انتهى الاتحاد السوفييتي رسمياً قبل 30 عاماً. إذا كان على المرء أن يختار تاريخاً محدداً فسيكون التاريخ هو 25 ديسمبر 1991، عندما أُنزل العلم السوفييتي من سطح قصر مجلس شيوخ الكرملين، وجرى تسليم الزرّ النووي من الرئيس السوفييتي الأخير ميخائيل غورباتشوف إلى أول رئيس روسي، بوريس يلتسين.
لكن الاتحاد السوفييتي لم ينتهِ فعلاً. إنه جثة لم تُدفَن، مثل جثة مؤسِّسه فلاديمير لينين المحنطة التي لا تزال معروضة من الساعة 10 صباحاً حتى 1 ظهراً بالساحة الحمراء في ضريح مصنوع من الغرانيت. لا تزال رائحتها النتنة تمتدّ في عديد من أركان العالم، ليس فقط في روسيا بوتين، الذي يُعتبر خليفته الروحي، على الرغم من نفيه ذلك.
كوني صاحب خبرة، بحكم طفولتي السوفييتية وفترة بلوغي اللتين شكلتا الشخص الذي هو ما أنا عليه الآن، ورغم أننا في عام 2021، فيجب أن أعترف أنني ما زلت من نواحٍ كثيرة جزءاً من "مجتمع تاريخي جديد.. الشعب السوفييتي"، وهي مقولة أطلقها بفخر الرئيس السوفييتي الأسبق ليونيد بريجنيف في عام 1971، في العام الذي وُلدت فيه.
في فيلم وثائقي دعائي صدر حديثاً يهدف إلى تقديم وجهة النظر الرسمية لتاريخ روسيا ما بعد الاتحاد السوفييتي، قال بوتين إنّ تفكك الاتحاد السوفييتي كان "تفككاً لروسيا التاريخية تحت اسم الاتحاد السوفييتي". مثل عديد من غزوات بوتين الخاطفة على التاريخ، فإن هذا التصريح يقع في مكان ما بين الأمر المُحزِن والأمر المشكوك فيه.
تذبذبت حدود "روسيا التاريخية" عبر العصور عندما استولت على الأراضي وتنازلت عنها في حروب وصفقات مستمرة. ليس من الواضح عند أي نقطة يمكن اعتبار الإمبراطورية، أو حتى جوهر الدولة القومية، كاملةً أو متوازنةً على النحو الأمثل. مع تفكك الاتحاد السوفييتي خسرت روسيا بعض الأراضي التي حصلت عليها في القرن الثامن عشر والتاسع عشر والعشرين، لكنها احتفظت بعديد من استحواذاتها الحديثة.. أجزاء من كاريليا التي تنازلت عنها فنلندا في عام 1940، و بروسيا الشرقية السابقة، وجزر سخالين، والكوريل، التي اكتسبتها في الحرب العالمية الثانية، وجمهورية توفا الشاسعة في جنوب سيبيريا، التي انضمت طوعاً في عام 1944.
بوتين والغرب
غالباً ما ينظر بوتين مثل خصومه الغربيين إلى الاتحاد السوفييتي من منظار الأراضي، والمنافسات الجيوسياسية، وبناء الإمبراطورية، والضغائن التاريخية الزائفة. إنّ مجال تشويه الواقع قوي للغاية لدرجة أن بعض كبار المسؤولين الأمريكيين يواصلون الإشارة إلى روسيا باسم "الاتحاد السوفييتي" أو "الجيش الأحمر"، كما لو أن الحرب الباردة الأولى لم تنتهِ قَط، وتحولت بسلاسة إلى الحرب الثانية مع نفس اللاعبين القدامى.
بهذا المعنى الضيق لا يزال الاتحاد السوفييتي بالطبع موجوداً، خصوصاً في رغبة بوتين في إعادة توحيد روسيا وبيلاروسيا وأوكرانيا (على الرغم من أن ذلك إلى حد لافت لا ينطبق على الجمهوريات المسلمة في آسيا الوسطى، التي توفر معظم العمالة المهاجرة لروسيا اليوم)، التي تواجهها ردود فعل متوقعة من المسؤولين الغربيين على تحركات بوتين في هذا الاتجاه.
