تمرّ البنوك الإقليمية الأمريكية بلحظة مميزة نوعاً مان فقد عزّز مؤشر "كيه بي دبليو" (KBW) الإقليمي للبنوك صعوده الحادّ إلى مستوى قياسي بعد أن وافق بنك "إم آند تي" (.M&T Bank Corp)، الأسبوع الماضي، على شراء "بيبولز يونايتد فاينانشيالز" (.People’s United Financial Inc) في صفقة بقيمة 7.6 مليار دولار لجميع الأسهم.
وتأتي تلك الصفقة في أعقاب إبرام صفقات أخرى خلال الأشهر الأخيرة، مثل شراء شركة "هنتنغتون بانكشيرز" (.Huntington Bancshares Inc) شركة "تي سي إف فاينانشيال كورب" (.TCF Financial Corp) مقابل نحو 6 مليارات دولار، واستحواذ "بي إن سي فاينانشيال سيرفيسيز غروب" (.PNC Financial Services Group Inc) على العمليات المصرفية الأمريكية لشركة "بانكو بيلباو فيزكايا أرجنتاريا (Banco Bilbao Vizcaya Argentaria SA) مقابل 11.6 مليار دولار.
ويدرس أيضاً بنك تكساس الإقليمي "كايدنس بانكورب" (Cadence Bancorp) صفقة لبيعه.
وإجمالاً، ارتفع مؤشر البنوك الإقليمية بنسبة 27% هذا العام، متجاوزاً ارتفاع مؤشر "كيه بي دبليو" (KBW) بنسبة 19.7%، الذي يتضمن قطاعاً عريضاً من كبرى المؤسسات المالية مثل "جي بي مورغان" و"بنك اوف أميركا" و"سيتي غروب".
ضرورة للبقاء
وفي حين أنه قد يبدو من المطمئن أن البنوك الأصغر قد حققت عودة أقوى منذ أن تسبب الوباء في اضطراب الأسواق العالمية، فإنه لم يتضح بعد ما إذا كان الأمر يستحق تلك الضجة. بالتأكيد الإدماج ضروري للبقاء، أو "النظام المصرفي الدارويني في العمل"، على حد تعبير مايك مايو، المحلل في "ويلز فارجو (.Wells Fargo & Co). لكن هل تستحق احتمالية بقاء البنوك الإقليمية هذه القفزة الحادة خلال الشهرين الأولين من 2021؟
ولنتأمل هذا التصريح من مدير بنك "إم آند تي" (.M&T Bank Corp) رينيه جونز، الذي سيكون على رأس الشركة المندمجة، إذ قال جونز في إحدى المقابلات عقب إعلان صفقة الاستحواذ: "البيئة المصرفية تنافسية للغاية، ونحاول معرفة كيف يمكننا أن نحقّق النطاق المطلوب في قطاعات مثل التكنولوجيا والتسويق، وفي نفس الوقت مواصلة إدخال التحسينات بالفعل. إن ذلك يتطلب قدراً كبيراً من الاستثمار".
وكان ستيف شتاينور، المدير التنفيذي لشركة "هنتنغتون بانكشيرز"، أدلى بتصريحات مماثلة في ديسمبر، قال: "معاً، نحن في وضع يسمح لنا بأمور لا يستطيع أي منا فعلها وحده، إذ تحظى بالنطاق المطلوب".
اشتداد المنافسة
الأمر فقط يتعلق بأن البنوك الضخمة مثل "جي بي مورغان" تسبق البنوك الصغيرة بالفعل على كل الأصعدة، وليس لديها نية للتباطؤ. وقال أكبر بنك أمريكي في مكالمة أرباحه الشهر الماضي إنه يتوقع ارتفاع التكاليف هذا العام، مدفوعة على وجه التحديد بالاستثمارات في التكنولوجيا والتسويق والتوسع في السوق. ووصف الرئيس التنفيذي جيمي ديمون الاستثمارات بأنها "أفضل، وربما الاستغلال الأقصى لرأسمالنا"، فيما قالت المديرة المالية جينيفر بيبسزاك في مؤتمر المستثمرين الافتراضي الأسبوع الماضي، إنه "قد يكون (لدى البنك) شعور أكبر بالإلحاح" لإيجاد أهداف استحواذ في ظل اشتداد المنافسة من شركات التكنولوجيا المالية.
