مرَّ 17 شهراً فقط منذ أن ظهر أكبر موضوع لا يمكن تصوره في سوق النفط؛ ألا وهو تحول السعر إلى ما دون الصفر. لقد أوضح ذلك أنَّ الاقتصاد العالمي كان يمرُّ بصدمة غير مسبوقة تطلَّبت استجابة سياسية استثنائية من قبل الحكومة و الاحتياطي الفيدرالي. وفي هذا الأسبوع، سيناقش صانعو السياسة الفيدرالية كيفية حل مكوِّنين من مكوِّناته الرئيسية الثلاثة بمرور الوقت.
وفي الواقع، جاء الموضوع الذي لا يمكن تصوره بخصوص النفط نتيجة انهيار الطلب الذي رافق المراحل الأولى من الصدمة الاقتصادية بفعل جائحة كوفيد-19 لعام 2020. وبعد أن تقطَّعت بهم السبل بسبب مرافق التخزين التي كانت إمَّا ممتلئة أو باهظة الثمن؛ سارع أصحاب النفط لتصفية فائض المعروض لديهم، حتى أنَّ بعضهم كانوا على استعداد لدفع أموال للمشترين للتخلُّص مما لديهم.
لم يكن الموضوع العام السائد في ذلك الوقت (نقص الطلب بالنسبة إلى العرض المتاح) جديداً؛ بل أعاق صانعي السياسات منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008، وإن كان بشكل أقل حدَّة وأكثر عمومية. أدى ذلك إلى قيام البنوك المركزية بإدارة سياسات نقدية مالية فضفاضة للغاية تتميّز بأسعار فائدة منخفضة بشكل غير عادي، فضلاً عن ضخٍّ ضخم من السيولة من خلال عمليات شراء الأصول على نطاق واسع، وتوجيهات السياسة النقدية المستقبلية الفضفاضة للغاية. وما فعله الاحتياطي الفيدرالي في عام 2020، على الرغم من كونه رائعاً من ناحية الحجم والنطاق، إلا أنَّه بُني في الواقع على عقد من السياسة النقدية غير العادية.
تقليص التيسير
أما اليوم، فمشهد الاقتصاد الكلي مختلف جداً؛ إذ يتمتَّع قطاعا الأسر والشركات -بشكل إجمالي، وإن لم يكن عبر كل فرد- بميزانيات عمومية قوية بعد أن استفادا من التحويلات المالية الوفيرة، وإعادة تمويل الديون المدعومة. كما أنَّ الطلب والحماس ما يزالان في حالة قوة. والشيء الوحيد الذي يمنع طفرة أكبر في الطلب يتمثَّل في سلالة "دلتا". وحتى هذه لا تُعدُّ بالقوة الكافية لكبح مبيعات التجزئة، وذلك بحسب ما أظهرته مفاجأة البيانات الصعودية الأسبوع الماضي.
هذا وحده سبب كافٍ للاحتياطي الفيدرالي لكي يشرح بالتفصيل هذا الأسبوع كيف ومتى ينوي سحب اثنين من تدابير الطوارئ، علماً أنَّهما ساريا المفعول، بعد أكثر من عام على أسوأ صدمة اقتصادية ومالية بفعل جائحة كوفيد. يجب أن يعلن البنك المركزي عن الشروع الفوري في تقليص التيسير الكمي بهدف القضاء على 120 مليار دولار من المشتريات الشهرية في النصف الأول من العام المقبل؛ وينبغي أن يشير من خلال توجيه سياسته المستقبلية إلى رفع تدريجي لأسعار الفائدة القريبة من الصفر بدءاً من النصف الثاني من العام المقبل.