ومع ذلك فإن هذه ليست القصة الكاملة إطلاقاً، بل إنني أزعم أنها القصة الخاطئة، لأن مفهوم بوتين لـ"روسيا التاريخية" يرتكز على أسس أكثر هشاشة مما ارتكز عليه الاتحاد السوفييتي، في الوقت الذي نفد فيه من أي شيء تقريباً يحتاج إليه للبقاء حياً. كان بريجنيف على حق، لقد كُنّا نوعاً جديداً من الناس.
كان الاتحاد السوفييتي في بعض الأحيان جشعاً من ناحية الأراضي وفخوراً بشكل سيئ بالتراث الإمبراطوري الروسي -من نواحٍ كثيرة مثل الولايات المتحدة- باعتباره أمة مبنية على فكرة، و في حالته الفكرة يسارية تدعو إلى العدالة.
نظرة الشباب
ماذا حدث لهذه الفكرة على أيدي ثلاثة أجيال من قادة الحزب الشيوعي الذين كان لديهم القدرة على تطبيقها وبلد واسع لتجربتها به؟ السبب في أن دول ما بعد الاتحاد السوفييتي -نعم حتى المثال الناجح إستونيا- لا تزال توصف بشكل روتيني بأنها دولة ما بعد الاتحاد السوفييتي.
إنها تجربة العيش المشترك تحت سقوف منخفضة في أبنية الأسمنت القبيحة لدرجة لا توصف، رياض الأطفال والمدارس التي أُعدت وكأنها تشبه السجن مثلها مثل المصنع أو معهد الأبحاث النائم، إذ تظاهر آباؤنا بالعمل مقابل أجر وهمي، الأفلام الصحيحة أيديولوجياً التي شاهدها الجميع في إعادة عرض لا نهاية له، الطوابير العقابية لكل ما يمكن شراؤه، والسعي الذي لا ينتهي لما لا يمكن للمرء أن يشتريه، الخضوع يوماً بعد يوم لمدة طويلة، والتنازل والتحدي السرّي.
نحن أناس ما بعد الاتحاد السوفييتي لا يزال بإمكاننا رؤية كل ذلك في أعين بعضنا بعضاً. هذا هو الشيء الغريب، كثير منا يتذكر ذلك بنوع من الضباب الوردي. في الواقع، كان كل شيء لطيفاً جداً، أو على الأقل هكذا سمعت من بعض الزملاء والشباب على حد سواء.
أظهر استطلاع عام 2020 أجراه مركز "ليفادا"، أحد منظمي استطلاعات الرأي القلائل الجديين في روسيا، أن 75% من الروس يعتبرون الفترة السوفييتية هي الأفضل في تاريخ الأمة، فيما أشار 1% فقط إلى الحقبة السوفييتية على أنها في المقام الأول فترة ركود وقمع وستار حديدي. ومع ذلك، كانت هذه التجارب المنسية ظاهرياً هي الأكثر تكويناً لشخصية ما بعد الاتحاد السوفييتي.
قبل بضع سنوات، أثبت عالم الاقتصاد السلوكي دان آريلي من خلال العمل مع أشخاص من ألمانيا الشرقية والغربية السابقة أن الشرقيين كانوا أكثر عرضة لارتكاب الغش في تجربة (تسجيل لفات النرد مقابل مكافأة اعتماداً على الحصيلة النهائية). في الموجة الأخيرة من استطلاع "رابطة مسح القيم العالمية"، تَوافَق فقط 11.4% فقط من الروس مع الرأي القائل بأن "معظم الناس يمكن الوثوق بهم"، مقارنة بـ37% من الأمريكيين و46.7% من الكنديين.
النمط القديم
هذا النمط هو ما كان يُقصَد به، منذ زمن طويل، أن يكون مجتمعاً عادلاً يولّد "مجتمعاً تاريخياً جديداً" من الناس المقتنعين بأن الحياة غير عادلة في الأساس، لا يمكنك الاعتماد إلا على نفسك، وأن الجميع موجودين للنيل منك، لا سيما من هم في مناصب السلطة.
