الإدارات الرئاسية لا تستمر على ما هي عليه من البداية حتى النهاية. لأسباب متنوعة؛ يتناوب كبار الموظفين على تقلّد المناصب، ويبدو أنَّنا نرى ذلك الآن مع إدارة جو بايدن. أفادت "بلومبرغ نيوز" مؤخراً أنَّه من المتوقَّع أن يغادر براين ديزي، كبير المستشارين الاقتصاديين للبيت الأبيض العام المقبل، منصبه كمدير للمجلس الاقتصادي القومي. هناك تكهنات بأنَّ سيسيليا روس، رئيسة مجلس المستشارين الاقتصاديين، ستغادر منصبها في العام المقبل أيضاً.
بالنسبة إلى بايدن؛ من المحتمل أن تكون مغادرة الشخصيتين بمثابة أخبار مُرحّب بها. فالسياسة الاقتصادية لإدارته في أمسّ الحاجة إلى إصلاح شامل بعد التكيف ببطء شديد مع واقع جديد يهدد سلامة الاقتصاد وفرص إعادة انتخاب الرئيس في عام 2024. عندما تولى بايدن منصبه افترض هو وفريقه أنَّهم سيتعاملون مع التحديات الاقتصادية نفسها التي ابتُليت بها الإدارات السابقة له، لا سيما التعافي من البطالة. (يحدث هذا عندما يكون نمو الوظائف بطيئاً على الرغم من المكاسب القوية في الناتج المحلي الإجمالي).
كان هذا الأمر جزءاً من اتجاه اقتصادي أكبر علماً أنَّ بعض الاقتصاديين أطلقوا عليه "الركود المزمن". كما كانت معدلات الادخار في جميع أنحاء العالم، وخاصة في آسيا، آخذة في الارتفاع، وكذلك كان الهروب من المخاطرة. انجذبت وفرة المدخرات العالمية نحو الأصول التي تشبه الملاذ الآمن، مثل سندات الخزانة الأميركية. أدت التدفقات الكبيرة نحو الأصول المقوّمة بالدولار إلى ارتفاع قيمة العملة، مما جعل الواردات في متناول المستهلكين الأميركيين. تمثلت النتيجة في اقتصاد اتسم فيه الاقتراض بتكلفة رخيصة، ولكن تعذّر إيجاد استثمارات منتجة لا تواجه خطر المنافسة الأجنبية منخفضة التكلفة. أما الحل؛ فقد تمثّل في طباعة المزيد من الدولارات وزيادة القدرة التنافسية للولايات المتحدة من خلال التخفيضات الضريبية للشركات الممولة بالعجز.
البيت الأبيض يخفض توقعاته بشكل حاد لنمو اقتصاد أميركا إلى 1.4% في 2022
إشباع شهية العالم تجاه السندات
ساد هذا الوضع قبل الجائحة، وفي أعقابها فرض نفسه واقع اقتصادي مختلف جذرياً. ربما يكون الإنفاق الهائل بالعجز قد أدى إلى إشباع شهية العالم تجاه سندات الخزانة وترك المستهلكين الأميركيين ينعمون بالمال، لكنَّ اضطرابات سلسلة التوريد أدت إلى زيادة الطلب على الاستثمار في الولايات المتحدة، وعلى ما يبدو كنتيجة مباشرة لـ "كوفيد – 19"؛ اختفى حوالي 4 ملايين عامل من سوق العمل. لذا؛ فإنَّ السياسات التي كانت مناسبة قبل عام 2020 أصبحت كارثية الآن. يبدو أنَّ طلب المستهلكين غير قابل للتدمير تقريباً، مع استمرار ارتفاع مبيعات التجزئة على الرغم من بذل مجلس الاحتياطي الفيدرالي قصارى جهده لكبح جماح الأسعار من خلال سياسة نقدية أكثر تشدداً. الأمن الوظيفي قوي، حيث ينتاب أرباب العمل حالة من التردد إزاء تسريح الموظفين خوفاً من كونهم لن يتمكّنوا من استعادتهم.
