إنه ذلك الوقت من العام مرة أخرى -عندما يأخذ المتعلمون في كل مكان استراحة من أعمالهم المكتبية، ويفصلون أجهزتهم الإلكترونية، ويعيدون قراءة رواية توماس مان "الجبل السحري" (The Magic Mountain).
ربما يكون أصحاب المصالح قد سافروا إلى الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي في سويسرا، ويتنقلون من اجتماع إلى آخر. غير أن أصحاب الخبرة والثقافة الرفيعة يفضلون أن يطلقوا أنفسهم تسبح في دافوس التي أبدعها خيال توماس مان.
الأمر لا يقتصر على أن هذه الرواية واحدة من روائع الأدب، فيما يتعامل دافوس مع تقارير الشركات النموذجية الجافة، بل إن رواية مان، التي كُتبت في عام 1924، ما زالت تنطوي على كثير مما ينبغي أن نتعلمه عن أحوال عالمنا اليوم، أكثر مما لدى أي عدد من السياسيين ورؤساء البنوك المركزية وقادة الرأي.
إن الاجتماع السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي يشكل ممارسة للأخلاقيات المتراجعة على نطاق واسع. فما هو الشيء الذي يُعد أشد تراجعاً من السفر عبر العالم على متن طائرة خاصة لمناقشة "سياسة صفر الانبعاثات الإيجابية لحماية المناخ"؟ أو التفاخر بالتنوع والإنصاف والشمول بينما تحصل لنفسك على ثلاثمئة ضعف ما تدفعه لعمالك ممن يقومون فعلاً بالأعمال الحقيقية؟
كان موضوع مؤتمر هذا العام هو "إعادة بناء الثقة" –وكأن مهرجاناً احتفالياً يجمع الأثرياء وأصحاب النفوذ في منتجع منعزل للتزلج على الجليد من شأنه أن يفعل أي شيء آخر غير زيادة تآكل الثقة في المؤسسة العالمية. كم هو مناسب أن يتميز اليوم الأول من المؤتمر بانتصار ساحق للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب في التجمع الجمهوري في ولاية أيوا.
مصحة "الجبل السحري"
قال توماس مان كل ما ينبغي أن يُقال عن هذا التراجع الأخلاقي برواية "الجبل السحري"، وتستطيع أن تستوعب أفكاره دون تعريض نفسك للانزلاق على الجليد عند الانتقال السريع من جلسة مكتظة من جلسات المنتدى الاقتصادي العالمي إلى أخرى.
اعتمدت الرواية على فترة إقامة الكاتب مع زوجته في مصحة في دافوس عام 1912، لكنها تحولت إلى قصة رمزية عن الحالة المرضية للثقافة الألمانية بأكملها.
تحكي الرواية قصة هانز كاستورب، وهو مهندس ألماني شاب يزور ابن عمه في مصحة لأشخاص يعانون من مرض السل، عازماً على البقاء هناك لمدة ثلاثة أسابيع، ولكن بعد مرضه لفترة وجيزة، ينتهي به الأمر إلى البقاء لمدة سبع سنوات، وذلك بعد تحذير الأطباء من أن مرضه القصير قد يكون عرضاً لمرض آخر أشد خطورة. وسرعان ما تغريه الحياة الروتينية في المصحة، بوجباتها السخية، وقيلولة ما بعد الظهر، والإشراف الطبي على مدار 24 ساعة. لكن تلك الحياة متدنية بقدر ما هي مغرية، فهي حياة مريضة ومنعزلة تماماً عن العالم الخارجي الواسع.
يختلف تراجع أخلاقيات المنتدى الاقتصادي العالمي تماماً عن ذلك الذي فصله مان في روايته. فالمشاركون في المنتدى يتميزون بفرط الحركة والنشاط بينما المرضى في المصحة يتسمون بالكسل واللامبالاة والخمول– ويندفع رواد المنتدى بسرعة من اجتماع إلى آخر بدلا من تناول خمس أو ست وجبات في اليوم. إنهم يستمعون إلى أحاديث جديرة بالاهتمام حول المشكلات والحلول من قبل رؤساء الحكومات وقادة البنوك المركزية ونجوم أساتذة الجامعات، بدلاً من وضع رؤوسهم في الرمال مثل شخصيات مان.
غير أن هناك أوجه شبه عميقة تحت السطح بين الاثنين، فنفس نوعية الإرهاق في عالم اليوم هي التي كانت موجودة في ألمانيا توماس مان قبل الحرب. فقد نفدت طاقتنا على كل هذا النشاط المفرط والمهووس، الذي لم يظهر بقدر من الوضوح أعلى مما ظهر وسط سادة هذا الكون المجتمعين فوق الجبل، إذ يعاني الاقتصاد من الركود، وخاصة في أوروبا، وتعاني الثقافة من الابتذال والتكرار– انظر إلى كل تلك الإصدارات المعادة من الأفلام والموسيقى والمسلسلات. وهناك نفس الانفصال بين أولئك الذين تجمعوا في دافوس –سواء كانوا مندوبين إلى مؤتمر أو سكان مصحة– وبقية العالم.