هناك كثير من الأسباب الموضوعية لعدم نمو اقتصادات دول ما بعد الاتحاد السوفييتي بقدر الاقتصادات الغربية، غير أنها بدأت بقاعدة منخفضة، ولم تُقارَن حتى بالشروط الأكثر سخاءً وتُعدَّل على أساس تكافؤ القدرة الشرائية، لكن عقلية ما بعد الاتحاد السوفييتي لا يمكنها إلا أن تكافئ عدداً قليلاً نسبياً من الفائزين على حساب كل الآخرين.
قد تدفعنا دعاية نظام بوتين إلى الاعتقاد بأن السنوات الصعبة التي مرت بها فترة ما بعد الانفصال الفوضوية هي التي جعلتنا هكذا، متعطشين لغريزة البقاء. الآن بعد أن نهضت روسيا من كبوتها، يجب أن نعود إلى طبيعتنا، ولو شعرنا ببعض الجروح.
من وجهة نظر النظام قد يكون هذا صحيحاً. يبدو أن معظم السكان الروس الحاليين قد استقروا مرة أخرى في الروتين السوفييتي المعتاد "الطاعة والتذمر"، وروتين إغماض العين لرؤية الجانب المشرق. في معظم بلدان ما بعد الاتحاد السوفييتي الأخرى، استمرّ هذا الروتين ببساطة دون انقطاع.
إنه ليس شكلاً جديداً من أشكال القمع، على الرغم من التقدم التكنولوجي، بل هو لا يزال الحذر والرقابة الذاتية على النمط السوفييتي القديم: راقب خطواتك أو ستجد نفسك منبوذاً محروماً من أي حقوق ولا تستحق أن تحلّ عليك الرحمة، أو تصبح محروماً من ممتلكاتك أو محجوباً عن مصادر الدخل.
السوفييت المهاجرون
أعتقد الآن أن كثيرين منّا لم يصدقوا قَط أن أي شيء يمكن أن يتغير، خصوصاً للأفضل. هذا هو السبب في أن محاولاتنا الأخيرة للاحتجاج، منذ تمرد "ليس لدينا أي شيء نخسره" اليائس في عامي 1990 و1991، كانت فاترة للغاية، وغير حاسمة للغاية في روسيا وبيلاروسيا، وغير فعالة بشكل مخيب للآمال على المدى المتوسط في أماكن أخرى، على سبيل المثال في أوكرانيا وجورجيا وقيرغيزستان، إذ قُضيَ على الحكومات الفاشلة ليحل محلها، في أحسن الأحوال، حكومات أفضل بشكل هامشي.
هاجر عدد ضئيل منّا نحن أشخاص ما بعد الاتحاد السوفييتي بسبب عدم الرضا.
بين عامَي 1992 و2016، وفقاً لأحد التقديرات الرسمية، غادر نحو 8.5 مليون شخص، أو 3% من سكان الاتحاد السوفييتي وفقاً لتعداد عام 1989، إلى الأبد، وجلبوا إلى بلدانهم الجديدة تجربة الاشتراكية العملية ورأسمالية الغاب من حقبة ما بعد الشيوعية، وعزمهم على عدم الاضطرار إلى التعامل مع أي شيء كهذا مرة أخرى. ملايين آخرين غادروا مؤقتاً، أو على الأقل اعتقدنا ذلك. كنت أنا وزوجتي نعتبر أنفسنا مغتربين منذ سبع سنوات، ولكن مع مرور كل عام تقل احتمالية عودتنا.
كانت موجة الهجرة كبيرة بما يكفي لجعل صوت اللغة الروسية شائعاً في كل مكان يذهب إليه المرء. بالنسبة إلى الجزء الأكبر، خصوصاً في هذه الأوقات الوبائية، ليس السياح هم الذين تسمعهم وهم يتحدثون باللغة السوفييتية المشتركة.
نحن أناس ما بعد الاتحاد السوفييتي أصبحنا مواطني العالم الآن، بمهاراتنا في البقاء ورؤيتنا العالمية غير العصرية في كثير من الأحيان. لقد أحضرنا الاتحاد السوفييتي معنا، مكروهاً أو محبوباً، حسب الحالة. نحن لا نعيش في ما تبقى منه، لكنه يعيش فينا، في الرسوم المتحركة التي نعرضها لأطفالنا، والموسيقى التي نستمع إليها، والكتب التي نقتبس منها، والأحكام المسبقة التي نحملها. وبالطبع في عيوننا. إذا لم تكن واحداً منّا فيمكن أن تعتبر أنك شخص يجب الاحتراس منه بشكل دائم.