عوامل انتقالية وراء التضخم الأميركي
اشتهرت إدارة بايدن بالتباطؤ في توقُّع حدوث كل هذا، ووعدت في وقت مبكر بأنَّ ارتفاع معدل التضخم كان نتيجة لعوامل انتقالية وليس طلباً استهلاكياً قوياً بشكل أساسي مصحوباً بنقص العمالة على مستوى الاقتصاد. كان ذلك مفهوماً. يتعذر اكتشاف نقاط التحول في الوقت الفعلي. أما ما لا يغتفر؛ فهو الضغط المستمر لسياسات على غرار ما قبل الجائحة حتى الآن. ولم يستقر الديمقراطيون في الكونغرس على قانون تخفيض التضخم التدريجي إلا بعد إصرار عضو مجلس الشيوخ عن ولاية وست فرجينيا، جو مانشين، والذي كان قوامه الرئيسي الوحيد لخفض التضخم هو خفض عجز الميزانية بـ300 مليار دولار. ومع ذلك؛ فقد البيت الأبيض هذه المدخرات في ضربة واحدة فاشلة بسبب أمره التنفيذي الخاص بإعفاء ديون الطلاب.
الولايات المتحدة تُصدِّر التضخم.. ورفع أسعار الفائدة سيُفاقمه
سيكون من الخطأ تفسير الخسائر المتواضعة التي تكبّدها الديمقراطيون في الانتخابات النصفية على أنَّها تشير إلى أنَّ الناخبين مرتاحون لحالة الاقتصاد. وبدلاً من ذلك؛ كان رد الفعل العام ضد أحداث "6 يناير" وحملة: "فلنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى" بشكل عام هو الذي أنقذ الديمقراطيين مما كان يمكن أن يلحق بهم من هزيمة في انتخابات التجديد النصفي لولا ذلك. ما يزال معدل موافقة بايدن كئيباً ومتساوياً مع ما كان عليه دونالد ترمب خلال المرحلة نفسها في ولايته الأولى.
جو بايدن: تباطؤ الاقتصاد الأميركي "ليس مفاجئاً"
سباق جديد بين بايدن وترمب
إذا كان الجمهوريون يفضلون أن يترشح بايدن أمام ترمب على منصب الرئيس مرة أخرى، فربما يمكن لبايدن الفوز بولاية ثانية ببساطة من خلال مواصلة ما كان يقوم به. وإلا فإنَّ إدارته ستحتاج إلى التعامل مع البيئة الاقتصادية الجديدة على محمل الجد. وهذا يعني سياسات تقلّل الإنفاق الحكومي وتقلص عجز الميزانية وتزيد من الإيرادات الضريبية. هذه الأنماط من السياسات من شأنها أن تخفف الضغوط التضخمية طويلة الأجل، وتمنح "الاحتياطي الفيدرالي" فرصة للتوقف عن رفع أسعار الفائدة.
تشعر الدول بعد خروجها من الوباء بالقلق على نحو مشروع بشأن جعل سلاسل التوريد أكثر أماناً وأقل اعتماداً على الشركاء التجاريين. ومع ذلك؛ يجب على إدارة بايدن أن تسعى بقوة إلى اتفاقيات تجارية موسّعة مع حلفاء الولايات المتحدة مثل المملكة المتحدة واليابان من أجل تعظيم وفورات التكلفة من التجارة الحرة دون ترك البلاد عرضة لنقص مفاجئ. كذلك يجب أن تعمل على استقرار أسواق الطاقة العالمية على المدى الطويل عبر تشجيع إنتاج الغاز الطبيعي الأميركي وتصديره من خلال تعديل الحصول على تصاريح.
ستساعد هذه المجموعة من السياسات في تقليص الطلب المحلي، وزيادة المعروض من السلع والخدمات المتاحة للمستهلكين، وخفض التضخم، وجعل الناخبين يدركون أنَّ البيت الأبيض يتفهم أنَّ الظروف قد تغيّرت. إذا لم تستطع الإدارة القيام بذلك؛ فقد يكون من المرجّح بشدّة أن يكون الناخبون هم الذين يفرضون التغيير في عام 2024.