وفي هذا الإطار فإن شعور "جي بي مورغان" أنه مضطرّ إلى لاستثمار ليس سراً مع توسُّع البنك في عجالة، فقد نمت أصول البنك بمقدار مذهل بلغ 699 مليار دولار في عام 2020، المبلغ الذي من شأنه أن يوازى سابع أكبر بنك أمريكي أو شركة قابضة مصرفية أمريكية، وفقاً لبيانات من بنك الاحتياطي الفيدرالي في نيويورك. ويأتى "إم آند تي" في المرتبة السابعة والعشرين من حيث الحجم في هذه التصنيفات، أما "بيبولز يونايتد فاينانشيالز" (.People’s United Financial Inc) فيحتل المرتبة الثانية والأربعين.
ولا يعني ذلك أن في اندماج "إم آند تي" و"بيبولز يونايتد فاينانشيالز أي خطأ. في الواقع، قال هيرمان تشان من "بلومبرغ إنتليجينس"، إن هذه الخطوة "سليمة من الناحية الاستراتيجية" وتخلق "قوة شمالية شرقية" من شأنها أن تسمح لشركة "إم آند تي" بالاستفادة من بعض استثماراتها في التكنولوجيا للوصول إلى مزيد من العملاء. وعموماً أشاد المحللون عبر وول ستريت بالصفقة لسعرها المعقول ووفورات الحجم.
وتيرة أسرع
كانت عمليات الاندماج والاستحواذ في قطاع الخدمات المصرفية الإقليمية بطيئة، وقبل تفشي جائحة "كوفيد-19"، اتحدت "بي بي آند تي كورب" (.BB&T Corp) و"صن تراست بانكس" (.SunTrust Banks Inc) في أكبر اندماج مصرفي خلال عقد من الزمان لإنشاء "ترويست فاينانشيال"، لكن الأمر لم يتسبب في بدء هوس الاندماج والاستحواذ وفقاً للمتوقع، ويرجع ذلك جزئياً إلى كون الصفقة التي بلغت 28 مليار دولار ضخمة للغاية، إذ يُعَدّ "ترويست فاينانشيال" الآن ثامن أكبر بنك في البلاد بأصول تقدر بنحو 500 مليار دولار. أما حالياً، وبعدما لم تتسبب الأزمة الصحية العالمية في ارتفاع حادّ في خسائر القروض، فمن المنطقي أن تتسارع وتيرة عمليات الاستحواذ في عام 2021.
وتقليدياً، كان من السهل على أي شخص أن يتوقع تحول البنوك الإقليمية إلى منافسين وطنيين من خلال عمليات الاستحواذ، إذ لم يكن عليهم سوى تجاوز الفرع المحلي. الآن تحصل بنوك الأصول الثابتة على الشركة وحسب، إذ يعمل "ألاي بنك" (Ally Bank) بالكامل عبر الإنترنت، وهو واحد من أكبر 20 بنكاً تجارياً، وفقاً لبيانات بنك الاحتياطي الفيدرالي.
ومن ناحية أخرى، لا يمتلك عديد من المؤسسات الكبيرة الأخرى فروعاً محلية، مثل فرع بنك "باركليز" (.Barclays Plc) في الولايات المتحدة، الذي يقدّم حسابات توفير وشهادات إيداع عبر الإنترنت. كما يتمتع بنك التجزئة "ماركوس" (Marcus) التابع لشركة "غولدمان ساكس" (.Goldman Sachs Group Inc) بواجهة صديقة مناسبة لجيل الألفية، كما أن القوة الكاملة لـ"غولدمان ساكس تلتزم إنجاحه، ولو كان عمر إسماعيل، رئيس الخدمات المصرفية للأفراد، تركه للتو للالتحاق بشركة التكنولوجيا المالية الناشئة "والمارت" (.Walmart Inc).
