لقد بدأ النمو الهائل في عدد سكان العالم يستقر، وتشي أغلب التوقعات بأننا سنبلغ ذروة عددنا في قرننا هذا، فيما يرغب الناس بأسر أقل عدداً من ذي قبل وفيما تكتسب النساء قدرة التحكم في قرار الإنجاب، وهذه أخبار سارة لمستقبل جنسنا.
رغم ذلك فهناك نواقيس خطر تقرع. ما انفك المدافعون عن البيئة منذ أمد طويل يحذرون من فرط الزيادة في عدد سكان الكوكب، بينما يحذر بعض الاقتصاديين الآن من مستقبل يقل فيه عدد السكان عن اللازم. على سبيل المثال، كتب الاقتصادي دين سبيرز من جامعة تكساس أن حدوث "تراجع غير مسبوق" في التعداد السكاني سيؤدي إلى مستقبل قاتم ينطوي على نمو اقتصادي أكثر تباطؤاً وعلى تراجع في الابتكار.
لكن خبراء علم السكان الذين تحدثت إليهم يقولون إن هذه المخاوف مبنية على تكهنات أكثر من استنادها لعلم. يُستبعد حدوث انهيار كبير في عدد السكان خلال المئة عام المقبلة، إن لم يتأتِ ذلك بسبب ظهور وباء جديد أو حدوث حرب نووية أو كارثة أخرى كبيرة. وإذا أردنا مزيداً من العقول القادرة على الابتكار في العالم، فعلينا أن نتخلى عن ممارساتنا السيئة في تغذية وتعليم البشر الذين ننجبهم.
هامش خطأ
يجب دوماً التعامل بشيء من التشكك مع التنبؤات بشأن المستويات السكانية المستقبلية التي لا تفترض هوامش خطأ واسعة. يود جويل كوهين، وهو عالِم رياضيات وعالِم أحياء وخبير في علم السكان في جامعة روكفلر، أن تُعامل توقعات تعداد السكان معاملة العلوم الحقيقية، مع احتساب عامل عدم اليقين بشكل سليم. أشار كوهين إلى أننا لا نعلم حتى العدد الدقيق للبشر الأحياء حالياً، وقال إن الأمم المتحدة حين أعلنت أن عدد سكان العالم تخطى حاجز 8 مليارات في 15 نوفمبر 2022، كان الأمر مجرد "حيلة دعائية".
تبلغ نسبة عدم اليقين في إحصاء عدد السكان في العالم 2% على الأقل، وهو ما يوازي نحو 160 مليون شخص أو أكثر. نظراً لأن تعداد السكان في العالم يزداد 80 مليون نسمة سنوياً على أقصى تقدير، ربما نكون قد وصلنا إلى ثمانية مليارات قبل عامين من تاريخ الإعلان عن تخطي حاجز 8 مليارات في 2022، أو قد لا نبلغه حتى 2024.
أدرك بنجامين فرانكلين لأول مرة أن تعداد السكان قد ينمو باطراد، كما توقع أن المستعمرات الأميركية ستتضاعف كل 25 عاماً. في 1798، طبّق عالِم الاقتصاد الإنجليزي توماس مالتوس هذا المبدأ على مستوى العالم، وأصدر تنبؤات خاطئة بأن معدل النمو هذا سيستمر إلى أن ينفد الغذاء وتنهار الحضارة.
قد يبدو هذا التفكير المتشائم مألوفاً لدى من يتذكرون كتاب "قنبلة السكان" (The Population Bomb) من تأليف بول وآن إرليخ في 1968، وهما عالِمان بجامعة ستانفورد. بين ما اشتهر به الزوجان هو التنبؤ المغلوط بمجاعة كارثية في القرن العشرين، وقد أخفقا بإدراك أن التطورات التقنية قد تلبي الحاجة المتزايدة وأن النساء حول العالم سيتحولن من إنجاب ستة أطفال إلى أقل بقليل من طفلين في المتوسط للمرأة الواحدة خلال الخمسين عاماً التالية.
توقعات مستقبلية
تأخذ توقعات اليوم في الحسبان متغيرات عديدة، وتُسلّم بأن زيادات السكان تصل لمستويات مستقرة، وليست تقفز لمستويات عالية ثم تهوي بشدة. قال كوهين إن بعض أكثر التوقعات التي يُعوّل عليها تأتي من خبراء علم السكان الذين يعملون مع الأمم المتحدة. تشير أحدث توقعات هؤلاء الخبراء إلى أن تعداد السكان في العالم سيستقر عند نحو 11 مليار نسمة بحلول 2100.
