فصل جديد من الرأسمالية يبزغ من قلب الأزمة المصرفية

بداية حقبة جديدة لتدخل الدولة في الاقتصاد والتمويل وتوقعات بفرض قواعد جديدة

time reading iconدقائق القراءة - 20
جذور الرأسمالية المتشعبة - المصدر: بلومبرغ
جذور الرأسمالية المتشعبة - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

بين ربوع الحي المالي في إدنبرة تختبئ غرفة صغيرة يطلق عليها اسم "مكتبة الأخطاء"، وتوجد فيها معلومات عن كل الكوارث الرأسمالية التي مرت على العالم تقريباً، التي من خلالها يمكننا فهم أبعاد الأزمة المصرفية الحالية. تقع المكتبة على مقربة من المكان الذي عاش فيه أدم سميث، عراب الأسواق الحرة، وتتزين بقميص موقَّع من قبل نيك ليسون، المتداول الداهية الذي أسقط بنك بارينغز (Barings)، وتحتضن صورة للمحتال الأميركي الأسطوري تشارلز بونزي، بالإضافة إلى بعض أعداد الصحف القديمة التي نشرت أخباراً عن عمليات الإنقاذ المالية الحكومية منذ فترة طويلة، فيما تحمل أرففها مجلدات مثل كتاب "أين يخوت العملاء؟".

ترفع المكتبة شعاراً يقول: "إنَّ التقدم في العلوم والهندسة يتسم بالتراكمية، أما التقدم في التمويل؛ فيكون دورياً"، وهو قول مأثور للكاتب جيمس غرانت. وقياساً على ما حدث الشهر الجاري يمكن القول إنَّ التاريخ ربما يعيد نفسه، إذ تسببت الجهات التنظيمية مجدداً في أزمة بينما تحاول حل أزمة أخرى، واكتشف مموّلو الأسواق الحرة فجأة مزايا تدخل الدولة، فيما زعمَ محاربو الطبقية الذين توقَّعوا نجاح الانهيارات المصرفية الثلاثة الأخيرة أنَّ الرأسمالية مجحفة، أو انتهت، أو كلا الأمرين معاً.

والآن يتوجب علينا مجدداً مواجهة حقيقة أنَّ قواعد التمويل ستتغير، كما يمكننا النظر في تاريخ التنظيم المالي الذي ينطوي على معلومات وفيرة عن إدارة الأزمات.

وبالعودة للتاريخ، سنجد أنَّ بنك الاحتياطي الفيدرالي في صورته الجديدة قد تم إنشاؤه بعدما اضطر المصرفي المخضرم جون بيربونت مورغان إلى وضع اللمسات الأخيرة على خطة إنقاذ اقتصادية للقطاع الخاص في 1907، وكان حينها يجتمع مع زملائه المصرفيين في غرفة بمنزله الواقع في 219 ماديسون أفنيو.

في عام 1933 بعد انهيار شركات "وول ستريت"، أصدر الرئيس الأميركي السابق فرانكلين روزفلت قانون "غلاس- ستيغال" الذي يفصل بين البنوك الاستثمارية والتجارية، وألغاه بيل كلينتون في 1990 نظراً لإلقاء اللوم على القيود المصرفية في تشجيع الابتكار غير المسؤول في أقسام أخرى من قطاع التمويل، إلا أنَّ الفصل بينهما أعيد إقراره مجدداً في قانون "دود- فرانك" الذي جاء بعد انهيار مصرف "ليمان براذرز" في 2008.

تغيير القواعد والعقلية

خلال الأزمة الحالية، من المستبعد أن تتمحور إعادة هيكلة التمويل حول وضع مجموعة كبيرة من القواعد، لكنَّها -بدلاً من ذلك- ستركز على إحداث تغيير أكبر في العقلية السياسية بقبول الشكل ذي النزعة التجارية للتمويل، وهو اتجاه مخالف لتفكير آدم سميث، لكنَّه يتوافق مع سياسات الدولة الجيوسياسية الحديثة.

