تتوالى أخبار استقالة المواهب المصرفية الشابة من البنوك الاستثمارية، رغم تدافع الشركات لتقديم الحوافز للحفاظ عليهم، حيث يبدو أن جيل الألفية رافض لثقافة عمل المحللين المرهقة، وأنه غير مستعد لإجهاد نفسه، في الوقت الذي منحته ظروف الجائحة فرصة للتأمل.
لقد ولت أيام كانت فيها الحياة المهنية الطويلة والمربحة في قطاع التمويل - والعائد الاجتماعي الذي يأتي معها - جذابة.
نموذج مختلف
لكن السبب الحقيقي وراء عدم رغبة العمل في البنوك ليس فقط العمل الشاق، أوصحوة الأجيال، حيث يرجع الأمر إلى تغير طبيعة عمل البنوك نفسها، بعدما أصبح نموذج العمل المصرفي مختلفاً عما كان عليه قبل ذلك.
ظلت مصادر إيرادات الخدمات المصرفية الاستثمارية ثابتة لسنوات، وكانت طبيعة عمل المصرفيين تقليدية تحتكم لقواعد قديمة.
ورغم تصاعد فكرة اندماج الشركات التي لم تلقَ اهتماماً في البداية، ومرّ عليها عام تلو الأخر، انتهى الأمر بالعديد من هذه الشركات بالاندماج، بعد ما يقرب من عقد من الزمان على طرح هذه الأفكار لأول مرة.
لذا فالأجيال الجديدة المتحمسة، ترى أنها بعيدة كل البعد عن عملية إبرام الصفقات الإبداعية السريعة التي رسموها في مخيلتهم.
صحيح أن التداول المحموم خلال العام الماضي، أدى إلى تحقيق البنوك الاستثمارية أرباح ضخمة، إضافة إلى الرسوم المحققة من الأعداد الكبيرة من الصفقات، ولكن رغم التقدم في رقمنة التمويل والتكنولوجيا المالية، لم يساهم تفوق الأعمال المصرفية إلا بنسبة بسيطة في صناعة السوق والوساطة المالية، حيث يبقى قطاع السمسرة والتداولات في حالة ركود هيكلي.
تراجع الابتكار
ففي كل مرة كانت هناك فرصة لإعادة اكتشاف حلول جديدة لاستخدام الأموال أو جمعها - أو تطور صناعة ما - أعقب الازدهار انهيار مذهل. فنتذكر الضجة التي أحدثتها مشتقات الأسهم أعقبها فقاعة الدوت كوم. وكذلك فورة النشاط في منتجات الائتمان المعاد هيكلتها والتي انتهت بالأزمة المالية العالمية.
ويعقب كل أزمة تشديد اللوائح التي تقضي على الابتكار المالي، وروح المخاطرة والنمو الذي يجعل العمل مثيراً لخريجي المدارس العليا. فأنشطة الأعمال التي تسمح للأموال بتقديم منتجات جديدة مثل تداول الملكية وإقراض الميزانية العمومية عادت مرة أخرى لاستخدام نماذج قديمة.
كان العديد من هذه التغييرات مهمة وضرورية لاستقرار أوسع للنظام المالي، ومع ذلك، لابد أن ندرك كيف غيرت الجهات التنظيمية وقواعدها طبيعة العمل المصرفي في حقبة ما بعد الأزمة، وطبيعة الموظفين الذين يمكن أن تجتذبهم الصناعة حالياً. فقد أصبحت الشركات تركز بشكل أكبر على دفع أجور مرتفعة لوظائف الامتثال نتيجة التكلفة المرتبطة بها.
الاعتماد أكثر على الأتمتة
أدت هذه الآفاق القاتمة للتطور إلى التوجه عادة للبحث عن العمل بأماكن أخرى، بعد قضاء عام أو عامين في أحد البنوك الرئيسية.
فإذا سألت أحد المحللين في أولى سنوات عمله عن سبب سعيه لاكتساب مهارات تعلم نماذج العمل من خلال "الإكسيل" و"باوربوينت"، سيخبرك أنه يسعى للانتقال إلى العمل كمدير أصول لتحقيق توازن أفضل بين العمل والحياة من خلال الأجر الأعلى.
