هناك ثمن لا مناص من دفعه لقاء كافة أدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي التي يستخدمها المهنيون لتحسين أدائهم. ولا يقتصر ذلك على رسم اشتراك تتقاضاه "أوبن إيه آي" أو "مايكروسوفت" أو غيرهم من شركات الذكاء الاصطناعي، بل يدفع المستخدمون ثمناً أيضاً من خصوصيتهم.
يتطلب استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي مثل "تشات جي بي تي" اتصالاً بالإنترنت، حيث يُعالج كلّ طلب عبر أحد الخوادم (وهي في الواقع أجهزة كمبيوتر أقوى بأشواط من جهازك المنزلي) داخل مراكز بيانات شاسعة. أّمّا تاريخ محادثاتك فغالباً ما يُستخدم إلى جانب معلوماتك الشخصية لتغذية نموذج الذكاء الاصطناعي بهدف تدريبه بشكل إضافي، ما أثار مخاوف بعض أصحاب العمل حيال أمن بياناتهم.
ولكن إذا ما تواجد "دماغ" الذكاء الاصطناعي داخل كمبيوترك، بدل الاضطرار لإرسال المعلومات إلى مكان آخر، فإن مسألة الخصوصية لن تكون مشكلة كبرى، وآمال تحقيق هذا معلقة على شركة "أبل".
ذكاء من دون اتصال
عُرف عن "أبل" أنها قلما كانت السباقة لخوض غمار تقنية جديدة. فقد تأخرت في دخول سباق الهواتف الذكية، كما لم تكن الأولى في طرح الساعة الذكية، ولكنها تهيمن اليوم على كلا السوقين، بما أنها تمهلت لتصمم أجهزة أسهل استخداماً.
للقصة تتمّة مع الذكاء الاصطناعي، فبناء الذكاء الاصطناعي التوليدي "الأذكى" يتمحور حول الرقائق الأقوى، وفيما تهمين شركة "نفيديا" على سوق الخوادم المعتمدة على الخدمات السحابية، فإن "أبل" تتمتع بمقدرات قد تمكنها من أن تصبح الأولى التي تنجح في تشغيل الذكاء الاصطناعي على أجهزة أصغر حجماً، برغم أن ثورة الذكاء الاصطناعي التوليدي كانت قد أخذتها على حين غرّة.
وفيما تجري كثير من الشركات بحوثاً حول سبل استخدام الذكاء الاصطناعي على الهواتف والكمبيوترات من دون الاضطرار للاتصال بأي خوادم خارجية، إلا أنها تصطدم بقيود تقنية يصعب تجاوزها من دون توفر الموارد التي تمتلكها شركة الأجهزة الإلكترونية الواقعة في كوبيرتينو التي تبلغ قيمتها تقديرياً 3 تريليونات دولار.
بدأت "أبل" أصلاً بتصميم رقائق أقوى للهواتف وأجهزة الكمبيوتر التي تنتجها، بينها رقائق سلسلة (M) المتطورة التي توفر سرعة معالجة استثنائية. وبرغم أن الرقائق التي تصنعها "إنفيديا" لمعالجة الذكاء الاصطناعي على الخوادم أقوى بكثير، إلا أن ذلك قد لا يطرح مشكلة إذا ما أصبحت نماذج الذكاء الاصطناعي بحدّ ذاتها أصغر وأكثر كفاءة.
اقرأ أيضاً: هل الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر مجاني ومفتوح حقاً؟
نماذج أصغر
يقودنا ذلك نحو ظاهرة أخرى تدفع بموجة الذكاء الاصطناعي القائم على الجهاز، ففيما تركز شركات بناء الذكاء الاصطناعي مثل "أوبن إيه آي" و"غوغل" على تضخيم حجم نماذجها قدر الإمكان، تعمل شركات أخرى على تصغير حجم هذه البرامج، وجعلها أكثر كفاءة لناحية الطاقة. خلال السنوات الماضية، ارتأت "أوبن إيه آي" أنها قادرة على جعل نماذجها اللغوية الضخمة أسلس وأقرب إلى البشر، في حال عمدت ببساطة إلى زيادة مُعامِلات نماذجها والقوة الحاسوبية التي تستخدمها، وهو ما يتطلب خوادم سحابية ضخمة ورقائق قوية.
اقرأ أيضاً: أبل تدخل حرب الذكاء الاصطناعي بمنافس جديد لـ"Chat GPT"
لتوضيح الصورة أكثر، يشاع أن "جي بي تي-4" من "أوبن إيه آي" يضمّ تريليون مُعامِل، فيما أفيد بأن "أمازون" تعدّ نموذجاً لغوياً يحمل اسم "أولمبوس" به تريليوني مُعامِل. إلا أن شركة "ميسترال" الفرنسية الناشئة المتخصصة بالذكاء الاصطناعي، والتي أسسها باحثون سابقون لدى "غوغل ديب مايند" و"ميتا بلاتفورمز" تعمل على صنع نماذج لغوية ذات معاملات أقل بكثير، فنموذجها اللغوي مفتوح المصدر الأخير، لا يضم أكثر من 40 مليار مُعامِل، ولكنه يعمل بجودة الإصدار المجاني الحالي من "تشات جي جي تي" (ونموذجها الأساسي "جي بي تي–3.5)، بحسب الشركة.