وربما نتجه نحو شكل جديد من الرأسمالية المالية، وهو شكل ملغم بالمخاطر أكبر مما يحتويه من وعود. لكن هذا لن يحدث بين عشية وضحاها، خاصةً بالبنوك نفسها، فالتركيز الحالي ينصب على البقاء أكثر من كونها تمثل أفكاراً ثورية.

في حقيقة الأمر، يمكن تلخيص الوضع الجديد من وجهة نظر الخبراء الماليين -لا السياسيين- في جملة واحدة، وهي: العودة للمبادئ الأساسية.

قراءة في أسباب أزمة المصارف الأخيرة وتوابعها المحتملة على الاقتصاد

وعند المقارنة بين الأزمتين، نجد أنَّه في 2008-2009 كانت الأزمة المالية العالمية تتمحور حول جودة الأصول، حيث حدثت بسبب كل تلك القروض العقارية عالية المخاطر والعدد الهائل من المشتقات المالية المراوغة، التي استندت إلى شريحة ضئيلة من رأس المال، أما هذه المرة؛ فالتركيز منصب على السيولة.

في بداية الأمر، كان لدى مصرف "سيليكون فالي بنك" ومصرف "كريدي سويس" -بالأخص- مبالغ ضخمة نسبياً من رأس المال لتغطية ما بحوزتهم من ديون رديئة محتملة. لكن لم يملك المصرفان سيولة كافية للسداد لعدد كبير من المودعين الذين أرادوا فجأة استعادة أموالهم.

ربما تم سحب الأموال كلها عبر الوسائل الرقمية، لكن ذلك كان مجرد هلع مصرفي في البنكين يشبه اصطفاف العملاء قديماً على نوافذ صرافي البنوك. يذكر أنَّ "سيليكون فالي" أٌغلق في 10 مارس، واستحوذ مصرف "يو بي إس" على "كريدي سويس" عقب انهياره في العطلة الأسبوعية الماضية.

لكنَّ إلقاء اللوم كله على أزمة سيولة مفاجئة سيعفي "سيليكون فالي" و"كريدي سويس" من المسؤولية، حيث لا يرغب المودعون في استرداد أموالهم بسرعة من البنوك إلا عندما تتزعزع ثقتهم في المصرفيين. وعند الحديث عن الثقة، يبدو أنَّ "سيليكون فالي" و"كريدي سويس" أساءا فهم الأساسيات إلى حد ما.

ميزة الالتزام بالأساسيات

عندما بدأنا العمل الصحفي، كان "كريدي سويس" نموذجاً لتطبيق القواعد المالية التقليدية بحذافيرها، حيث تشابه الخبراء الماليون السويسريون هناك مع نظرائهم الألمان بشكل أساسي، لكن دون التمتع بروح المخاطرة. أما القسم المشاغب الوحيد بالبنك؛ فكان قسم "كريدي سويس فيرست بوسطن" (Credit Suisse First Boston)، وكان يتسم بصبغة أميركية جعلته مثيراً للاهتمام. وكلما تحدث رئيس من رؤساء البنك -وكلهم من الرجال- في مؤتمر مالي، كان الحاضرون يغادرونه ضجراً.

لكن بشكل مثير للحيرة اختفى التزام البنك بالأساسيات. وشهد القرن الجاري سلسلة من الفضائح التي اختارت الإدارة العليا لـ"كريدي سويس" التعامل معها على أنَّها أخطاء فردية بدلاً من اعتبارها مشكلة ممنهجة في ثقافة المخاطر. واستمر اسم "كريدي سويس" في الظهور في فضيحة تلو الأخرى، من موزمبيق إلى روسيا، بعدما اختار المصرفيون لديه السعي خلف العائدات المرتفعة، وتجاهلوا الحكمة التي أطلقها السياسي البريطاني البارز آرثر ويلزلي، المشهور باسم "دوق ولينغتون"، التي قال فيها: "الفائدة المرتفعة لأي ورقة مالية دليل على سوْئِها". وبالتدريج؛ تحوّل سحب الودائع إلى فيضان اجتاح البنك.