قوى معطّلة
ويشكّل التحول لتوفير الخدمات المصرفية عبر الإنترنت قوة هيكلية قوية يصعب التغلب عليها. نعم، يُعَدّ تعميق منحدر العائد في الولايات المتحدة مؤخراً هديةً للبنوك الإقليمية التي تعتمد بشكل أساسي على هوامش الإقراض بدلاً من الاستثمار المصرفي وعائدات التجارة. ولكن إذا كانت ملحمة "روبن هود" (Robinhood) أثبتت أي شيء في الأسواق المالية، فقد أثبتت أن التكنولوجيا وإمكانية الوصول بمثابة قوى معطلة.
وفي هذا السياق تفتخر "هنتنغتون بانكشيرز" بأنها احتلت المرتبة الأولى في تصنيف شركة "جيه دي باور" (JD Power) بين البنوك الإقليمية لمدة عامين متتاليين من حيث رضا العملاء عن تطبيقات الخدمات المصرفية عبر الهاتف المحمول. كما أن شركة "إم آند تي" ـ.M&T Bank Corp) لديها تطبيق مماثل. قد يمنع ذلك العملاء من التحول إلى البنوك الضخمة أو شركات التكنولوجيا المالية في الوقت الحالي، ولكن كيف يخططون لمواجهة تضاؤل حصتهم السوقية؟
الرهان على التكنولوجيا
واقترح تشان، من شركة "ترويست فاينانشيال"، إنفاق 3 مليارات دولار سنوياً على الاستثمارات التقنية، بالإضافة إلى خفض النفقات. ولا يزال هذا جزءاً بسيطاً من نفقات "جي بي مورغان"، لكن كيلي كينغ، المدير التنفيذي لشركة "ترويست فاينانشيال" يفهم على الأقلّ الطريقة التي تتقدم بها الصناعة.
وقال كينغ في عام 2019، بعد وقت قصير من طرحه لأول مرة استراتيجية رقمية عنونها "التعطيل أو الموت": "في معظم مسيرتي المهنية، لم أقلق قط بشأن جيمي ديمون أو أي شخص آخر في نيويورك، لأن لديهم تكنولوجيا رائعة وأحجاماً كبيرة، ولكن عندما انضموا إلى قطاع التجزئة المصرفي المحلي، كان يمكنني التفوق عليهم في كل مرة لأنني كنت أتواصل أفضل، وكانوا يعرفون ذلك. ولكن لتغيُّر التحول الرقمي، يجب إدماج التواصل مع التكنولوجيا حتى تحصل على هذا التكامل السلس، لأن العميل لن يقبل مجرد وجود شخص لطيف في الفرع".
قد تكون أسهم البنوك الإقليمية تسابقت لتحقيق الأرقام القياسية بناءً على رهانات النموّ البحتة في الولايات المتحدة، ولكن من هذا المنظور، يبدو أن مزيداً من المكاسب يرتبط أكثر بالرهانات على التكنولوجيا، ومن ثم يتنافس كل من "جي بي مورغان" و"بنك اوف أميركا"، و"غولدمان ساكس" و"ترويست فاينانشيال"، وحتى "والمارت"، على مكانة، ليست بالضرورة في أحياء المستهلكين أو في محافظهم، ولكن في حياتهم الرقمية. وستوفر موجة الاندماج والاستحواذ للبنوك الإقليمية نطاقاً واسعاً وتُدخِلهم سباق التكنولوجيا، لكنها لن تغير حقيقة أنهم بدؤوا متأخرين.