لماذا يجذب قطاع التمويل الموظفين غير الجديرين بالثقة؟

كيف سيكون أداء تيم لينسر في "لعبة الثقة"، فيما لو شارك فيها؟ - المصدر: بلومبرغ
كيف سيكون أداء تيم لينسر في "لعبة الثقة"، فيما لو شارك فيها؟ - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

اعترف المصرفي السابق في "غولدمان ساكس"، تيم ليسنر، في الفترة الأخيرة بقيامه بكثير من السلوكيات المخادعة والفظيعة.

في استجواب من قِبل كل من الادّعاء والدفاع، اعترف ليسنر بتزوير مستندات متعلقة بالطلاق، وإنشاء حسابات بريد إلكتروني زائفة، والزواج بعدد من النساء في وقت واحد، والاحتفاظ بأموال ليست له.

هذا مجرد تلخيص موجز لمقال بقلم باتريشيا هورتادو من "بلومبرغ نيوز"، تضمن أيضاً قائمة غريبة من "شبكة أكاذيب" ليسنر. بالنسبة إلى هيئة المحلفين في محاكمة روجر إنغ بشأن دوره المزعوم في نهب الصندوق السيادي الماليزي "وان إم دي بي" (1MDB)، تمثل المراوغات المتسلسلة لرئيس إنغ السابق، ليسنر (الذي اعترف فعلاً بالذنب)، بعض التحديات لتحديد مدى جدية شهادته.

اقرأ أيضاً: ما بين الاحتيال والجنون.. كيف ينخدع المستثمرون في شركات "وادي السليكون" الناشئة؟

لكن بالنسبة إلينا، تطرح تلك المراوغات بعض الأسئلة المثيرة للاهتمام: هل كان ليسنر، الذي كان في وقت ما رئيس منطقة جنوب شرق آسيا في أرقى مؤسسة مالية في العالم، حالة استثنائية تماماً؟ أم أنه فقط كان يتخطى الحدود ويفتقر إلى الأمانة لأقصى حد في صناعة مالية تتسم بكثير من السلوكيات المراوغة الأخرى؟

يحاول بحث جديد (نسبياً)، أعدّه أربعة أساتذة أعمال واقتصاد مقيمين في ألمانيا والنمسا، الإجابة عن هذا السؤال نوعاً ما، وقد نُشرت نسخة منه مؤخراً في المجلة العملية "مانجمنت ساينس" (Management Science) بعنوان "التفضيلات الاجتماعية للمهنيين الشباب والصناعة المالية". لكن مسوّدة سابقة غير محظورة من البحث، حملت عنوان: "الأمانة في الصناعة المالية"، كان استنتاجها الرئيسي أن طلاب الجامعات الذين يحصلون على درجات منخفضة في الأمانة والثقة في إطار لعبة بسيطة، هم أكثر ميلاً من غيرهم إلى العمل في مجال التمويل.

اقرأ المزيد: ثري وراء أزمة انهيار شركة عقارية يجلس الآن على جبل ديون بـ9 مليارات دولار

على الأغلب، يساوركم الآن فضول لمعرفة مزيد عن تلك اللعبة التي استحدثها ثلاثة أساتذة محاسبة أمريكيين عام 1995. إنّ هيكلية اللعبة هي كالتالي:

يقرر اللاعبون في غرفة "أ" حجم المبلغ المقتطع من رسوم المشاركة البالغة 10 دولارات، الذي يريدون إرساله إلى لاعب آخر مجهول في الغرفة "ب"، ويُبلَغ اللاعبون بأن كل دولار مرسل سيتضاعف ثلاث مرات مع وصوله إلى الغرفة "ب"، ثم يقرر اللاعبون في الغرفة "ب" مقدار الأموال المتضاعفة التي سيحتفظون بها، والمبلغ الذي سيرسلونه مجدداً إلى نظرائهم المعنيين.