أما في حالة "سيليكون فالي"؛ فقد كان الانهيار مباغتاً، لكنَّ الخطأ البشري كان أبسط بكثير، إذ بدا أنَّ كل المصرفيين المتحاذقين في البنك الذي يقع مقره في كاليفورنيا قد ركزوا طاقتهم على النشاط المثير لإقراض مستثمري رأس المال الجريء، بدلاً من التركيز على العمل الدؤوب لتحديد أين يستثمرون أموال مودعي البنك بأمان.

اشترى البنك سندات حكومية طويلة الأجل ثابتة العائد، برغم أنَّ لديه التزامات قصيرة الأجل بمعدل فائدة متغير مضاربة بالأساس، لدرجة أنَّ كل من يعملون في قطاع التمويل لم يتخيلوا حدوث ذلك. وعندما ارتفعت أسعار الفائدة، تدهورت قيمة محفظة "سيليكون فالي" الاستثمارية من السندات الحكومية "الآمنة"، وأصبح المصرف في مواجهة الانهيار.

أسباب الأزمة المصرفية

ثارت تساؤلات حول رد الفعل الذي سيتخذه الساسة والجهات التنظيمية، وألقي باللوم على أكثر من سبب في الأزمة، وكان أحدها في حالة "سيليكون فالي" هو اهتمام البنك بالقضايا المجتمعية على حساب النزعة المصرفية، حيث أشار المحافظون إلى أنَّ المصرف -الذي يقع مقره في سان فرانسيسكو ويواكب التوجهات الجديدة- استمر في العمل لمدة 7 شهور دون أن يشغل أي شخص منصب كبير مسؤولي المخاطر، لكنَّه وجد الوقت للتفاخر بسجله في قضايا البيئة ومجتمع الميم.

وعلى سبيل المثال؛ وعد البنك باستثمار 5 مليارات دولار في شؤون الاستدامة بحلول 2027، وهذه مغالاة وإفراط. كما يبدو "سيليكون فالي بنك" وكأنَّه مؤسسة تهيمن عليها الذكورية مع لمسة من الدفاع عن القضايا المجتمعية الجدلية. ويشار إلى أنَّه حتى لو كان المصرف بمثابة جنة لمؤيدي هذه القضايا؛ فبالطبع كان يمكن لمصرفييه تخصيص وقت أكبر لتفقد أوضاع سوق السندات.

بعد مرور عام.. سياسة "الفيدرالي" لرفع الفائدة "مكلفة"

أما السبب الأكبر الذي أُلقي باللوم عليه في الأزمة، واتفق الناس على اختلاف أطيافهم السياسية على مشاركته فيها، فيتمثل في البنوك المركزية التي اتُهمت بإبقاء أسعار الفائدة منخفضة لفترة أطول من اللازم، ثم رفعها بوتيرة أسرع من المتوقَّع. وهذا حقيقي إلى حدٍ ما. وكان من الواضح أنَّ هذه البنوك أبقت على أسعار فائدة غاية في الانخفاض لمدة أطول مما ينبغي. وساعد الائتمان المُيسر في خلق فقاعات، وشجّع البنوك للسعي وراء العائدات المراوغة.

ويمكن القول إنَّه إذا لم يُعجل "الاحتياطي الفيدرالي" برفع أسعار فائدته سريعاً للتكفير عن أخطائه السابقة؛ لكان السذج في "سيليكون فالي" ما زالوا يحصدون الجوائز المصرفية على الأرجح حتى الآن، ولكان "كريدي سويس" يفكر في إطلاق منتج آخر.

لكن برغم ذلك؛ فإنَّ مطالبة البنوك المركزية بالتوقف الآن عن رفع أسعار الفائدة سيشكل تغييراً كبيراً. فمهمة "الاحتياطي الفيدرالي" هي الاعتناء بالاقتصاد ككل، مما يعني في الأساس مواجهة التضخم، وليس الإبقاء على أسعار الفائدة منخفضة لإنقاذ قلة من البنوك سيئة الإدارة.

