عاودت حشود المهاجرين اتجاهها إلى أوروبا والولايات المتحدة هرباً من العنف، ويدعم الإخفاق في كبح ذلك اليمينيين الشعبويين على جانبي المحيط الأطلسي. لقد وضعت ألمانيا الأسبوع الماضي نقاط تفتيش على أجزاء من حدودها، وطالبت إيطاليا بحصار بحري على البحر المتوسط، واعتبرت وزيرة بريطانية أن المعاهدة الدولية التي تضمن حماية اللاجئين لم تعد توافق الغرض منها. لقد قالت وزيرة الداخلية البريطانية سويلا برافرمان إن الهجرة غير المشروعة أضحت "تحدياً وجودياً للمؤسسات السياسية والثقافية".
لم يكن خطاب برافرمان في معهد "أميريكان إنتربرايز" (American Enterprise Institute) في واشنطن جدياً، فقد اعتمد على مغالطات وعبارات سياسية مبهمة، وهذا مؤسف لأنها كانت محقة في أن الهجرة غير النظامية بدأت تصل لحد الأزمة. بيد أن أول خطوة للتعامل مع ذلك هو الإقرار بما يحدث فعلاً.
الحقيقة البيّنة التي يتجاهلها الجانب الليبرالي من هذا النقاش هي حجم التحدي الاقتصادي والسياسي الناتج عن تدفقات اللاجئين الضخمة والمفاجئة، حتى بالنسبة للدول الغنية. إن هذه تعد أزمة هوية تثير مخاوف لدى كثير من الأميركيين والأوروبيين بأنهم مهددون، ولن يساعد أي قدر من المحاباة الأخلاقية في تخليصهم من هذا القلق. كما أن الإخفاق الحالي في التعامل مع الأزمة يشكل خطراً سياسياً بصراحة.
مشكلة متنامية
يعكس ضخامة المشكلة كل من فوز روبرت فيكو، وهو رئيس وزراء سابق مناهض للهجرة وموالٍ لروسيا ومتشكك في الاتحاد الأوروبي، في انتخابات سلوفاكيا الأسبوع الماضي، وقرار الجمهوريين في مجلس النواب الأميركي للربط بين تقديم مزيد من المساعدات الأمنية لأوكرانيا وإقرار مشروع قانون ضوابط الحدود. كما علّق إيلون ماسك على الأمر في منشور على منصة "إكس" لمتابعيه وعددهم 158 مليوناً، ضارباً مقارنة مغلوطة بين مشاكل حدودية أميركية وأوكرانية.
أما على الجانب الآخر؛ فهناك إنكار لحقيقة أن أوروبا على وجه الخصوص بحاجة لمهاجرين ليسدوا نقصاً في قوة العمل المتراجعة، وأن اللاجئين لا بد لهم أن يتجهوا لدولة أو أخرى، وليست الغنية منها مستثناة من ذلك. وسط ضجة الأسبوع الماضي، قالت اليونان، التي كانت في قلب أزمة المهاجرين عبر البحر المتوسط، إنها ستدرس تطبيع أوضاع 300 ألف مهاجر غير نظامي كي يتمكنوا من العمل بشكل قانوني، وذلك لأنها لا تستطيع إشغال وظائف قطاعات البناء والزراعة والسياحة دون ذلك.
منذ أن تحولت ثورة الربيع العربي في سوريا سريعاً إلى حرب أهلية في 2011، ازدادت أعداد النازحين بسبب العنف والاضطهاد حول العالم بشكل كبير. ارتفع الرقم حالياً لأكثر من الضعف ليبلغ 108.4 مليون، وفقاً للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وهي الهيئة المسؤولة عن تسجيلهم.
بقي أغلب النازحين، وعددهم 62.5 مليون، في بلدانهم الأصلية، وهم يعتمدون كثيراً على مساعدات دولية ليقتاتوا. أما البقية، وعددهم 35.5 مليون، فهم لاجئون فرّوا من بلدانهم، وبقي 70% منهم في أول بلد بلغوه بعدما عبروا حدودها.
أعداد ضخمة
لذلك السبب تستضيف تركيا، جارة سوريا، أعداداً من المهاجرين المسجلين وطالبي اللجوء تفوق ما استقبله أي بلد آخر، إذ يداني عددهم أربعة ملايين. كما تستضيف إيران، جارة أفغانستان، 3.4 مليون مهاجر وطالب لجوء. أما كولومبيا، المتاخمة لفنزويلا، فنصيبها نحو 2.5 مليون. تُعد اقتصادات كل هذه الدول منخفضة أو متوسطة الدخل.
