بلومبرغ
على طريق الملك عبد العزيز بالرياض، يُزيل عمال البناء الرمال من على الرصيف الجديد تماماً. في حين يُخرج بستاني نباتاً طويل الساق من إناء بلاستيكي ويمنحه منزلاً جديداً في الأرض، وهو يُمسّد التربة الحمراء الناعمة بيديه.
وخلفهم، تُعلن لافتات بارتفاع 15 قدماً عن الحدائق والقنوات المستقبلية لحديقة الملك سلمان. وهي خطة لتحويل قاعدة جوية في العاصمة الصحراوية بالمملكة العربية السعودية إلى مساحة خضراء عامة أكبر بأربع مرات من "سنترال بارك" في نيويورك.
اعتاد السعوديون على التغيير الجذري الذي حدث في مملكتهم على مدى السنوات الخمس الماضية في عهد ولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، ويشمل ذلك العلاج بالصدمة لتحويل المملكة إلى اقتصاد ما بعد النفط، وإنشاء مدينة عالية التقنية جديدة كلياً على البحر الأحمر، والتخفيف من قيود المجتمع بحيث يسمح للرجال والنساء بالاختلاط بحرية أكبر. لكن من بين أكثر الخطط طموحاً هي تحويل الرياض –التي تُعدّ واحدة من أكثر مدن العالم مترامية الأطراف، والمعتمدة على السيارات، والفقيرة في المياه- إلى نموذج للاستدامة.
ويعني هذا إنفاق عشرات المليارات من الدولارات من عائدات النفط السعودية على إعادة هندسة الحياة لسكان المدينة البالغ عددهم 8 ملايين نسمة، وإضافة الأرصفة، ووسائل النقل العام، والمركبات الكهربائية، وحدائق الأحياء، وملايين الأشجار.
والهدف هو جعل العاصمة خضراء بما يكفي لخفض درجة الحرارة المحيطة بها بمقدار درجتين مئويتين، مما يمنح المدينة حماية ضد تغير المناخ في منطقة تتجاوز فيها حرارة الصيف 44 درجة مئوية بالفعل.
اقرأ المزيد: الأمير محمد بن سلمان: هدفنا وصول السعودية لصفر انبعاثات كربون في 2060
إذا كان هذا لا يبدو تحدياً كافياً، فإن الأمير محمد يريد أيضاً مضاعفة عدد سكان الرياض في غضون 10 سنوات، وتحويل ما كانت مدينة محافظة نسبياً –حتى وفقاً للمعايير السعودية– إلى مركز أعمال إقليمي يمكنه التنافس على المواهب مع دبي. سيكون من الصعب اجتذاب الأجانب من ذوي التعليم العالي الذين يريدون الانتقال إلى الرياض دون جعل المدينة أكثر ملائمة للعيش.
تعليقاً على الموضوع، قال فهد الرشيد، رئيس الهيئة الملكية لمدينة الرياض، المكلّف بتنفيذ الخطة: "الفكرة بسيطة للغاية، وهي تقليل الزحف العمراني، وضمان زيادة الكثافة في المدينة التي بُنيت بالفعل لاستيعاب هذا القدر من السعة؛ فهي ضعف حجم سنغافورة".
بالطبع فإن المتشككين كُثر في الداخل والخارج. حيث تُعدّ المملكة العربية السعودية أكبر مُصدّر للنفط الخام في العالم ولديها أعلى نسبة انبعاثات لثاني أكسيد الكربون للفرد بين دول مجموعة العشرين.
اقرأ أيضاً: ولي العهد السعودي: استراتيجية لوضع الرياض بين أكبر 10 اقتصاديات مدن في العالم
في هذا السياق، تدعو "رؤية 2030" التي أطلقها ولي العهد لمستقبل بلاده إلى صناعات جديدة بدءاً من الترفيه وصولاً إلى الدفاع وإصلاح كامل للاقتصاد. ومع ذلك، ما تزال ثروات البلاد ترتفع وتنخفض مع النفط، في حين يعمل الأمير على إعادة جذب المستثمرين الأجانب، بعد مقتل الكاتب الصحفي في صحيفة واشنطن بوست جمال خاشقجي في عام 2018 على أيدي عناصر سعودية.