إدارة أفضل للبنوك

إذاً، فالنقاش الحقيقي سينصب مجدداً على إيجاد طريقة أفضل لإدارة تلك البنوك. ظهر جدل قديم مجدداً بين من يرون بوجوب زيادة حماية المودعين لأقصى حد، إذا كانت الغاية إنهاء خطة إنقاذ المودعين بأي حال، ومن يرغبون في منع الخطر الأخلاقي الناتج عن إفلات المصرفيين بأخطائهم من العقاب. وتشير الاحتمالات إلى إحداث توازن بين الجانبين.

الولايات المتحدة تسعى لتأمين جميع الودائع لتجنب أزمة محتملة

نتوقَّع فرض بعض القواعد الجديدة، لكن ليس بالحجم ذاته الذي حدث بعد أزمة 2008، في الغالب لأنَّ لدى البنوك المزيد من رأس المال حالياً. لكنَّ التغيير الأهم قد يكون إعادة تعريف ماهية البنوك. فمنذ 2008، فضّلت الجهات التنظيمية الأميركية التركيز على مراقبة ميزانيات البنوك الكبيرة المؤمنة من الإفلاس إلى حد كبير، والغريب أنَّهم ركزوا اختبارات التحمل على البنوك التي تتجاوز قيمة أصولها مبلغ 250 مليار دولار.

كما لم تُجبر المؤسسات متوسطة الحجم -مثل "سيليكون فالي بنك" الذي تجاوزت قيمة أصوله 200 مليار- على الاحتفاظ بمعدل السيولة نفسه، بسبب تغيير إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب للقواعد تحت ضغط رئيس "سيليكون فالي" التنفيذي وآخرين. والآن اكتشفنا أنَّ "سيليكون فالي" أيضاً كان من بين الذي جرى تصنيفهم على أنَّهم "أكبر من أن يفلسوا".

أما الفئة الأخرى الأوسع نطاقاً من الكيانات التي يمكن فرض رقابة أكبر عليها، خاصةً إذا أفلس أحدها؛ فهي كل المؤسسات غير المصرفية التي تقدم نوعاً من الإقراض، وتتضمن شركات الاستثمار الخاصة، وشركات رأس المال الجريء، وصناديق التحوط، والمتعاونين مع شركات الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة التي ابتكرها القطاع المالي للالتفاف على القواعد المصرفية.

بعد الانهيار

مع ذلك؛ فإنَّ التغيير التنظيمي الأكبر سيرتبط بطريقة التفكير. قد لا يرضى آدم سميث عن إجراءات الجهات التنظيمية على مدى الأسابيع القليلة الماضية. لكنَّها كانت ستسُر جان بابتسيت كولبير، وزير مالية لويس الرابع عشر المناصر لتدخل الدولة في الاقتصاد.

عادت فكرة أنَّ السياسة المالية هي ذراع الدولة، والأرجح أن تعيد هذه الفكرة تشكيل الخدمات المصرفية العالمية.

كان الأمر متوقَّعاً لوقت طويل. فبالرغم من الادعاء بأنَّ التمويل عديم الاحتكاك وهو عالمي؛ لكنَّه أسير القوانين المحلية، ويكفي النظر إلى قلة الاستحواذات العابرة للحدود. ثم هل هناك جديد في خطط الإنقاذ الوطنية؟ فضَّل ميرفن كينغ، محافظ "بنك إنجلترا" خلال أزمة 2008، الإشارة إلى أنَّ الشركات الرأسمالية عالمية في أعمالها ووطنية في نهايتها، وهي تتطلع دوماً إلى حكوماتها المحلية لتنقذها عندما تسوء الأوضاع.

لكنَّ نغمة خطط الإنقاذ تغيرت بشكل كبير. ففي 2008، تعاونت أكبر ثلاثة اقتصادات في العالم، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والصين، واعتبرت السيطرة على البنوك انحرافاً مؤقتاً عن المسار الحقيقي لبناء نظام مالي عالمي حر. ينقسم الاقتصاد العالمي حالياً إلى تكتلات إقليمية متنافسة، وتغيّر الخطاب الحكومي تجاه بناء شركات وطنية عملاقة وتوجيه المستهلكين إلى الموردين المحليين، فلا يوقِّع جو بايدن على قانون إلا بعد إضافة نص يحث على شراء المنتج الأميركي. لقد عادت النزعة التجارية بقوة.

