تتعرض مصداقية السياسات النقدية لتركيا والتي طبقتها مؤخراً، لمخاطر تأثير القوى والمتغيرات العالمية بشكل أكبر من التحديات التي تواجهها بسبب كراهية الرئيس رجب طيب أردوغان لمعدلات الفائدة المرتفعة.
فلم يعد تمسك أردوغان بوجهة نظر غير تقليدية، ترى أن ارتفاع تكلفة الاقتراض يتسبب في زيادة التضخم أكبر المخاطر على حملة البنك المركزي التركي التي تهدف إلى خفض المعروض النقدي خلال ثلاثة أشهر.
بينما أصبح التحدي الأكبر أمام تركيا هو أداء الاقتصاد العالمي المخيب للآمال مطلع العام الجديد واستمرار تداعيات الجائحة ما يدفع إلى تراجع التضخم.
وقد رسخ ناجي أقبال صورة في الأذهان عن كونه محافظ البنك المركزي الذي يكافح التضخم بعدما أعلن عن تعهده بالإبقاء على سياسة نقدية متشددة لعدة سنوات مقبلة مستهدفاً الوصول بالتضخم إلى 9.4% بنهاية العام الجاري على أن ينخفض إلى 5% في العام 2023. ويرى أقبال أنه من السابق لأوانه الحديث عن خفض أسعار الفائدة بعد الزيادات الكبيرة التي أقرها منذ توليه قيادة المركزي في نوفمبر الماضي والتي بلغت 675 نقطة أساس.
حيث أشار أغبال إلى أن إجراء تخفيضات كبيرة على الفائدة كانت طبيعية بالنسبة للبنوك المركزية حينما كانت تواجه تفشي جائحة كورونا.
وتلقى تصريحات أقبال القوية اعجاباً من المستثمرين بسبب اختلافها عن مواقف من سبقوه الذين سمحوا للتضخم بالارتفاع. فعلى مدار الأشهر الثلاثة الماضية، ارتفع سعر صرف الليرة 15% لتسجل أفضل أداء بين عملات الاقتصادات الناشئة.
ويجب علينا في الوقت الذي نبدي فيه اعجابنا بأداء أقبال أن نتذكر أنه لا يزال جديداً في منصبه وأننا نحتاج لوقت للحكم على أداءه وأن ننتظر لنرى ماذا سيفعل معه أردوغان الذي أطاح بصقور قوية شغلوا منصب المحافظ قبل أقبال.
قوى التأثير الخارجية
لكن الرئيس، وعلى الرغم من عودته إلى الحديث عن ارتفاع الأسعار مؤخراً قد لا يكون أكبر خصوم أقبال في الوقت الذي يتزايد فيه تأثير قوى الاقتصاد العالمي التي تحد من التضخم وقد تخفض مؤشر أسعار المستهلكين في تركيا بدرجة أكبر من مستهدفات البنك المركزي التركي. فهل تتذكر سيناريوهات التعافي الاقتصادي خلال العام 2021؟ ربما تلاشت. وما بقي من متفائلين بالتعافي لم يحظ بمؤشرات على ذلك خلال شهر يناير حيث كانت قوى التأثير القادمة من خارج الحدود التركية أقوى بكثير.
ومن المحتمل أن يواجه أقبال رغبة أردوغان وينصاع لها حتى لو اختلفت الدوافع مع الرئيس. فمن المستبعد أن يتخلى شخصية تتمسك برأيها مثل أردوغان عن وجهة نظره. فعلى الأرجح سيشعر الرئيس أن الأمور تتحرك كما يريد ليزيد من ضغوطه على أقبال بدلاً من منحه مساحة أكبر للعمل.
ولكي يحافظ على سمعته مكافحاً للتضخم يتعين على أقبال أن يبعث برسالة مفادها أن السبب وراء تراجع الأسعار ليس أردوغان الذي يتعمد الابتعاد عن التأثير في المشهد وإنما السبب الحقيقي هو الاقتصاد العالمي وبذلك ينأى بنفسه عن مواجهة أردوغان ولكن بطريقة مختلفة بدلاً من استمرار تجاهل الرئيس.
تباين سياسات البنوك المركزية
ولمن يشكك في تحول تركيا إلى جزيرة وسط بحر من الأموال السهلة عليه الاستماع إلى تصريحات رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول الذي أظهر نظرة سلبية للاقتصاد العالمي خلال اجابته على أحد الأسئلة حول المخاوف من زيادة التحفيز وأثره على التضخم خلال مؤتمر صحافي يوم الأربعاء حيث قال: "انظر للعالم من حولك في أوروبا واليابان وباقي الدول ستجد هناك المزيد من الضغوط الانكماشية التي تتعرض لها الاقتصادات ولا توجد مشاكل في عدم القدرة على تحقيق أهداف التضخم في الوقت الحالي".
علينا أن نعي أن هناك سياقا عاما للاقتصاد العالمي نعيش فيه جميعاً، حيث يزداد متوسط الأعمار وهناك زخم بالتقدم التكنولوجي والعولمة ويشكل ذلك السياق القوى المؤثرة التي سيبقى تأثيرها متواصلا في المستقبل.
قد تكون تلك التقييمات مخيبة لآمال بعض الصقور. ولكن في الوقت الذي تتمسك فيه تركيا بسياسة نقدية متشددة نجد الاحتياطي الفيدرالي الذي يفرض وصايته على عملة أغلب احتياطات العالم لم ينته بعد من سياسته التيسيرية وكذلك الحال بالنسبة للبنك المركزي الأوروبي وبنك اليابان وبنك إنجلترا ومجموعة كبيرة من البنوك المركزية في الاقتصادات الناشئة.
ويبقى عامل الوقت هو المحدد للرهان أوالتشكيك في اختلاف أقبال عن باقي محافظي البنوك المركزية الذين سبقوه. ولكن في النهاية، قد نجح في تحقيق الاستقرار لليرة وهو ما كانت في أشد الحاجة إليه.
ومن الممكن استمرار ظهور العملة بشكل قوي للغاية في ظل تلميحات أقبال يوم الخميس بشأن احتمال استمرار أسعار الفائدة المرتفعة لخنق التضخم. حسناً محافظ البنك المركزي، الآن وقد انتهت الأيام الخوالي للحصول على الأموال السهلة يبقى الموقف داخل تركيا مختلف كلياً عن باقي الدول، وهو ما لا يمكن تجاهله إلى الأبد، ولذلك يبدو أن المحافظ تنتظره أوقاتٌ صعبة في الأيام المقبلة.