء لا يعملون عن بعد. يجمع هؤلاء الموظفون بين فترات العمل الصباحية في مقهى "ستاربكس" وبين العمل ليلاً في تنظيف مباني المكاتب. توصل تحقيق أُجري في 2021 لبيانات التعداد السكاني في الولايات المتحدة إلى أن أغلب أصحاب الوظائف المتعددة تركزوا في قطاعات محدودة منخفضة الدخل، مثل قطاعات التجزئة وخدمات الغذاء وإدارة النفايات.
كما أن أصحاب الوظائف المتعددة هولاء لا يجنون كثيراً من المال. في الواقع، إنهم لا يكسبون حتى ما يكسبه من لديهم وظيفة واحدة. يبلغ متوسط إجمالي الدخل لمن لديهم وظائف عدة نحو 54 ألف دولار سنوياً. وعلى العكس منهم، يبلغ متوسط إجمالي دخل العاملين ممن لديهم وظيفة واحدة ثابتة نحو 63 ألف دولار سنوياً.
رغم أن هناك قلة من العاملين يحققون دخلاً أعلى ولديهم أكثر من وظيفة واحدة، يميل هؤلاء عادةً لأن يكونوا من أصحاب المهن مثل الأطباء، الذين قد يكون لديهم عيادة خاصة ووظيفة في مستشفى. لا يدّعي هؤلاء أنهم مشغولون، بل يعملون بالفعل لساعات طويلة. كما أنهم لا يخفون حقيقة أن لديهم وظيفة أخرى.
ينسب غليب تسيبرسكي، الذي كتب موضوعاً في مجلة "فورتشن" (Fortune)، التركيز الهائل على الموظفين ممن يعملون عن بُعد في وظيفتين عاليتي الأجر إلى "تحيز إدراكي يُعرف بمغالطة معدل الأساس، حيث نركز على الروايات الفردية ونخفق في تقييم احتمال الأحداث الإحصائية".
بعبارة أخرى، أيمكن أن هناك تكون سحلية مائية في إحدى بحيرات إسكتلندا عمرها عدة قرون؟ قد أفترض ذلك، لكن هل ذلك مرجّح؟ لا يا صاحبي.