عمليات الإنقاذ التي أدارتها الحكومة هذا الشهر تتفق مع هذا النمط. لم يشكل "سيليكون فالي" تهديداً منهجياً على النظام المالي الأميركي، لكنَّ انهياره كان ضربة قوية لقطاع التكنولوجيا في الولايات المتحدة، وهو مركز تنافسية البلد، بالأخص في وجه الصين. أخفت الكثير من شركات رأس المال الجريء أموال مستثمريها في "سيليكون فالي" دون تفكير. أما لو كان مقر البنك في أوكلاهوما، فإنَّه ما كان سيجذب كل هذا الانتباه. اهتم قرار الإنقاذ بسياسة القطاع أكثر من الاهتمام بالتمويل الحذر.

تراجع الدولار بعد قرار "الفيدرالي" يمنح الاقتصادات الناشئة فرصة لالتقاط الأنفاس

في هذه الأثناء، شكل قرار سويسرا بإجبار "يو بي إس" على الاستحواذ على "كريدي سويس" اعترافاً بأنَّ الخدمات المصرفية تعتبر قطاعاً استراتيجياً للدولة. فالسماح لأكبر بنك في البلاد بشراء منافسه الرئيسي أمر غير منطقي، خاصة إذا كنت تهدف لضمان المنافسة العادلة في السوق الحرة وحماية المستهلك. أما إذا كان الهدف الرئيسي هو إبقاء أموال البنك السويسري داخل سويسرا؛ حينها يمكن أن يكون تسليم ثلث القطاع المصرفي إلى بنك واحد أمراً مبرراً.

ولم تفكر الدولة في اللجوء للمستثمرين الأجانب لحل الأزمة، ومنهم قطريون وسعوديون، ممن امتلكوا استثمارات كبيرة في "كريدي سويس".

ليس هذا فحسب؛ حيث فضل السويسريون تخفيض فئة من حملة السندات الدولية بشكل أساسي- وهي سندات الشريحة الأولى الإضافية لرأس المال التي أصدرها "كريدي سويس"- إلى درجة أدنى من المستثمرين في الأسهم. وصب ذلك في صالح صناديق التقاعد السويسرية، لكنَّه تسبّب في صدمة لسوق سندات الشريحة الأولى الإضافية (AT1) التي يبلغ حجمها 275 مليار دولار.

بداية تدخل الدولة

يشكل ذلك بداية التحول إلى تدخل الدولة في التمويل. لننظر إلى الاتحاد الأوروبي، فقد اعتبر مؤيدو تدخل الدولة في أرجاء القارة مراراً التمويل على أنَّه تحريض شنيع، لأنَّه مصدر محتمل للفوضوية بشكل جزئي، ولأنَّ الولايات المتحدة تهيمن عليه إلى حدٍ ما. إنَّ أقوى خمسة بنوك في الغرب كلها أميركية: "جيه بي مورغان"، و"غولدمان ساكس"، و"مورغان ستانلي"، و"بنك أوف أميركا"، و"سيتي غروب". كما أثار هذا الترتيب الحديث نسبياً مراراً غضب أحفاد كوليير في باريس، ففي الثمانينيات كان مصرفان أميركيان فقط من ضمن أكبر 10 بنوك في العالم. لكنَّ السياسيين الآخرين في الوقت الحالي يعيدون النظر في هذا الترتيب.