قياس الفروق الفردية

وصف أساتذة المحاسبة هذه اللعبة بـ"لعبة الاستثمار"، فيما اتجه آخرون لتسميتها بـ"لعبة الثقة". بالنسبة إلى علماء الاجتماع، أصبحت هذه اللعبة كما وُصفت في أحد مقالات المراجعة الحديثة، "العمود الفقري لقياس الفروق الفردية في الثقة والأمانة". ويقال إنّ القرارات التي تُتخذ في الغرفة "أ" تعكس الثقة، في حين أن قرارات الغرفة "ب" تعكس الأمانة. أي إنه كلما زاد المال الذي يرسله الشخص إلى الغرفة "ب" من الغرفة "أ"، كان الشخص أكثر موثوقية، وكلما زاد المال الذي يعيده الشخص من الغرفة "ب" إلى الغرفة "أ"، كان أكثر أمانة.

كان رد فعلي الأوّلي عند قراءة وصف اللعبة أن أولئك الموجودين في الغرفة "ب" الذين بخلوا بإعادة المدفوعات إلى الغرفة "أ" كانوا مجرد أشخاص أنانيين، فهُم لم ينكثوا بالالتزامات وإنما تصرفوا فحسب مثل "الرجل الاقتصادي" بارد الدم، وفقاً لنظرية الاقتصاد الجزئي وتعظيم مكاسبهم بأقصى حد. وافترض مصممو لعبة الثقة الأصلية أن يكون "توازن ناش" الحل الذي يجب أن يتوصل إليه اللاعبون العقلانيون في لعبة غير تعاونية، وهو أن يحتفظ الجميع بأموالهم.

يميل المشاركون الفعليون في لعبة الثقة إلى أن يكونوا أكثر حكمة، فهُم يدركون أن سلوك الثقة في الغرفة "أ" يزيد حجم الكعكة للجميع، رغم أنهم عموماً غير مستعدّين لتعظيم المكاسب المحتملة من خلال تسليم كل الأموال. وعندما أجرى مؤلفو البحث الذي ألهمني كتابة هذا المقال، وهم أندريه غيل، وماتياس هاينز، وهاينر شوماخر، وماتياس سوتر، تطبيقاً لنسخة من لعبة الثقة هذه (التي لعب فيها كل مشارك كلا الدورين) بين 265 طالباً في إدارة الأعمال والاقتصاد في جامعة غوته في فرانكفورت عام 2013، أرسل طلاب الحركة الأولى (الغرفة "أ") ما متوسطه 38.7% من الأموال إلى أصحاب الحركة الثانية (الغرفة "ب")، الذين أعادوا بدورهم 20.5% من المبلغ (المضاعف ثلاثة أضعاف).

ليس مجرد أنانية

سأل غيل وزملاؤه الطلاب عن اهتماماتهم المهنية، وفي أثناء لعبهم في دور الحركة الأولى لم يكن سلوك 70 طالباً ممن لديهم اهتمام كبير بالمهن المالية مختلفاً كثيراً عن الآخرين. أما من بين أصحاب الحركة الثانية، فقد أعاد أولئك الذين لديهم اهتمام كبير بالقطاع المالي 15.5% فقط من الأموال، في حين أعاد 91 طالباً من ذوي الاهتمام المنخفض في المجال 24.3%، و104 من ذوي الاهتمام المتوسط 22.3%.

هذا الاختلاف ذو دلالة إحصائية، إذ تبلغ القيمة الاحتمالية (احتمال أن يكون ناتجاً عن تباين عشوائي) 0.001. لذلك بدا للباحثين الأربعة أن البحث يستحق النشر في مجلة أكاديمية، وبعد مقاومة من المجلات الأكاديمية تفيد بأن التفضيلات المهنية المعلنة للطلاب قد لا تكون ذات دلالة كبيرة، تتبعوا بعد ذلك 231 من المشاركين في عامَي 2019 و2020 لمعرفة مزيد عن مسارات حياتهم المهنية. وكانت النتائج متشابهة إلى حد كبير. فمن بين الـ75 مشاركاً الذين دخلوا مجال التمويل، كان متوسط الحصة التي أعادوها عندما كانوا أصحاب الحركة الثانية 14.8%، مقابل 22.8% بين البقية. ومجدداً كان في سلوك أصحاب الحركة الأولى اختلاف بسيط.

