أتى نورمان إنجل في مطلع القرن العشرين بنبوءة شهيرة، أو ربما تكون سيئة الذكر، مفادها أن عهد التكامل التجاري عالمياً جعل من تنازع القوى العظمى حالاً باهظ الثمن ومدمراً لدرجة أنه لم يعد محل تفكير.
أثبت اندلاع الحرب العالمية الأولى بعد بضع سنين أنه أصاب حيال التكلفة والدمار، لكنه أخطأ بشأن استبعاد التفكير بوقوعها. جلبت الحرب العظمى نهاية عصر العولمة الأول، وتطلب إعادة بناء مستوى من التكامل على الصعيد العالمي أجيالاً واستمر لحين اغتيال فرانز فرديناند.
لا يداني غزو روسيا لأوكرانيا كصراع الحرب العالمية الأولى حجماً كما أن الاضطرابات التجارية الناشئة عن شبه حصار فرضته الولايات المتحدة وأوروبا على روسيا لا تقارن مع حصار بريطانيا لدول أوروبا الوسطى.
بايدن يعمد إلى إنهاء مكانة روسيا كشريك تجاري مفضل
لكن يشكل هذا الصدام خطوة هائلة ابتعاداً عن العولمة أتت، على النقيض من الحرب العالمية الأولى، فيما كان العالم قد شرع بالابتعاد عن التكامل الاقتصادي. بلغت حصة التجارة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي ذروتها في 2008 لتأخذ بالهبوط على مدى العقد الماضي.
لذا لا تشكل حرب أوكرانيا بالضرورة تحولاً تاريخياً عظيماً، لكنها تؤكد وربما تزيد انحسار العولمة.
انطلق هذا التقهقر من رد فعل شعبوي عنيف على الكساد الكبير وتباطؤ نمو التوظيف الذي جعل سياسات توفير الوظائف أكثر جاذبية من سياسات الكفاءة. ودخل منطق الصراع الجيوسياسي ضمن المعادلة في نهاية المطاف. أتت على سبيل المثال مبادرة "صنع في الصين 2025" التي دشنها الرئيس الصيني شي جين بينغ، غير مرتبطة بخلق فرص العمل، بل بتوفير فضاء اقتصادي للصين يسمح لها بالعمل باستقلالية سياسية.
اقتصاد مغلق منيع
كذلك كان الحال حين طالت العقوبات روسيا في 2014 عقب ضم فلاديمير بوتين شبه جزيرة القرم، فلم ترد بالانسحاب من شبه جزيرة القرم بل بتدشين جهود هائلة لاقتصاد يقيها تأثير العقوبات عبر التركيز على تعزيز الإنتاج المحلي.
كان هذا الأمر باهظ التكلفة على روسيا، التي تضم مناطق قليلة الكثافة السكانية وتتسم بغناها بالموارد الطبيعية، ما يحتم عليها بناء اقتصاد كبير يعتمد على التجارة. لكنها لم تنجح في مسعاها، حيث يبين نظام العقوبات الراهن أن الدول التي تحاول صيانة نفسها من التسلط الأمريكي ستكون بحاجة للحد من اعتمادها على سلاسل التوريد العالمية بطريقة أكبر.
الولايات المتحدة لا يمكنها مواصلة التهرب من قضية التجارة في آسيا
لا تتطلع غالبية الدول قطعاً لغزو جيرانها بلا مبرر. رغم ذلك، توجد إمكانية حتى لدى الأطراف الفاعلة الأكثر اعتدالاً من بوتين تدرك قيمة تحقيق الاستقلالية.
باتت أولوية السيادة الوطنية تفوق التجارة الحرة في كافة الأنحاء تقريباً لدى تفشي وباء كوفيد -19، فغدت مسألة موقع إنتاج الكمامات وأدوات الحماية الشخصية الأخرى ذات أهمية هائلة بطريقة مفاجئة.
كما أتى توفير اللقاح في الولايات المتحدة وأوروبا التي تمتلك قدرة إنتاجه سابقاً للبلدان منخفضة الدخل بل والدول الغنية الأخرى كذلك. يَعِد حزب العمال الأسترالي المعارض الآن بمحاولة تأسيس قطاع تصنيع محلي للقاح قائم على تقنية الحمض النووي الريبوزي المرسال (mRNA) مع التسليم بأن وباء كوفيد -19 لن يكون آخر وباء يضرب العالم وأن التعويل على سلاسل التوريد العالمية يُعد عامل ضعف.
صادرات الصين
توجد مسألة واحدة لم يختلف فيها الرئيس الأمريكي جو بايدن عن سلفه في الولايات المتحدة، وهي التجارة مع الصين. يحبذ بايدن، كما كان دونالد ترمب، "فصل" الاقتصادين الأمريكي والصيني وترك الولايات المتحدة أقل اعتمادية على الواردات الصينية. وما تزال الرسوم الجمركية على السلع الصينية التي اعتمدت في عهد ترمب سارية المفعول رغم مخاوف تصاعد التضخم. ينطوي قانون البنية التحتية الذي يحظى بدعم الحزبين الديمقراطي والجمهوري واعتمد في 2021 على بنود صارمة تتعلق بقاعدة "اشتر المنتج الأمريكي" ستزيد من التكاليف، حيث كان بين أفضل الوعود الانتخابية لبايدن في خطاب حالة الاتحاد هو وعده بأن "يضمن أن كافة الأشياء بداية من سطح حاملة الطائرات إلى الصلب المستخدم في صناعة حواجز حماية الطرق السريعة سيكون مصنوعاً في الولايات المتحدة من البداية وحتى النهاية. جميعها."