بعد ضياع قيمتها.. من يحمل سندات الشريحة الأولى في "كريدي سويس"؟

كمثال لذلك؛ قد تكون ألمانيا هي المحرك الصناعي لأوروبا، لكنَّها تفتقر للنفوذ المالي. البنك الأنجح في الاتحاد الأوروبي حالياً هو مصرف "بي ان بي كورب" (BNP Corp)، كما أنَّ منافسيه إما أنَّهم يركزون على الأميركتين مثل "بانكو سانتاندر" الإسباني، أو أنَّهم محاصرون في لندن بعد "بريكست" مثل "إتش إس بي سي هولدينغز" و"باركليز". ويشار إلى أنَّ ظهور مؤسسة سويسرية عملاقة جديدة في الجوار هو حافز بالنسبة إلى برلين لتعيد النظر في دمج "دويتشه بنك"- الذي غالباً ما تنافس مع "كريدي سويس" في الفضائح- مع "كوميرتس بنك" الذي سيجذب قاعدة كبيرة من الودائع نظراً لبيروقراطيته.

الطريق البديل محفوف بصعوبة عاطفية على برلين، وهو أن تتحد ألمانيا مع جيرانها لبناء مؤسسة أوروبية عملاقة جديدة. فلما لا يندمج "كوميرتس بنك" مع "يوني كريديت" الإيطالي؟ من الصعب أن ينجح توحيد العملة دون اتحاد مالي أو مصرفي. كل رئيس تنفيذي لبنك في الاتحاد الأوروبي لديه قائمة بالمرشحين المحتملين للاندماج في دول الاتحاد الأوروبي الأخرى، في حال تغيّر القوانين والسماح بالتحالفات العابرة للحدود. وبعد أحداث هذا الأسبوع، أصبح حدوث ذلك مرجحاً.

لا شك في أنَّ المصرفيين الأميركيين سيدعمون أي دمج على أساس "التأخير أفضل من لا شيء"، لكنَّ السوق المصرفية الأميركية أشد تشوهاً من السوق الأوروبية، إذ يحصل العملاء على القليل من المنتجات المصرفية الأساسية مثل بطاقات الائتمان ورسوم الحسابات الجارية. ولأنَّ التركيز ينصب على البنوك "الأكبر من أن تُفلس"؛ فإنَّ عدد البنوك في الولايات المتحدة أكبر مما يلزم، لكنَّها أصغر من يعمل بشكل مناسب.

تلك البنوك الصغيرة فاقمت الكساد الكبير بشكل ملحوظ. فبينما تملك كندا 4 بنوك وطنية، تمتد فروعها في أنحاء البلد، وينتشر مساهموها وعملاؤها المتنوعون على نطاق واسع، يوجد في الولايات المتحدة نحو 25 ألف بنك أغلبها لا يملك رأس المالي الكافي، وتراقبها 52 جهة تنظيمية مختلفة، وتعتمد على تقلبات الاقتصادات المحلية. تحسنت الأوضاع في الوقت الحالي، لكن ما زال هناك 4 آلاف بنك أميركي –أغلبها بنوك محلية صغيرة- غالباً ما تحميها جماعات الضغط السياسي المحلية، وتعتمد بإفراط على الصناعات المحلية. في الحقبة الجديدة للرأسمالية المالية الوطنية، لا يبدو هذا موطن قوة، بل نقطة ضعف. توقَّع أن ترى موجة أخرى من الدمج على غرار موجة روزفلت تُعزى لمصير "سيليكون فالي"، ويلفها الخطاب القومي.

في الولايات المتحدة، لا يعد إدخال التمويل في العصر الاتجاري الجديد إلا نوعاً من الاتساق. فإذا كنت مثل إدارة بايدن ترشو شركات أشباه الموصلات لفتح فروع في الولايات المتحدة، وتحث المستهلكين لديك على "شراء المنتج الأميركي" بغض النظر عن الجودة؛ فمن المنطقي أن تعتبر التمويل جزءاً من القطاعات المهمة المتحكمة في اقتصادك. إذا كانت رقائق الحاسوب مصدراً وطنياً حيوياً، فالبنك الذي يقرض مصنّعي تلك الرقائق لا يقل عنها أهمية، بالأخص أنَّه يمكن الاعتماد على أي شيء يندرج تحت عنوان "احتواء الصين" لتسمع صيحات الجمهوريين "تطالب بالمزيد".