لكن في حين أنَّ نقص الطلب الكلي لم يعد يمثِّل مشكلة؛ فإنَّ جانب العرض كان وسيظل كذلك لفترة من الوقت. وكما هو مفصل هنا؛ فإنَّ ما تعانيه سلاسل التوريد، والنقل، وتوافر العمال يتجاوز بكثير العوامل المؤقتة التي يمكن عكسها بسرعة. تلعب القوى الهيكلية طويلة الأجل دوراً أيضاً، مما يزيد من شبح التضخم الذي يظل أعلى وأكثر ثباتاً مما توقَّعه الاحتياطي الفيدرالي مراراً وتكراراً حتى الآن.
فضلاً عن ذلك، يشير هذا إلى أنَّ الاحتياطي الفيدرالي يجب أن يبدأ تدريجياً في كبح جماح التيسير الكمي، والإشارة إلى نيته في الضغط على الفرامل بطريقة منظَّمة من خلال أسعار فائدة أعلى. سيكون من الأفضل القيام بذلك في حال فتح الكونغرس من جانبه الباب لإحراز تقدُّم سريع في خطة البنية التحتية المادية والبشرية لإدارة بايدن، وفي حال نسَّق المنظِّمون الماليون بشكل أفضل على الصعيدين الوطني والدولي، لتعزيز السياسات الاحترازية، لا سيَّما من ناحية صلتها بتثبيط المخاطرة المفرطة بين المشاركين في السوق غير المصرفية.
الخوف من التصحيح
ومع ذلك؛ من غير المرجح أن يفعل الاحتياطي الفيدرالي ذلك هذا الأسبوع لعدة أسباب، منها عدم قدرته على التقبُّل الكافي حتى الآن لمدى تحول نموذج العرض والطلب، إلى المخاوف بشأن إطلاق تصحيح غير منظَّم لأسعار الأصول المرتفعة، عقب المخاطرة المفرطة التي شجَّعتها سنوات من ضخِّ السيولة الوفيرة والمتوقَّعة.
فبدلاً من المضي قدماً في عملية تقليص التيسير الكمي الآن، والإشارة إلى الشروع في العام المقبل في تطبيع محسوب وتدريجي لأسعار الفائدة؛ من المرجح أن يتبنّى الاحتياطي الفيدرالي نهج السياسات النقدية التي تنطوي على معدلات فائدة منخفضة. وقد يشمل ذلك الإشارة إلى البداية المحتملة للتقليص التدريجي في وقت لاحق من هذا العام، أو أوائل العام المقبل، مع التأكيد على أنَّ قرار التقليص التدريجي منفصل عن قرار سعر الفائدة، مما يشير إلى تطبيع معدل الفائدة المتأخر والأبطأ، وتغليف كل هذا بلغة مشروطة للغاية.
أظن أنَّ معظم المشاركين في السوق، بالإضافة إلى المستثمرين على المدى الطويل، سيفضِّلون كثيراً مسار العمل هذا مقارنة بالبديل، الذي أعتقد أنَّه ضروري وممكن.
ما يزال "التيسير الكمي اللامتناهي" هو الخيار الأبرز لسياسة الاحتياطي الفيدرالي، نظراً لمدى تأثير سيولة البنك المركزي التي رفعت بقوة تقييمات الأصول، مما يسمح بمثل هذا الفصل التاريخي عن الأساسيات الاقتصادية.
وبقدر ما يبدو هذا جذَّاباً، إلا أنَّه يمثِّل نظرة قاصرة إلى حدٍّ ما، لأنَّه سيسمح للمخاطر الاقتصادية والمالية بالاستمرار في الارتفاع دون داعٍ. وهذا يهدد الانتعاش الشامل طويل الأجل اللازم، ليس من أجل الرفاه الاقتصادي المستدام فقط؛ وإنَّما لدعم الاستقرار المالي الحقيقي أيضاً. وفي الواقع، بحلول الوقت الذي يجد فيه الاحتياطي الفيدرالي نفسه مضطراً للضغط على الفرامل؛ فإنَّ نافذة فعل ذلك بطريقة منظَّمة قد تكون ضيقة بشكل مقلق.