منذ أن ترك منصبه في "أمازون"، أصبح جيف بيزوس آخر ملياردير يتجه إلى الفضاء. في هذه الأثناء يتطلع مارك زوكربيرغ، رئيس "فيسبوك"، للحياة في الأكوان الافتراضية (metaverse). لكن لا تتوقع أن ترى وارن بافيت يستقل سفينة فضائية في عيد ميلاده الحادي والتسعين خلال الشهر القادم، أو متحدثاً عن الأبعاد الافتراضية في تقرير نتائج أعمال "بيركشاير هاثاواي".
بخلاف بعض أقرانه شديدي الثراء، مازال بافيت يفضل الأنشطة الاقتصادية العملية والتقليدية المرتبطة بكوكب الأرض، مثل أن يستمر الناس في إضاءة منازلهم وتسليم السلع عبر قطارات نقل البضائع. وتسببت تلك العقلية القديمة الطراز في عدم الارتفاع الصاروخي في القيمة السوقية لـ"بيركشاير هاثاواي" مثل ما حدث مع شركتي "أمازون" و"فيسبوك"، حتى رغم تعادل الأرباح التشغيلية إلى حد كبير. ومع مراكمة بافيت أكثر من مائة مليار دولار من السيولة النقدية في "بيركشاير هاثاواي" خلال الأعوام القليلة الماضية، يسود الاعتقاد بأن أيقونة الاستثمار الشهير فقد بصمته في اقتصاد تقوده التكنولوجيا، ويبدو أنه مليء بالفرص الاستثمارية.
سيولة متراكمة
رغم أن السيولة النقدية المتراكمة تلك تعرض بافيت للانتقاد، فقد وضعته فعلاً بين صحبة طيبة. فتتربع كل من "أمازون"، التي يقودها الآن الرئيس التنفيذي أندي جاسي، و"فيسبوك" بقيادة زوكربيرغ، فوق أكوام من السيولة النقدية أيضاً، وكذلك تيم كوك في شركة "أبل"، وساندر بتشاي في شركة "ألفابيت" المالكة لمحرك البحث "غوغل"، وساتيا ناديلا، الرئيس التنفيذي لشركة "مايكروسوفت". فضلاً عن شركة "بيركشاير"، هذه هي أكثر الشركات في أمريكا ثراء بالسيولة النقدية وأعلاها قيمة.
كانت ميزانية بيركشاير ذات يوم ملعباً بالنسبة لبافيت ومتابعيه، الذين كانوا يقومون بدراسة نص وسياق خطابه السنوي لالتقاط أي إشارة عن عملية الاستحواذ الكبيرة التالية التي سيقوم بها. مؤخراً، رغم ذلك، توقف متابعوه عن التخمين حيث يبدو أن بافيت أصبح يعتقد أن أي شيء يستحق الشراء الآن إما أن ثمنه مرتفع جداً أو مخاطرة عالية. (ما يزيد الأمر سوءاً أن أحدث عملية استحواذ كبيرة قام بها، وهي الصفقة التي بلغت قيمتها 37 مليار دولار لشراء شركة "بيريسيجن كاستبارتس" منذ خمسة أعوام، انتهت إلى تخفيض في قيمة الأصول). بدون الصفقات المتناثرة التي كان المستثمرون يتوقعونها من بافيت، لم يعد لديهم ما يثير الاهتمام، بصرف النظر عن كم الأموال التي تربحها بركشاير.
مع إعلان الشركة عن نتائج الأعمال الفصلية التي لا تتلقى استقبالاً حماسياً، يمكن أن يكون ذلك بمثابة تحذير للحالمين في قطاع التكنولوجيا: هناك عيب خطير في تشجيع رؤساء الشركات بتكوين حلقة من المريدين ينبهرون بعبقريتهم الاستثمارية في أن ذلك قد يلفت الانتباه بعيدا عن ربحية الشركة وقدرتها على الاستمرار. كان بافيت يزهو في دائرة الضوء التي تحيط بشخصه على مدى خمسة عقود كان يبني خلالها شركة بيركشاير، كما فعل بيزوس عندما كان رئيساً لـ"أمازون"، وكما يفعل إيلون ماسك، رئيس شركة "تسلا" الآن. لكن شباب المستثمرين ليسوا مفتتنين ببافيت ولا عبقريته الاستثمارية، وقد أثر ذلك سلباً على أسعار أسهم "بيركشاير".
أوجه التصرف
ما لا يعرفونه أن بافيت بنى تلك المجموعة المدهشة من المحركات التي تتناوب على دفع عجلته للأمام واحداً بعد الآخر. وشركته ربما تكون الشركة الوحيدة التي تعمل بالضبط وفق لخطة محددة سلفاً. وخاصة في الوقت الحالي، يمكن أن تقدم نتائج أعمال هذه الشركة عرضاً مصوراً لاقتصاد الولايات المتحدة وقيام كل صناعة وكل ولاية بإيجاد سبيلها للخروج من تأثير الجائحة.