بالنسبة إلى المؤلف المشارك سوتر، مدير مجموعة الاقتصاد التجريبي في معهد ماكس بلانك لأبحاث السلع الجماعية في بون، فإن التباين بين أداء صاحب الحركة والأولى والثانية هو مؤشر على أنه ليس مجرد أنانية في العمل. وقال لي: "إذا كان الأشخاص الذين عملوا لاحقاً في الصناعة المالية أكثر أنانية، فمن المتوقع أنهم سيرسلون أقل عند لعب دور صاحب الحركة الأولى.. لكنهم لديهم المستوى ذاته من الثقة بالآخرين، ولكن في رد فعلهم على إعادة الأموال يتصرفون بشكل مختلف".

التعاون والمكاسب

وجدت تجربة أخرى أجراها هاينز وشوماخر بين الطلاب في جامعتَي كولونيا ودوسلدورف أن أولئك الذين لديهم اهتمام كبير بالتمويل كانوا أقل استعداداً للتعاون في لعبة جماعية ما لم يتمتعوا بفوائد واضحة من التعاون، ولا يمكن الاعتماد عليهم كثيراً للمساهمة في النجاح المشترك، الأمر الذي يجعلهم إلى حد ما أقل جدارة بالثقة.

سواء اقتنعت بذلك أم لا، فإنّ الأمر يتطابق مع التصورات العامة السلبية عن المصرفيين وغيرهم في مجال التمويل، خصوصاً منذ الأزمة المالية العالمية في عامَي 2007 و2008. ويبدو أن ذلك قد يكون سيئاً للقطاع المالي والاقتصاد ككل، وجزء من نقطة لعبة الثقة هو أن سلوك الثقة يزيد الثروة الإجمالية، وهو أمر يميل لأن يكون صحيحاً خارج مختبر الاقتصاد التجريبي أيضاً.

إذًا، ما الذي يجب عمله؟ قبل عام 1990 كان العاملون في القطاع المالي يتقاضون أجوراً مُعدَّلة حسب التعليم، مماثلة لتلك التي في المجالات الأخرى. ومنذ ذلك الحين، وبفضل إلغاء القيود التنظيمية، تفوقت الأجور في قطاع التمويل في المنافسة، ما جعلها "جذابة للغاية للأشخاص الذين لديهم قدر أكبر من جينات الأنانية" كما يقول سوتر. وخلُص هو وزملاؤه إلى أن الإصلاحات المقترحة للحد من مخاطر الأزمات المالية من خلال تغيير هياكل الحوافز في القطاع قد يكون لها أثر جانبي مرحَّب به، يتمثل في جذب أنواع مختلفة من الناس إلى القطاع.

ربما هناك شيء من هذا القبيل. من الواضح على الأغلب أن الهدف الأساسي من هذا البحث هو ببساطة الإعلان عن نتيجة تجريبية مثيرة للاهتمام وربما مهمة، وليس تقديم مخطط للإصلاح المالي، رغم أن مقترحات السياسة جعلتني أتساءل عن الوظائف التي قد يفضلها الأشخاص "غير الجديرين بالثقة" إذا أصبح قطاع التمويل أقل جاذبية. قال سوتر عندما سألته عن ذلك: "ليس لدي أي فكرة". ثم أعاد التفكير وقال: "أظن أنهم سيذهبون إلى الاستشارات".

اضغط هنا لقراءة المقال الأصلي
هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات

قصص قد تهمك

الآراء الأكثر قراءة