كما أن هناك أيضاً جوانب عملية لجعل الرياض المركز العصبي للمملكة العربية السعودية الجديدة: فقد زاد عدد سكان المدينة بالفعل 50 ضعفاً منذ عام 1950، مما أدى إلى ازدحام شوارعها وزيادة استهلاك إمداداتها المحدودة من المياه.
من جانبه قال ياسر الششتاوي، أستاذ الهندسة المعمارية المساعد في جامعة كولومبيا، والذي يُركّز على المدن العربية: "القضية الرئيسية بالنسبة لي عندما نسمع عن هذه الإستراتيجيات والمقترحات الطموحة للغاية هي ما إذا كان هذا يُمثّل تغييراً هائلاً حقاً، أم أنه مجرد نوع من تحريف الحقائق وإظهار صورة صديقة للبيئة".
في الواقع، فشلت المحاولات السابقة لإعادة تشكيل الرياض في تحقيق أهدافها، بما في ذلك إستراتيجية تطوير المدينة قبل 20 عاماً، والتي دعتْ إلى العديد من التغييرات نفسها كما هو الحال اليوم.
لكن في حال نجح المسؤولون ولو جزئياً، فستُقدّم الرياض للعالم دراسة حالة عن كيفية تكيّف المناطق الحضرية مع ارتفاع درجات الحرارة ونقص المياه.
وقال صالح الهذلول، مهندس معماري سعودي ومسؤول سابق في تخطيط المدن:
أشك في وجود بيئة أكثر قسوة مما لدينا هنا؛ وفي حال نجحنا في القيام بذلك، فيمكن تنفيذ هذا النموذج في أي مكان
تعود مشاكل العاصمة السعودية جزئياً لنموها السريع. فعندما انتقل الهذلول إلى الرياض في الستينيات، كان ما يزال من الممكن السير من جانب إلى آخر في المدينة، قبل أن تُغير الطفرة النفطية المملكة، حيث اعتاد السكان في ذلك الوقت على العيش في منازل تقليدية من الطين على طول ممرات ضيقة ومظللة.
ولكن على مدى العقود القليلة التالية، كانت المملكة العربية السعودية واحدة من أسرع البلدان تحضراً في العالم. حيث استقطبت المدينة المخططين الدوليين، بما في ذلك المهندس اليوناني، كونستانتينوس دوكسياديس، لتشكيل العاصمة، في حين كافح البناة لمواكبة الطلب.
أصبحت الرياض مدينة ذات شوارع واسعة تلتهب تحت أشعة الشمس. واليوم، تختبئ المناظر الطبيعية الخصبة داخل القصور الملكية والمنازل الخاصة. كما أن الأرصفة غير مترابطة أو غير موجودة؛ ويكاد من غير الممكن تصور الحياة بدون تكييف. حيث تحتاج في بعض الأحيان إلى ركوب سيارة أجرة فقط لعبور الشارع.
يقول عبد الإله الشيخ، الموظف الحكومي السابق الذي ساعد في صياغة الإستراتيجية في عام 2001، وهو الآن رئيس شركة "جاكوبس" (Jacobs) الهندسية في المملكة: "يبدو الأمر كما لو كنت تملك وصفة جدتك التي توارثتها الأجيال، إلا أنك بدأتَ في ارتياد ماكدونالدز ونسيتَ كيفية تحضير الوصفة. وربما أضعنا طريقنا، إلا أننا نحتاج إلى استعادة هذه المهارات".
للقيام بذلك، يُريد الرشيد، المسؤول عن تحوّل الرياض، وقف انتشار المدينة اللامتناهي شمالاً في الصحراء، والبدء في بناء أكثر كثافة، وارتفاعاً، واخضراراً.