أظهر نموذج مختلف، صممه معهد القياسات الصحية والتقييم ونُشر في "ذا لانست" (The Lancet) في 2020، أن العالم سيصل قبل ذلك إلى ذروة أقل في 2064 تقريباً عند 9.7 مليار نسمة، يليها تراجع بمعدل ثابت، ليصل عدد السكان إلى نحو ستة مليارات بحلول 2100. كوهين ليس قلقاً بشأن ذلك الرقم، إذ إنه كان تقريباً عدد السكان الأحياء في 2000.
لكن تلك الزيادة الحتمية في المستقبل القريب تثير مخاوف دانييل بلومستاين، عالِم البيئة بجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس الذي شارك في تأليف ورقة بحثية في 2021 عن تجنب "مستقبل مخيف". ساهم الزوجان إرليخ، وباحثون آخرون، في كتابة تلك الورقة البحثية. قال بلومستاين إن تعداد السكان وأنماط الاستهلاك متداخلان، ومعاً يتسببان في مشاكل بيئية متعددة بعضها لا تمكن إزالته.
أشار بلومستاين إلى أن الابتكارات في مجال الزراعة، التي لم يأخذها مالتوس والزوجان إرليخ في الاعتبار، سمحت بزيادة سكانية بما يفوق موضعنا في المنظومة البيئية بكثير، كما كانت لها عواقب غير مقصودة. على سبيل المثال، تقتل مبيدات الآفات النحل الذي يلعب دوراً مهماً في تلقيح المحاصيل.
تنطوي الصورة الأشمل على أن تراكم مخلفات النشاط البشري، خصوصاً ثاني أكسيد الكربون، إلى جانب تدمير البيئة الطبيعية للنباتات والحيوانات البرية، يهدد البشر الآن أكثر من نقص إمداد الغذاء على مستوى العالم. تساهم هذه التغيرات في إثارة مخاوف لها مبرراتها حول ظهور مهاجرين بسبب المناخ.
دواعٍ للقلق
هناك أيضاً دواعٍ حقيقية للقلق بشأن كيفية تأقلم المجتمع مع شيخوخة أفراده، إذ أن نسبة كبار السن بين السكان في دول عدة كبيرة وتتنامى. قال نيكولاس إيبرستات، الاقتصادي وخبير علم السكان في معهد "أميركان إنتربرايز" (American Enterprise Institute)، إن أغلب سكان دول العالم يتكاثرون دون مستوى الإحلال، باستثناء الشرق الأوسط ودول أفريقيا الواقعة جنوب الصحراء الكبرى. بل أن التعداد السكاني الهائل في الصين بدأ ينكمش، كما تراجع معدل الخصوبة في الهند إلى ما دون معدل الإحلال.
اختيار الناس تكوين أسر أصغر من ذي قبل ليس من باب الأنانية. غرس التطور الدارويني فينا بقوة الرغبة بالإنجاب، أو في التزاوج على الأقل، لكن النساء لديهن أيضاً غريزة الحد من الإنجاب ليقتصر على عدد أطفال تمكن تنشئتهم بفرص عالية للنجاح في الحياة. حين تنجب النساء أعداداً كبيرة من الأطفال، يكون ذلك عادةً نتيجة ارتفاع معدل وفيات الأطفال أو عدم امتلاك النساء للأدوات التي تسمح لهن بإدارة شؤونهن في الحياة.
يغفل هؤلاء الذين يحذرون من أن تراجع تعداد السكان قد يقلص القدرات الجمعية للعقول ويضر بالاقتصاد أن هنالك حلاً أفضل من التكاثر، وهو تقديم رعاية أفضل للأطفال الذين ننجبهم.
قال كوهين إن نحو 22% من الأطفال دون سن الخامسة يعانون اليوم من قِصر القامة أكثر مما ينبغي بالنسبة لأعمارهم، وذلك لأنهم لا يحصلون على ما يكفي من العناصر الغذائية المطلوبة للنمو، ولأن الديدان والالتهابات تتنافس للحصول على الغذاء غير الكافي الذي يتناولونه. يمكن لتأثير ذلك أن يمتد للجسم وللدماغ أيضاً. يساور القلق إيبرستات بشأن عدم التوافق مستقبلاً بين الوظائف التي تتطلب مهارات وسكان بتعليم قاصر.
رعاية الجيل المقبل هو المنطق الذي يطبقه الآباء حول العالم في أسرهم. ورغم أنه لن يحل جميع مشاكلنا البيئية والاقتصادية، إلا أنه على الأقل نقطة بداية.