ومع ذلك، في كل فصل عند الإعلان عن نتائج الأعمال يسيطر هاجس السيولة على المستثمرين، والتي بلغت عند "بيركشاير" 145 مليار دولار في نهاية مارس الماضي. الطريقة الوحيدة التي يبدو أن بافيت ينفق بها هذه الأموال في الوقت الحاضر هي إعادة شراء أسهم شركته لأن "بيركشاير" كانت بائعاً صافياً للأسهم ومتابعاً لعمليات الدمج والاستحواذ معظم الوقت في السنة الماضية. خلال وقت متأخر من الشهر الجاري، سوف نعلم إذا كان استحوذ على حصص في شركات أم لا خلال هذه الفترة وما هي تلك الشركات. (جدير بالملاحظة أن أسهم التكنولوجيا تمثل جزءاً من محفظة بافيت الآن، بما فيها حصة كبيرة في شركة "أبل").
إن دوافع بافيت لعدم إنفاق السيولة النقدية لدى بيركشاير تختلف تماماً عن تلك التي ربما تقيد مجموعة كوك وزوكربيرغ، وهما طاقم أقل حساسية للتغيرات السعرية. أي عمليات استحواذ كبيرة حالياً محظورة على الأقل مؤقتاً، لأن الجهات الرقابية لمنع الاحتكار في إدارة بايدن، وأعداد متزايدة من أعضاء الكونغرس حذروا من ذلك قائلين: "لا تفعل!". إن سخونة الجهات الرقابية والإشرافية ليست كلها موجهة إلى شركات التكنولوجيا – فقد أحرقت مؤخراً واحدة من صفقات بيركشاير أيضاً. ولكن واضح من الذي يستهدفه المسئولون الحكوميون بشكل أساسي.
يترك ذلك كل شخص آخر في حيرة بشأن ما ستفعله شركات التكنولوجيا الكبيرة على الأرض – أو ورائها – بكل هذه السيولة النقدية. ولا يوجد من يخشى الإجابة على هذا السؤال أكثر من الشركات التي تعمل في صناعات مرتبطة مثل مقدمي خدمات الانترنت، وخدمات بث الفيديو وحتى الشركات العاملة في قطاع الرعاية الصحية. في ضوء ذلك، ومع القدرة المحدودة على الاستحواذ على شركات مبتدئة جاذبة وتحييد مخاطر المنافسة، فإن شركات التكنولوجيا الكبيرة سترى كيف سيكون أداؤها وسط قاعدة من المستثمرين دفعتهم هي ألا يشغلهم شيء إلا نمو الإيرادات. بدأت أسهم "أمازون" فعلاً في التراجع من عليائها مع صراع جاسي ضد تباطؤ مبيعات التجارة الإلكترونية وتصاعد المنافسة في الخدمات السحابية. كما بدا إعلان نتائج أعمال "أبل" في الأسبوع الماضي فاتراً بسبب تردي سلسلة الإمداد الذي يؤثر سلباً على منتجاتها من آيفون وآيباد.
تستطيع هذه الشركات على الأقل ضخ أموال في إجراء البحوث وتطوير منتجات جديدة التي قد تمنحها دفعة قوية عندما تصبح قاطرتها التالية. وهذا أمر لا تستطيع "بيركشاير" القيام به. لكن يتمتع بافيت فعلاً بميزة الذاكرة البعيدة التي يجدر برؤساء شركات ناجحين مثل زوركربيرغ أن يقوموا بدراستها. خلال انعقاد الجمعية العمومية لشركة "بيركشاير" في مايو الماضي – التي تحولت بسبب كوفيد-19 من مهرجان احتفالي إلى لقاء عبر شبكة الانترنت – بدأ بافيت باستعراض قائمة أعلى 20 شركة من حيث القيمة في العالم عام 1989. ولا واحدة منها مازالت تحتفظ بمكانتها في 2021. وقال بافيت لمشاهديه "إن عام 1989 لم يكن في العصور المظلمة، وكنا نثق في أنفسنا كمستثمرين في عام 1989 بنفس مقدار ثقتنا اليوم. لكن العالم قد يتغير بطريقة دراماتيكية جداً".
قد يكون هذا أحد دروس بافيت الذي سيبقى في الذاكرة أكثر من غيره. حتى ونحن نشهد شركات التكنولوجيا واحدة بعد الأخرى تنضم إلى نادي رؤوس الأموال السوقية ذات التريليون أو تريليوني دولار خلال فترة الجائحة، فإن كلها تشترك مع بافيت في أمر واحد: أن لديها سيولة هائلة أكبر من أن تعلم ماذا ستفعل بها. وهي مشكلة من الجيد أن تعاني منها حتى لا تصبح كذلك.