يمكننا الاستمرار في انتقاد مسؤولي البنوك المركزية بسبب الاستجابة المتأخرة للضغوط التضخمية المدفوعة بالعرض، أو لقضايا المصداقية التي ظهرت مع تشديدهم للسياسة النقدية، لكن هذا لن يُغير من الأمر أي شيء.
يسهُل الانتقاد بعد فوات الأوان؛ فقد كان بعض المشاركين في السوق صريحين جداً في التعبير عن ازدرائهم لرد فعل بنك الاحتياطي الفيدرالي منذ شهور. ما يكاد يكون مؤكداً هو أنَّه بغض النظر عن المسار الذي سيسلكه الاحتياطي الفيدرالي اليوم؛ فإنَّ الكثير من الناس سيقولون إنَّه خطأ في السياسة.
لكن قد نحتاج في المرحلة الراهنة إلى أن نكون أكثر تساهلاً مع محافظي البنوك المركزية العالقين حقاً بين المطرقة والسندان. أمّا بالنسبة لمجلس الاحتياطي الفيدرالي؛ فيبدو أنَّ رفع الفائدة 25 نقطة أساس اليوم هو أهوّن الشّرين.
رفع الفائدة ورسالة الفيدرالي
عندما أدلى الرئيس جيروم باول بشهادته أمام لجنة بمجلس الشيوخ قبل أسبوعين، كانت رسالته واضحة. كان المستثمرون بحاجة إلى الاستعداد لاحتمال أن يرفع البنك المركزي سعر الفائدة بضعف الحجم الذي كانت تتوقَّعه السوق في تلك الفترة. ولكن من كان يتخيل في ذلك الوقت أنَّ تخطي عوائد سندات الخزانة الأميركية لأجل عامين 5% سيتبعه الهبوط وذلك بمقدار 136 نقطة أساس في غضون أسبوعين؟ أو أنَّ توقُّعات السوق لقرار اليوم كانت ستنخفض من احتمال نسبته 70% لرفع الفائدة نصف نقطة إلى احتمال 80% لزيادة تكلفة الاقتراض ربع نقطة؟ في غضون ذلك، انخفض مؤشر "بلومبرغ" للدولار الفوري 1.7% وسط تصاعد المخاوف بشأن الاستقرار المالي.
يطالب الكثير من الأشخاص الاحتياطي الفيدرالي بالتوقف المؤقت عن رفع الفائدة. فمعنويات السوق هشة للغاية حالياً. ويمكن للمرء أن يجادل بأنَّ التشديد في الوقت الحالي لن يؤدي إلا إلى تفاقم الأمور. بعد كل شيء؛ تقدّر "بلومبرغ إيكونوميكس" أن يؤدي استمرار الاضطرابات المصرفية إلى إحداث تأثير يوازي رفع الفائدة 50 نقطة أساس عندما يتعلق الأمر بتشديد الأوضاع المالية. من جهته، قال الرئيس السابق لبنك الاحتياطي الفيدرالي في بوسطن، إريك روزنغرين، لصحيفة "وول ستريت جورنال" إنَّ رفع الفائدة سيكون بمثابة "الانفصال". ويعتقد بيل أكمان من "بيرشينغ سكوير" (Pershing Square) أنَّه ليست هناك حاجة لتحريك أسعار الفائدة اليوم. وعلى الجانب الآخر؛ يرى إيلون ماسك أنَّ الخطوة الصحيحة ستكون خفض أسعار الفائدة نصف نقطة.
ماسك يدعو "الفيدرالي الأميركي" لخفض الفائدة 50 نقطة أساس
بعد مرور عام.. سياسة "الفيدرالي" لرفع الفائدة "مكلفة"
لكن بعيداً عن القرار الفعلي لسعر الفائدة اليوم؛ فإنَّ ما يهم حقاً يتمثل في الإشارة التي يرسلها بنك الاحتياطي الفيدرالي. فإذا اختار باول ورفاقه الحفاظ على استقرار الأمور، فسيبدأ التساؤل عما يخفيه عنهم صانعو السياسة النقدية. بالتالي؛ يوفر قرار البنك المركزي الأوروبي بالمضي قدماً برفع الفائدة 50 نقطة أساس الأسبوع الماضي لمجلس الاحتياطي الفيدرالي بعض التحرك الحاسم. بالطبع، جاء قرار مجلس المحافظين في الوقت الذي هدأت فيه السوق إلى حد ما بعد صدور تقرير بأنَّ "كريدي سويس" سيقترض ما يصل إلى 50 مليار فرنك بموجب تسهيل قرض مضمون من البنك الوطني السويسري. إنَّها أوضاع مشابهة للمخاطرة الحالية، كما أنَّ أسهم البنوك تحاول الصعود.