كتب محللو "جيه بي مورغان" مؤخراً، أن زيادة التنظيم قد أدت إلى مزيد من الأتمتة ونتج عن ذلك "تراجع أهمية العامل البشري عكس عالم الصناعات المالية التي تصمم منتجاتها وفق الطلب"، في إشارة إلى منتجات فقاعة الدوت كوم وأزمة عام 2008. فقد لاحظ المحللون أن البنوك أصبحت أشبه بالآلات "مع اعتماد أقل على رأس المال البشري".
مؤسسات أكثر جاذبية
بالنسبة لأولئك الذين يرغبون في البقاء في مجال التمويل، أصبحت المؤسسات المالية غير المصرفية وشركات الأسهم النامية، وغيرها من شركات الخدمات المالية الأصغر، خيارات أفضل لأن أصحاب العمل هناك يمكنهم أن يوفروا للموظفين الشباب فرصة لتعلم كيفية المخاطرة، ولو جزئياً لأنهم أقل عرضة للإطار التنظيمي وأكثر مرونة.
يشبه الأمر ما يحدث مع خريجي العلوم والهندسة الذين تم استقطابهم في السابق للعمل في هيكلة وبناء نماذج تجارية صخمة، حيث أصبحوا يفضلون في الوقت الحالي الذهاب إلى شركات ناشئة مثل "سبيس إكس"، أو العمل على تكنولوجيا البطاريات في شركات السيارات الكهربائية الناشئة مثل "ريفيان أتوموتيف".
يعرب المحللون منذ أكثر من عقد من الزمان عن معاناتهم بعبارات تنتقد الذات مثل، "نتقاضى رواتبنا على أساس كل ساعة، مثل موظف ماكدونالدز". لكنهم كانوا يفخرون سراً بالأيام التي يعملون فيها لعشرين ساعة يومياً، وما يحصلون عليه من أجور مرتفعة.
ولكن الجيل الجديد لم يعد يتفاخر بذلك خاصة عندما لا يكون هناك هدف نهائي حقيقي في الأفق. لذا فلن يستمر في العمل وسط هذا الإحباط لعقود أخرى.
ديناصورات الصناعة
لكن الذين استمروا في هذا النموذج من العمل لقوا نوعاً من العذاب، فكنت أتحدث مؤخراً إلى صديق يعمل مصرفي، بدأ حياته المهنية معي منذ ما يقرب من 15 عاماً، وبعد ليالٍ بلا نوم قضيناها في المكتب، وكانت لدينا محادثات وجودية في "ستاربكس" في "بارك أفينيو". مكث هو في مجاله لفترة طويلة بعد أن قررت أنا المغادرة.
حالياً هو مدير عام، ويشاهد هؤلاء المصرفيون الذين بالنسبة له أطفال، وهم يأتون ويذهبون ويغدقون عليهم الأموال.
مثل الكثير من المناقشات التي نجريها في كل مرة، فهو أقل حماساً للانتقال من عمله حالياً. فلا يزال هؤلاء الديناصورات في الصناعة ومن حولهم يتنقلون عبر الشركات، مما يحد من التطوير. فهو يتساءل إلى أين يذهب من هنا ولديه التزامات أسرية.
كان رئيسه موجوداً منذ 20 عاماً، وبينما كان قادراً على الخروج من تحته لفترة من الوقت وتجربة أشياء جديدة، فإنه لايزال يعمل في ظله.
لا شك أن البنوك بحاجة إلى التنظيم، ولكنها يجب ألا تتراجع عن بعض الأعمال التي تحمل مخاطرة. ولكن مع وضع ذلك في الاعتبار، يجب أن يفكر القطاع المصرفي في نوعية المرشحين الذين يحاولون توظيفهم.
في النهاية يجب أن تكون هذه الجولة من فرار المواهب جرس إنذار في حقبة ما بعد الوباء، لأن الحفاظ على الموظفين الشباب سيعتمد على شيء وجودي أكثر من المال والامتيازات.