تهدف إستراتيجية الاستدامة التي تبلغ تكلفتها 92 مليار دولار إلى خفض انبعاثات الكربون في الرياض إلى النصف، كما تدعو إلى زراعة 15 مليون شجرة وزيادة استخدام المياه المعالجة للري من 11% إلى 100%. كما يُخطّط المسؤولون لجعل 30% من جميع المركبات في المدينة تعمل بالكهرباء بحلول عام 2030. ويمكن لنظام مترو شبه مكتمل أن يحمل 4 ملايين راكب يومياً.
يوضح الرشد: "الخطة هي زيادة كمية معالجة مياه الصرف الصحي واستخدامها لتخضير المدينة فعلياً؛ وبالتالي خفض درجات الحرارة وتقليل الحاجة إلى التكييف، حيث يُجسّد هذا النهج تفكيراً قائماً على نظام منهجي".
وفقاً لرؤية الرشيد، فقد تعيش الأسرة السعودية المستقبلية في شقة بدلاً من فيلا، وتقضي وقت فراغها في الحديقة بدلاً من الفناء الخلفي. وفي هذا الصدد، يرى مشاري النعيم، أستاذ الهندسة المعمارية في جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل في الدمام، أن هذا المسار يُعدّ تحولاً في الثقافة التي تُقدّر الخصوصية بشكل كبير، وسيتطلب عقلية وطريقة حياة جديدة.
فضلاً عن ذلك، تضع إعادة التفكير هذه الرياض في خانة مدن مثل ميامي وبانكوك وغيرها، والتي تتصارع مع سبل التكيف مع تغير المناخ. كما تهدف كوبنهاغن إلى أن تكون أول عاصمة خالية من انبعاثات الكربون في العالم بحلول عام 2025. وتدعو خطة طوكيو البيئية الرئيسية لعام 2016 إلى تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري بنسبة 30% وإجراءات جديدة لمكافحة موجات الحرّ في الصيف.
إلا أن أياً من هذه المدن لا تسعى إلى مضاعفة عدد سكانها؛ وهو هدف ترك العديد من السعوديين مشدوهين، حتى وهم يحلمون بمستقبل أكثر ملاءمة للعيش في عاصمتهم.
ويقول الششتاوي، الأستاذ في جامعة كولومبيا: "تكمن المشكلة الرئيسية هنا في حقيقة أن مثل هذه المبادرات دائماً ما تكون من قمة الهرم إلى قاعدته، وهو ما يحول دون مشاركة الناس إلى حدٍ ما؛ فهناك انفصال بين السياسات المُراد تنفيذها وكيفية تنفيذها فعلياً على أرض الواقع".
اقرأ أيضاً: القدية تمنح عقداً إنشائياً بقيمة 3.75 مليار ريال لتشييد متنزه Six Flags
ما من شكٍ في أن بعض خبراء التخطيط الحضري السعوديين يأملون في أن تنجح الرياض الجديدة هذه المرة، ولا سيما أنها ترتكز على دعم ملكي كامل لها. ولكن في بعض الأحيان، قد يُلقي التركيز على الرؤية الكبرى بظلاله على الإجراءات الأصغر التي يمكن أن يكون لها تأثير كبير على نوعية الحياة، كما قال العديد من المخططين والمهندسين المعماريين.
في هذا السياق، يضرب الشيخ مثالاً هو وادي حنيفة الوارف الذي يمرّ عبر الرياض. حيث كان يوماً ما مكبّاً للنفايات ومصدراً لمواد البناء؛ حيث استغرق برنامج إعادة تأهيله عقوداً لتغييره.
خلال عطلة نهاية أسبوع ذات طقس معتدل مؤخراً، شقّ راكبو الدراجات والمشاة طريقهم على طول الطرق الترابية؛ في حين زقزقت العصافير، وتصاعد الدخان من الشوايات بينما كانت العائلات تفرش البطانيات للتمتّع بالنزهات.
ويعلّق الشيخ على ذلك بقوله: "إنها منطقة جميلة الآن. ولكن عندما يراها الناس ويعيشون في أحضانها، فإنهم لا يُدركون مقدار الجهد الذي تطلبه الأمر لجعلها على هذه الصورة".