لا يحتاج المرشحون المحتملون لشغل منصب محافظ بنك اليابان إلى أن يكونوا أساتذة في حل الأزمات للحصول على الوظيفة. فمع استعداد الحكومة لاختيار خليفة هاروهيكو كورودا، الذي شغل هذا المنصب لعقد كامل، ستختلف متطلبات تعيين المحافظ الجديد تماماً عن عملية اختيار سلفه التي جرت في الأشهر الأولى من 2013.
كما لا يحتاج محافظ بنك اليابان إلى أن يكون بطلاً خارقاً رغم رهان المشككين في المركزي على أنهم يستطيعون الضغط لتغيير سياسته النقدية بشكل جذري، في الوقت الذي تتجه فيه أعين العالم إلى نهضة اليابان الجيوسياسية.
نعم، احتاجت اليابان لتفكير ثوري قبل 10 سنوات حتى تنقذ الوضع بسرعة بعد انكماش الأسعار، لكن الأمور أصبحت أكثر بساطة الآن. وأي خبير مصرفي بالمركزي قد يفي بالغرض.
أقوى المرشحين
ذلك أحد أسباب عدم وجود أسماء معروفة تُذكر على قائمة المرشحين للمنصب. فقدامى المسؤولين في بنك اليابان هم أقوى المنافسين، وفقاً لمتابعي المركزي، الذين ما يزال أغلبهم يتوقعون ذهاب المنصب لماسايوشي أماميا، نائب المحافظ الحالي، أو هيروشي ناكاسو، نائب المحافظ السابق.
على الجانب الآخر، من المستبعد ثبوت الشائعات التي تتنبأ باتخاذ اختيار مفاجئ، مثل أكيو تويودا، الذي يتأهب لترك منصب الرئيس التنفيذي لشركة "تويوتا موتور".
أياً كان من سيتولى المنصب، لا شك أن التحديات التي سيواجهها ستكون هائلة، فمسؤولي السياسة النقدية قلما تكون مهماتهم سهلة.
على سبيل المثال، واجه ألان غرينسبان وبن برنانكي وجيروم باول أزمات في سنواتهم الأولى بمنصب رئيس بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي، ولم يكد ماريو دراغي يتولى منصبه في البنك المركزي الأوروبي حتى شرع في عملية إنقاذ لليورو.
لكن من يختاره رئيس وزراء اليابان، فوميو كيشيدا، في منصب المحافظ لن يكون مطالباً بحل أزمات حادة يواجهها الشعب الياباني.
مهام المحافظ الجديد
بالمقارنة مع الصعاب التي اضطر كورودا لتجاوزها في 2013، تبدو مهمة المحافظ الجديد عادية تقريباً، إذ سيتركز عمله على تشديد السياسة النقدية قليلاً دون مبالغة، مع ترقب تأثير الركود العالمي المحتمل الذي ما يزال يتوقعه بعض المحللين الاقتصاديين. بعبارة أخرى، كلها أمور معتادة بالنسبة لمصرفيي البنوك المركزية.
بنك اليابان يتمسك بأسعار الفائدة المتدنية رغم التشديد النقدي العالمي
كان الوضع مختلفاً تماماً قبل عقد، حيث كان تعيين كورودا، وما تلاه من إطلاق سياسة التيسير الكمي المكثفة -التي اشتُهرت باسم "كورودا بازوكا"- بمثابة الخطوة الأخيرة اللازمة للتخلص من الأزمة الاقتصادية المحتدمة.
وصل شينزو آبي، رئيس الوزراء السابق، للسلطة في 2012 على وعد بتحقيق شيء أشبه بالثورة في السياسة النقدية، إذ رفع وتيرة التيسير النقدي، وحدد مستوى مستهدفاً رسمياً للتضخم عند 2%، وهو جزء من حزمة شاملة عُرفت باسم "آبينوميكس" (Abenomics).
صوّر "آبي" نفسه على أنه معارض أيديولوجي لماساكي شيراكاوا، محافظ البنك حينذاك الذي وُجهت له انتقادات بأنه لم يتحلَّ في إدارته للبنك بالحزم الكافي في مواجهة التراجع الياباني.