الإبقاء على تكلفة الاقتراض ومصير الدولار
إنَّ إقرار عدم رفع أسعار الفائدة قد يرسل إشارة خاطئة إلى الأسواق. يمكن لباول أن يلعبها بطريقة البنك المركزي الأوروبي، ويتحدث عن الاعتماد على البيانات، ويؤكد على الاستعداد لاستخدام جميع الأدوات اللازمة لضمان بقاء الثقة قوية، وربما يشير أيضاً إلى أنَّ هذه ليست أزمة سيولة. فلم يشهد الاحتياطي الفيدرالي وغيره من البنوك المركزية الكبرى أي زيادة كبيرة في الطلب على ترتيبات عرض الدولار اليومية التي تم العمل بها حديثاً، ناهيك عن حقيقة أنَّ رد فعل السوق المفاجئ والعنيد قد يكون أيضاً بسبب هبوط الدولار كثيراً.
إذا اتخذت السوق قرار مجلس الاحتياطي الفيدرالي كإشارة إلى أنَّ القطاع المصرفي الأميركي أكثر هشاشة من نظرائه عبر المحيط الأطلسي، سيتعرض الدولار لضغط قوي. ولن يكون جيداً أبداً أن يرى محافظ البنك المركزي العملة تتدهور بينما ما تزال الضغوط التضخمية مصدراً للقلق الكبير. علماً أنَّ وضع الدولار كملاذ آمن تعرّض للتقويض مؤخراً، كما أنَّ السوق تميل للرهان على تحوّل الاحتياطي الفيدرالي وشراء العملات الأكثر تقلباً.
لذا، يبدو أنَّ السوق تدعم رفع أسعار الفائدة لأعلى اليوم. لكن هناك احتمال ضئيل أن يفضل بنك الاحتياطي الفيدرالي عدم نشر المخطط النقطي المُحدث، الذي لن يكون أمراً غير مسبوق في حد ذاته. ولكن حتى إذا كان المخطط النقطي دون صلة في الوقت الحالي، خاصة في ظل رغبة المتداولين الدائمة في الانحراف عنه عند وضع توقُّعاتهم بسوق المال؛ فقد يرسل إشارة خاطئة أيضاً.
"الفيدرالي" قادر على محاربة التضخم.. ووقف عدوى البنوك أيضاً
لكن ستكون مباغتة السوق ورفع الفائدة 50 نقطة أساس محفوفين بالمخاطر، وستتعارض مع وظيفة رد فعل بنك الاحتياطي الفيدرالي واستجابته لبيانات السوق والأرقام المُحققة بالفعل منذ مايو 2021. لولا الأحداث الجارية في القطاع المصرفي، فقد يكون الوضع هو السيناريو الأساسي الذي طرحه باول. ولكن ما يريده البنك المركزي في الوقت الحالي هو إجبار السوق على تعديل توقُّعاتها بشأن تخفيض أسعار الفائدة حتى نهاية العام. فبعد كل شيء، لم يتغير التضخم كثيراً.
لقد وجد الاحتياطي الفيدرالي نفسه مرة أخرى بين أمرين أحلاهما مُرّ في أحد أهم قراراته خلال دورة التشديد الراهنة. ربما يكون اليوم هو الأصعب بالنسبة إلى باول في مكتبه، فهو يحتاج إلى التأكد من أنَّ رسالته بليغة ومضبوطة بدقة كافية لإظهار أنَّه يحاول الموازنة بين التفويض المزدوج للاحتياطي الفيدرالي والمخاطر التي يتعرض لها الاستقرار المالي. وهذا يعني زيادة الفائدة 25 نقطة أساس والتعهد باستمرار الاعتماد على البيانات. كما أنَّ أي قرار آخر، بما في ذلك الإشارة إلى مراجعة محتملة لهدف التضخم، سيكون مفاجأة وستمر السوق بجلسة متقلبة للغاية.
(فاسيليس كرامانيس: هو محلل استراتيجي لأسواق العملات والفائدة يكتب في "بلومبرغ، كما أنَّ الملاحظات التي يقدمها تعبر عن رأيه الخاص ولا يُقصد بها أن تكون نصيحة استثمارية)".