مستقبل المجتمع الليبرالي
مع ذلك، لا يقدم المنتدى الاقتصادي العالمي أي شيء يمكن مقارنته بالجدل حول مستقبل المجتمع الليبرالي في رواية "الجبل السحري".
ففي الكتاب، يلتقي كاستورب اثنين من المثقفين، يعيشان في قرية دافوس أسفل موقع المصحة، أحدهما إيطالي يتبنى النزعة الإنسانية ويدعى لودوفيكو سيتيمبريني، والآخر كوزموبوليتاني يهودي المولد يُدعى ليو نافتا ويميل إلى تأييد الثورة الشيوعية والكاثوليكية التقليدية. ويشتبك الرجلان في جدال شديد حول المزايا النسبية لليبرالية وعدم الليبرالية يمتد إلى كل القضايا المهمة في أوروبا ما قبل الحرب، ومنها: القومية والنزعة الفردية والإنصاف والتقاليد والحرب والسلام والإرهاب وغيرها.
يردد سيتيمبريني بطريقة آلية مبادئ الليبرالية الأساسية، ويبدو أنه لا يدرك أن العالم أصبح مختلفاً تماماً عما كان عليه في عام 1850. ويغمغم نافتا بازدراء، ثم يقول: "إن سر عصرنا ومبدأه ليس تحرير الأنا وتطوره. ما يحتاجه عصرنا، وما يتطلبه، وما سيصنعه لنفسه، هو– الإرهاب". يطبق نافتا إيمانه بالإرهاب في الممارسة بـ"الانتصار" على سيتيمبريني في المناقشة من خلال تحدي صاحب النزعة الإنسانية ودعوته إلى المبارزة، ثم ينتحر برصاصة في رأسه، وبالتالي يحتفي بإخلاصه للإرهاب، دافعاً خصمه إلى الاكتئاب وجلد الذات.
المشهد الأخير من المنتدى الاقتصادي
تنطبق هذه الفكرة على عالم اليوم مثلما كانت في زمن كتابتها. إن سيتيمبريني يشبه معظم الليبراليين في عصرنا من ذوي النوايا الحسنة، العاجزين عن إدراك أن العالم الذي عهدوه في شبابهم قد تغير ولم يعد بالإمكان التعرف على ملامحه. إن حماس نافتا لمزج العقائد غير المتوافقة التي لا تشترك في شيء سوى عدائها لليبرالية هو أمر مألوف جداً في عصرنا أيضاً، فلدينا تقدميون يقفون في صف الإرهابيين، ومسيحيون إنجيليون ينحازون إلى دونالد ترمب، ويبدو أن ليبراليتنا مثل ليبرالية سيتيمبريني، عاجزة عن أي شيء سوى دفع معارضيها إلى الجنون.
في رواية "الجبل السحري"، ينتهي الجنون غير الليبرالي أخيراً مع اندلاع الحرب العالمية. يسمع كاستورب عن "مقاتلة هائلة" تدور على أراضي السهول أسفل المصحة، فيقرر مغادرتها والعودة إلى حركة التاريخ بدرجة كبيرة ضد رغبة الأطباء الذين يقومون على رعايته.
وفي المشهد الأخير من الرواية، يشارك في هجوم لفرقة من جنود المشاة ويغني لنفسه أغنية "شجرة الزيزفون" (Der Lindenbaum) من مجموعة "رحلة الشتاء" (Winterreise) للموسيقار النمساوي فرانز شوبرت، في تجسيد للهاجس الرومانسي العظيم لرغبة أوروبا في الموت.
نفس شعور "المقاتلة الهائلة" يخيم على العالم اليوم. فقد ألقى فولوديمير زيلينسكي خطاباً يهدف إلى حشد الدعم لمقاومة أوكرانيا للعدوان الروسي. وناقش المندوبون بقلق الأحداث في الشرق الأوسط وتهديد الصين بالحرب في تايوان. غير أن هناك اختلافاً واحداً يدعو للتفاؤل بين رواية توماس مان ودافوس اليوم. فقد كتب مان روايته بعد مرور ست سنوات على واحدة من أفظع المذابح في تاريخ البشرية نتجت عن التراجع الأخلاقي الذي قام بتحليله في الرواية. أما نحن، فما زال أمامنا وقت يكفي فقط لوضع نهاية أفضل لقصتنا.