هل يمكن للشركات الوثوق بالموردين بعد أزمة سلسلة التوريد العصيبة في 2021
تشهد البلدان الأخرى مثل هذا، ويتسم نظام العقوبات المفروض على روسيا بأنه صارم تماماً وأنه غير عولمي بطريقة مفاجئة. تفكر القوى الإقليمية ذات الطموحات على غرار الهند والبرازيل ونيجيريا بأسلحة الدمار الشامل المالية الأمريكية وتتساءل كيف يمكنها إدخال تعديل على دفاعاتها خشية أن ينتهي بهم الحال في مرمى نيرانها.
توجد مبررات منطقية لهذا التراجع الكبير في العولمة لكن بنبغي التنويه إلى أنه سيكون باهظ الثمن. لم تربط بلدان العالم اقتصاداتها بهدف التسلية أو كتطبيق مجرد للعلاقات الدولية، وجنى المستهلكون في كافة أنحاء العالم فوائد هائلة من عالم يتمتع بالتخصص والميزة التنافسية والشحن الفوري وسلاسل التوريد المتطورة.
جيش عمالة
تبدو المخاوف الأمنية التي تسفر عن تقهقر العولمة حالياً منطقية، بيد أن الاقتصاديات الشعبوية التي حركت الموجة الراهنة على مر عقد هي بالأساس واهمة. كانت البطالة الكاملة في أعقاب الأزمة المالية غلطة مأساوية نجمت عن سياسة مبنية على الطلب، ولم تكن جريرة العولمة. توجد لدى أمريكا بالتأكيد إمكانية لمزيد من التنقيب عن النفط والغاز وتصنيع مزيد من السيارات والرقائق الإلكترونية الدقيقة وإنتاج صلب أكثر، لكن لا يوجد جيش هائل من العاطلين عن العمل يتطلبه القيام بهذا العمل. إن أعادت الولايات المتحدة توطين جزء كبير من السلع التي يمكن تبادلها تجارياً، فسيتبقى عدد أقل من الأشخاص للعمل في أنشطة بناء المنازل وتنظيف الأسنان وقص الشعر وطهي الطعام والعناية بالأطفال وكبار السن.
ألا يضاهي الجوع شح النفط تهديداً؟
قد تكون هذه تكلفة منطقية لتلببية متطلبات الأمن الواقعية، لكن يجب إدراك أن هذا له ثمن، حيث سترتفع الكلفة في ظل تخلي مزيد من البلدان عن العولمة. لدى العالم الأشد فقراً عدد أقل من العملاء لشراء الصادرات من الجميع، كما أن العالم الذي يكون أقل ترابطاً من الناحية الاقتصادية هو عالم يزيد فيه تخيل وقوع اضطرابات ونزاعات.
هل هذه التكاليف حتمية؟ ربما. لكن يمكن التخفيف من وطأتها.
استيراد العمال
أحد بدائل استيراد السلع المصنوعة في الخارج هو استيراد العمال الأجانب المولودين بالخارج. ويُعتبر المهاجرون، في عالم يعاني التضخم وشح الإمدادات ويتخلى عن العولمة بمن فيهم من يطلق عليهم "غير المهرة" ممن ينظفون المنازل ويغسلون الصحون ويجمعون المحاصيل الزراعية أصولاً اقتصادية ذات قيمة عالية. كما ينبغي النظر لأتمتة الوظائف الروتينية كفرصة وليس كمصدر للقلق.
كما يجب التفكير بطريقة عملية بالمشكلة الفعلية التي تحاول أي سياسة معينة التصدي لها. يُنظر لاتفاقية "نافتا" و"الصين" في المدن الصناعية في الغرب الأوسط الأمريكي على أنها كلمات سيئة الذكر بنفس القدر. رغم ذلك يوجد اختلاف هائل في واشنطن بين سلاسل التوريد التي تعتمد على الصين وتلك التي تتجه صوب المكسيك أو دول أمريكا الوسطى أو منطقة البحر الكاريبي.
أستراليا بحاجة لتوسيع الهجرة لسد عجز العمالة الماهرة
إن طُرحت فكرة إعادة توطين أنشطة تجارية باعتبارها ذات منفعة اقتصادية، فستخسر هذه الميزة. تتمثل الحقيقة حالياً، رغم ذلك، في أن تركيز التجارة على البلدان المجاورة الصديقة يشكل بديلاً قليل التكلفة عوضاً عن المحاولة المضللة لتحقيق الاكتفاء الذاتي. يعتبر الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور من أبرز المنتقدين لظاهرة العولمة، لكن بلاده ستحقق فائدة هائلة من طرح نفسها كموقع آمن إستراتيجي لأنشطة التعهيد.
يجب التأكيد فيما ينفرط عقد الترابط العالمي لأسباب منطقية، حيث لا أرغب أن يمضي العدوان الروسي بلا عقاب أو إن يصبح اقتصاد الولايات المتحدة رهينة للصين، إن التجارة الدولية ليست غولاً مخيفاً كما يصورها منتقدوها من الشعبويين. سنفتقد العولمة حين تختفي، كما أن النظر في بديلها ليس سابقاً لأوانه.