تبني بعض شركات تطوير البرامج الإلكترونية على أعمال "ميسترال" من أجل السير قدماً في صنع خدمات ذكاء اصطناعي أكثر خصوصية. فقد طرحت شركة "غرافيتي إيه آي" (Gravity AI) الناشئة في سان فرانسيسكو برنامج ذكاء اصطناعي مساعد يعمل على أجهزة الكمبيوتر المحمولة من "أبل" من دون حاجة لأي اتصال بالإنترنت. فهو يستند إلى النموذج الأخير الأصغر من "ميسترال" ويعمل بشكل مشابه لـ"تشات جي بي تي".
تكاليف باهظة
قال تاي دانيال، المؤسس الشريك لـ"غرافيتي إيه آي" إنه "لا يجوز أن نضطر للتضحية بالخصوصية من أجل تسهيل العمل... لن نبيع بياناتك أبداً". تقدم "غرافيتي" خدماتها مجاناً حالياً، ولكنها تعتزم أن تتقاضى رسم اشتراك من العملاء في نهاية المطاف.
كنموذج أعمال، يعد الذكاء الاصطناعي القائم على الجهاز بتحقيق هوامش ربح أكبر من خدمات الذكاء الاصطناعي التي يتعين ربطها بالخدمات السحابية، بما أن المطورين يضطرون لدفع مبالغ طائلة لمزودي الخدمات السحابية مثل "أمازون" و"مايكروسوفت" في كل مرة يستخدم فيها أحد العملاء أدوات الذكاء الاصطناعي، لما يتطلبه ذلك من قوة معالجة تقدمها خوادم شركات التقنية الكبرى.
تعليقاً على ذلك، قال دانيال: "تحدثت إلى مؤسس إحدى الشركات التي تبني أداة ذكاء اصطناعي مشابهة تعمل ضمن الخدمات السحابية، وأخبرني أن الطريقة الوحيدة لجني المال هي بعدم استخدام الناس للمنتج".
قد يبدو مثل هذا التعليق منافياً للمنطق، ولكن حتى رئيس "أوبن إيه آي" التنفيذي سام ألتمان كان قد اشتكى من التكاليف الموجعة التي تتكبدها شركته لتشغيل "تشات جي بي تي" للعملاء. وقال أمام المشرّعين العام الماضي: "سنسرّ كثيراً إذا قلل الناس استخدامه". (لا تطرح أي من هذه الأمور مشكلة لعمالقة الخدمات السحابية مثل "غوغل" و"مايكروسوفت"، لأن عملها لا يقتصر على صنع خدمات الذكاء الاصطناعي، بل تؤجّر أيضاً الخوادم التي يحتاجها الأشخاص لتشغيلها).
مشكلة الذاكرة
كما حال الشركة الفرنسية "ميسترال"، تعمل "أبل" هي الأخرى على جعل نماذج الذكاء الاصطناعي أصغر حتى تشغلها على أجهزتها الخاصة، بما ينسجم إلى حدّ بعيد مع نظام البرمجيات المغلق الذي تعتمده في كل منتجاتها.
أعلن الباحثون المتخصصون بالذكاء الاصطناعي في الشركة في ديسمبر، تحقيق إنجاز على صعيد تشغيل أدوات الذكاء الاصطناعي المتطورة على أجهزة "أيفون" من خلال إنتاج نماذج لغوية ضخمة، باستخدام ما يُعرف بتحسين الذاكرة الآنية.
تتعقد الأمور تقنياً على هذا الصعيد، ما قد يبقي الذكاء الاصطناعي الأكثر خصوصية حلماً بعيد المنال لعدة أشهر أو حتى لسنوات. فالنماذج اللغوية الضخمة لا تحتاج إلى مجرد قوة معالجة، ولكن إلى ذاكرة أيضاً كي تعمل جيداً، ولكن حتى عند استخدام أجهزة الكمبيوتر والهواتف الأكثر تطوراً، تصطدم أدوات الذكاء الاصطناعي بما يعرف بـ"جدار الذاكرة".
ولهذا السبب، حين حاولت أن أستخدم مساعد الذكاء الاصطناعي من "غرافيتي" على جهازي "ماك بوك"، استغرق نحو ثلاثين ثانية أو أكثر لمعالجة بعض مدخلاتي، فيما توقفت تطبيقات أخرى على جهازي خلال الانتظار.
تتوجه الأنظار اليوم إلى "أبل" لتبيان ما إذا كانت قادرة على حل هذا المأزق التقني. فلا تقتصر فوائد نماذج الذكاء الاصطناعي المحصورة بالأجهزة على الخصوصية، بل إن تشغيلها أقل تكلفة وهي أفضل للبيئة نظراً لكمية ثاني أوكسيد الكربون الهائلة المنبعثة إلى الهواء من مزارع الخوادم.
اقرأ أيضاً: "سامسونغ" تتحالف مع "غوغل" لتحدي "أبل" في الذكاء الاصطناعي
على "أبل" العمل سريعاً إذا كانت تعتزم تصغير حجم نماذج الذكاء الاصطناعي الضخمة لتتسع لها هواتفها الذكية، فمبيعات الهواتف الذكية في فترة ركود عالمياً، فيما أحرزت منافستها اللدودة "سامسونغ" بعض النجاحات في تصغير حجم نماذج الذكاء الاصطناعي هي الأخرى. وإذا ما نجحت "أبل" في مسعاها، قد تطلق شرارة تحوّل في مجال الذكاء الاصطناعي يصبّ في مصلحة أطراف متعدّدة إلى جانب "أبل" نفسها.