أما عدد اللاجئين الذين يقطعون مسافات أطول ليصلوا إلى دول أغنى، فهو أقل بكثير، إذ يبلغ نحو 10% من النازحين. لكن ذلك العدد موزع بشكل متفاوت. لدى ألمانيا أعداد أكبر، سواءً من حيث نسبة المهاجرين إلى عدد السكان أو كعدد مطلق، بالمقارنة مع بريطانيا وفرنسا.
وفقاً لتوقعات سنوية نشرها المجلس الدنماركي للاجئين؛ سيزداد عدد النازحين قسراً في العالم بنحو 5.4 مليون بنهاية 2024، لذا؛ فالعدد الإجمالي سيفوق 113 مليون لاجئ، وسيكون نحو 11 مليوناً، علماً أن هناك من انتقل منهم إلى دول أغنى وأبعد.
هذا بالنسبة للنازحين قسراً فقط. بينما هنالك 184 مليون مهاجر في أنحاء العالم، أغلبهم ترك منزله بإرادته، وفقاً لتقرير التنمية لعام 2023 الذي ينشره البنك الدولي. في ظل التطورات الجيوسياسية والمناخية الحالية؛ فإن ذلك النمو متاح لأن يستمر.
تحذير مغرض
هذه الأرقام كبيرة، لكن برافرمان لم تكتفِ بها، فقد حذرت من أن عدد اللاجئين الذين ينبغي أن نقلق بشأنهم قد يصل إلى 780 مليون شخص، وهو رقم غير منطقي بلغت المبالغة فيه نحو 70 ضعف حجم التهديد الذي تواجهه بريطانيا وأوروبا. لقد جاءت برافرمان بذلك بغية توليد مستوى من الخوف لدعم اقتراحها بطرح اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين للنقاش، وهي تدرك تماماً أن أي أمر يقل حدةً عن إعادة خلق الظروف التي أعقبت الحرب العالمية الثانية لن يضمن اتفاقاً على حقوق اللاجئين في يومنا هذا.
ما زاد من قبح تدخُّل برافرمان هو إخفاقها في إحداث ما هو ضمن سلطتها، إذ إن حكومتها تصف نظام اللجوء في بريطانيا بأنه "معطوب"، إذ يستغرق البت في طلب اللجوء في بريطانيا 21 شهراً بشكل وسطي، مقارنة مع نحو ستة أشهر في فرنسا أو ألمانيا، كما أنه يكلف ثلاثة مليارات جنيه إسترليني (3.7 مليار دولار) سنوياً. وكبديل عن إصلاح الأمر؛ نجد بريطانيا تكثف جهودها في سياسة لسنّ قوانين تدرأ عنها ذلك، على الرغم من أن هذه السياسة لم يسبق أن نجحت ويُرجح أن تعاود الفشل.
من شأن قانون جديد بشأن الهجرة غير المشروعة أن يخول السلطات صلاحية ترحيل الأشخاص الذين يدخلون البلاد مخالفين لقانونها، باستثناء أنه لا توجد وجهة يمكن ترحيلهم إليها، لذا؛ لا بد من احتجازهم وتقديم الدعم لهم دون منحهم حق العمل.
سياسات عقيمة
حتى 26 سبتمبر، وصل 24208 من المهاجرين إلى الأراضي البريطانية على متن مراكب صغيرة هذا العام، وفقاً للحكومة. قال بيتر ولش، الباحث الأول في مرصد الهجرة بجامعة أوكسفورد، إن بريطانيا لديها أماكن لاحتجاز المهاجرين تتسع لألفي شخص، وأغلبها مشغول. كما أن اتفاقاً لإرسال بعض الناس إلى رواندا ما يزال عالقاً حتى تبت فيه المحاكم، لذا سينبغي دعم إقامة اللاجئين في الفنادق على حساب الدولة. في غضون ذلك، بلغ العجز في عدد عاملي دور الرعاية في البلاد العام الماضي 165 ألفاً، وهي أزمة يمكن حلها. هذه السياسات العقيمة هي ما درج باراك أوباما على أن يسميها بـ"الغبية".