ومع ذلك، لا التوسع العالمي لشتات سكان دول ما بعد الاتحاد السوفييتي، ولا فشل معظم هذه الدول في أن تصبح حرة أو تظل حرة، هو السبب الحقيقي وراء بقاء الاتحاد السوفييتي غير مدفون بعد 30 عاماً من زواله.
عودة اليسار
كل جيل من دول ما بعد الاتحاد السوفييتي يأتي الآن وهو أقل سوفييتية من سابقه. وفقاً لاستطلاع "ليفادا" الذي نقلته أعلاه فإن 82% من الروس الذين تزيد أعمارهم على 55 عاماً يأسفون للانهيار السوفييتي، لكن 33% فقط ممن تتراوح أعمارهم بين 18 و24 عاماً يظنون الشيء نفسه. في تجربة عالم الاقتصاد السلوكي دان آريلي، كلما كانت التجربة أقل "اشتراكية" للفرد، انخفض ميله إلى الغش. حتى الجيل الذي نشأ في ظل الأنظمة الاستبدادية ما بعد السوفييتية، من غير المرجح أن يتأثر بالضيق السوفييتي كما نتأثر به نحن، أو على الأقل يأمل المرء أن تكون هذه هي الحال.
بشكل مثير للدهشة، يستمر الاتحاد السوفييتي في إعادة بعث الأفكار اليسارية، وشعبية مشاريع تصحيح الظلم من الأعلى إلى الأسفل، والدول الحاضنة الموزعة الأموال، وحملات التشهير على الشبكات الاجتماعية المصممة لإسكات الناس وإجبارهم على الامتثال خوفاً.
أشاهد هذا برهبة كبيرة، حتى هنا في برلين، المدينة التي يعتقد المرء أنها ستكون محصنة إلى الأبد ضد اليسارية بواسطة الندبة التي تمتد على طول الجدار السابق. عليك إعادة النظر، فالائتلاف الحاكم في المدينة، الذي فرض سقفاً على الإيجارات ومنح المسؤولين سلطة إعادة ضبطها، تلك التي ألغتها المحاكم، نجا للتو من الانتخابات، ومن المرجح أن يحاول المضي قدماً بهذا المخطط الطائش مرة أخرى.
أشاهد مقاطع فيديو ملونة ونارية للنائبة الأمريكية ألكساندريا أوكاسيو- كورتيز، أو السياسي الفرنسي جان لوك ميلونشون، وأعيش من جديد الملل اليائس لمؤتمرات الحزب الشيوعي الذي عشته مشاهداً تليفزيوني القديم بالأبيض والأسود.
محاولة أخرى
قرأت توماس بيكيتي بالفرنسية، لكن الأسطر تحولت إلى الترجمة الروسية المبتذلة لكتابات ماركس وإنغلز التي كان عليّ ذات مرة أن أتأملها. الأفكار التي تأتي بها بناتي من المدرسة في برلين كانت ستجعل أساتذتي، وجميعهم أعضاء في الحزب الشيوعي السوفييتي، فخورين.
ما أخشاه هو أنه حتى مع اختفاء التجربة الحية للاشتراكية السوفييتية من الذاكرة بسبب تغير الأجيال، فإن هذه الأجيال غير السوفييتية ستميل إلى المحاولة مرة أخرى. لا تكمن القوة الدائمة للاتحاد السوفييتي في ضغينة "بوتين" ما بعد الإمبريالية، بل إنها تعتمد على الجاذبية المستمرة للنظريات التي طبقتها، ثم تلاشت وتحولت حتماً إلى سخريات شريرة من نفسها.
كلما مُحيَت ممارسات الاتحاد السوفييتي من الذاكرة، زادت احتمالية تكرار التاريخ نفسه عبر إعادة تمثيل رواية "مزرعة الحيوانات" التي لا مفر منها. عندما يحدث ذلك، قد ينهض فلاديمير إيليتش أوليانوف لينين من صندوقه الزجاجي المضاد للرصاص ويمشي مرة أخرى وهو زومبي محنط جيداً يحمل فيروساً لم يمُت بعد.