أتاح دور مؤيد حماية الإنتاج الوطني الذي تضطلع به الولايات المتحدة لدول أخرى الفرصة للحذو حذوها، خاصة أنَّ السويسريين، وهم من أشد المؤمنين بالدولية، يعتنون بإنتاجهم الوطني. فالعواصم الأوروبية تعج بالغضب من سياسة تقييد الواردات في قانون خفض التضخم الذي أقره بايدن، وتملؤها الأفكار عن كيفية حماية منتجاتها أيضاً. يطالب الساسة بإعادة النظر في قوانين مساعدات الدولة- أساس السوق الموحدة للاتحاد الأوروبي- لتوفير مزيد من الإعانات. تسارع الصين لتحقيق الاكتفاء الذاتي في التقنيات الرئيسية. تنتشر الاستعانة بمصادر خارجية في كل مكان فيما تتحول الشركات متعددة الجنسيات من التصنيع "الرشيق" إلى التصنيع "الفائض".

الرأسمالية المالية الجديدة

برغم أنَّ بنوك العالم لها سمعة بأنَّها عالمية بلا جذور، لكنَّها ستسعد بقبول التوجه الاتجاري، فكما أوضح آدم سميث بأنَّ المصرفيين انتهازيون قبل أن يكونوا عالميين بمدة طويلة. فإذا أراد ساسة الغرب شركات وطنية عملاقة، سيسر المصرفيون بتمويلها، وإذا أراد رجال السياسة استبدال النزعة التجارية بالتجارة الحرة، ستجد أنَّ المصرفيين يعرضون طرقاً مختصرة، وإذا توسل إليهم شخص ما لشراء أحد منافسيهم، فقد لا يمانعون.

من هذا المنظور، قد يكون من الأرجح اعتبار "يو بي إس" كمتحرك أول، فسارع بالاستحواذ على منافسه الرئيسي مقابل ما يقل عن 5% من قيمة "كريدي سويس" قبل عِقد، وحصل على ضمان هائل من الحكومة، فضلاً عن دعم تمويلي بقيمة 100 مليار دولار. في الولايات المتحدة، يجدر ذكر أنَّ وارن بافيت، خبير الصفقات المتمرس، يعرض خدماته مجدداً لمساعدة الحكومة الأميركية على حل مشكلة التمويل، والمرجح أنَّ الدافع وراء عرضه ليس الإيثار وحده.

نشهد مولد شكل جديد من الرأسمالية، يتزايد فيها التشابك بين البنوك والحكومات، إذ إنَّ الحكومات تختار الفائزين، وتحاول تمويل الصناعات المستقبلية. سيجني بعضهم أرباحاً طائلة من ذلك الشكل الجديد، وبلا شك سيرحب به الساسة لأنَّه يزيد من سيطرتهم على الاقتصاد. لكنَّ مطالعة المجلدات في مكتبة الأخطاء ستكشف أنَّ تدخل الدولة في الاقتصاد له مشكلاته أيضاً. وكبداية، يكفي النظر إلى أوجه قصور النظام المصرفي الصيني الذي تديره الدولة.

ربما سننظر إلى تلك الأسابيع القليلة على أنَّها الحقبة التي انتهت فيها بديهيات السوق الحرة، وقررت فيها الحكومات الغربية أنَّ التمويل هو مجال نفوذها. ثبتت سذاجة بعض المصرفيين مرة أخرى، فضلاً عن نفاق عدد أكبر منهم. غالباً كان هذا رأي آدم سميث فيهم. لكنَّ القطاع الأكبر من قوة السوق الحرة يكمن في براعتها ومرونتها، فقد كان التمويل جزءاً من ذلك برغم كل أخطائه، إلى جانب كوارثه العارضة التي تزيّن مجلداتها رفوف مكتبة الأخطاء، إذ ساعد خبراء إدنبرة الماليين في دفع قيمة التجارة والبنية التحتية والابتكار في أرجاء العالم. قد يكون التقدّم في المالية دواراً، لكنَّه ما يزال تقدّماً.

هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات

قصص قد تهمك

النشرة البريدية
تعرف على أحدث الأخبار والتحليلات من اقتصاد الشرق مع بلومبرغ
سجل الان
الآراء الأكثر قراءة