في الوقت نفسه، خفضت الحكومة البريطانية المساعدات الدولية، التي يساهم بعضها في مساعدة النازحين على البقاء في أماكنهم. بريطانيا لم تكن الوحيدة التي فعلت ذلك. وفقاً لحسابات وردت في تقرير المجلس الدنماركي للاجئين؛ فقد تراجع حجم المساعدات الدولية في الخارج لكل لاجئ بمقدار الثلثين بين 2012 و2021 في 26 دولة يرصدها المجلس (وذلك لأن تلك الدول هي مصدر 92% من إجمالي اللاجئين). من ضمن ذلك؛ تراجع تمويل مشروعات إقامة السلام في 16 من 26 دولة. كما يرى التقرير علاقة بين غياب المساعدات وزيادة أعداد اللاجئين.
لذا بإمكانك أن تبني جداراً حقيقياً أو قانونياً، أو أن تفرض حصاراً بحرياً. لكن ثمن كل ذلك سيكون غالياً بشدة على المستويين الإنساني والمالي، كما أنه إنْ نجح، فإن ذلك سيدفع المهاجرين نحو دول مجاورة، أو العودة لدول أقل قدرة على تحمل التكاليف، وهي تتحمل أعباءً أكثر بكثير فيما يخص اللاجئين.
استيعاب أو ترحيل
لا يوجد حل سحري هنا، لكن يمكننا أن نبدأ بإدارة العملية بطريقة أكثر فاعلية لتسريع استيعاب قوة العمل للاجئين، فيولّد ذلك الضرائب اللازمة لبناء المدارس، وتقديم الرعاية الصحية المطلوبة لاستيعابهم. كما يمكن تسريع إعادة مقدمي الطلبات المرفوضة إلى بلدانهم، مما يقلص التكلفة وأعداد اللاجئين. برعت الدنمارك في ذلك، لكن بريطانيا لم تكن تدانيها.
الخطوة التالية هي خفض أعداد الواصلين عبر تركيز الإنفاق والسبل الدبلوماسية على مساعدة اللاجئين في البقاء قرب بلدانهم أو العودة إليها، وهو أفضل. يعني ذلك تكثيف المساعدات الموجهة، بما فيها المخصصة لتخفيف الهجرة بسبب تداعيات تغير المناخ.
بعد مرور أكثر من عقد منذ بدأت الحرب في سوريا؛ ما يزال يعيش 6.5 مليون لاجئ سوري خارج البلاد، وهم من بين أكبر المجموعات التي تسعى للجوء في أوروبا. دعا كل من مقرر الأمم المتحدة والبرلمان الأوروبي والصين إلى رفع العقوبات الدولية لتمكين إعادة الإعمار هناك. ثمة محاذير أخلاقية تحيط بهذا القرار، نظراً لطبيعة الحكومة السورية، لكن هدف إعادة اللاجئين إلى بلادهم ليس عليه محاذير.
هناك أعداد مشابهة من اللاجئين الأوكرانيين وأغلبهم في أوروبا، ولهم ترتيب مؤقت خاص، كما أن الكثير منهم قد عاد إلى وطنه بعدما انحسر الخطر على حياتهم في المناطق البعيدة عن الجبهات، على الرغم من أنه لم يختفِ تماماً. اقتصاد أوكرانيا بحاجة لعودتهم ولا ينبغي إجبارهم، لكن ربما آن آوان الحديث مع كييف عن طريقة تشجيعهم على العودة إلى وطنهم في عملية منظمة تضمن سلامتهم وإنتاجيتهم.
الهجرة "ضرورية"، كما جاء في تقرير من البنك الدولي، وينطبق على حال الدول التي يغادرها المهاجرون والتي يقصدونها أيضاً. لا يمكن إيقاف الهجرة، بل يمكن فقط تحويل مسارها أو استغلالها لصالح كل من الدول المضيفة والمهاجرين أنفسهم. يمكن لحسن الإدارة أن يحقق نجاحاً جلياً في تبديد محاوف الشعوب المضيفة، كما أن البنك الدولي لديه قائمة طويلة من التوصيات، أغلبها يتساوى وضوحه مع صعوبة تنفيذه سياسياً.
كما ينبغي أن تبدي برافرمان حماسها الإصلاحي حين يلتقي رؤساء الدول والمنظمات غير الهادفة للربح في المنتدى العالمي للاجئين الذين تعقده المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين في ديسمبر. ستتصدر الكيفية التي يتم عبرها "تخفيف الضغوط" جدول الأعمال، وذلك لكونها مسألة وجودية، وإن لم يكن المقصود بذلك ما رمت إليه وزيرة داخلية بريطانيا، فلنتصدى للصعاب.