إعادة إحياء النمو الاقتصادي
وإلى جانب الإنفاق النقدي والإصلاح على مستوى الجهات التنظيمية، كان هدف "آبي" تحقيق كل ما يتطلبه الأمر لإعادة إحياء النمو الاقتصادي ومكانة اليابان على مستوى العالم.
لتحقيق ذلك، استمر "آبي" في الضغط والتهديد بإدخال قوانين لإلغاء استقلال بنك اليابان، إذا لم يعمل شيراكاوا لتحقيق المستوى المستهدف الذي حدده آبي للتضخم عند 2%. وكان قلق "آبي" مبرراً، حيث كانت تلك لحظة أشبه بمفترق طرق مثلها كمثل فيلم "Sliding Doors" الشهير، في ظل التهديد باستمرار انكماش الأسعار.
نائب محافظ بنك اليابان: لا تغيير للسياسة النقدية في مارس
جذبت الصين كل الاهتمام حينها، بعد تفوُّق ناتجها المحلي الإجمالي وقتها على نظيره في اليابان، التي كانت ما تزال تواجه صعوبات في التعافي من زلزال 2011 وموجات تسونامي التي تلته. وتطلبت تلك الفترة اتخاذ خطوات. ولم يخيب "آبي" الظنون، عندما تعلق الأمر بنطاق رؤية سياسته النقدية على الأقل.
"الرأسمالية الجديدة"
على النقيض من ذلك، لا يمكن لرئيس الوزراء الحالي التفاخر بمثل هذا المخطط الكبير. رغم أنه يشارك "آبي" في رغبته بفرض نفوذ اليابان على الساحة العالمية، لكن لا يبدو أن السياسة النقدية أحد القضايا التي تثير شغفه.
أيضاً لم تلق سياسة كيشيدا الاقتصادية التي اشتهر بها، وأُطلق عليها "الرأسمالية الجديدة"، صدى لدى المصوّتين والمثقفين والمستثمرين في الخارج. وانتشر الرعب في الأسواق بسبب حديثه الجريء عن إعادة توزيع الدخل، لكن تلك الوعود لم تظهر قي سياساته الفعلية، التي لم تقدم جديداً يذكر حتى الآن، على غرار توسيع نطاق حسابات الاستثمار المعفاة من الضرائب.
وتعلق الدولة آمالها من جديد على المحادثات السنوية عن الأجور لتكوين الدورة المثمرة لزيادات الرواتب مقابل التضخم التي استعصى على البلاد تحقيقها لعقود.
محافظ بنك اليابان: تعديلات السياسة ليست خروجاً عن التيسير النقدي
أيضاً، سيواجه من يتولى المنصب في أبريل المقبل دعوات متزايدة لتفكيك بعض الأجهزة الداعمة للسياسة النقدية المفرطة في التيسير على الأقل، والتي أصبحت سمة مميزة لعصر "كورودا".
مزيد من التكهنات
ازدادت التكهنات منذ ديسمبر الماضي بسماح بنك اليابان لأسعار الفائدة في السوق على المدى الطويل بالارتفاع، عندما فاجأ كورودا المستثمرين برفع سقف عوائد السندات الحكومية لأجَل 10 سنوات قليلاً.
لطالما اعتُبر توسيع نطاق العائد حول الصفر أمراً سيقوم به المحافظ التالي حينما يحين الوقت، وليس بالضرورة أحد أول المهام التي سيقوم بها. (يتوقع أغلب المحللين الاقتصاديين أن رجلاً سيتولى المنصب).
عصر العائدات السلبية يولّي مع ارتفاع سندات اليابان فوق الصفر
لكن اليابان تتحدث عن التخارج من سياسة أسعار الفائدة المنخفضة منذ عقود، مثلما تحدثت عن ضبط الموازنة.
مع احتمالات ضعف نموها الاقتصادي، يكاد بنك اليابان لا يواجه خيارات سوى الإبقاء على أسعار الفائدة منخفضة، خصوصاً أثناء الحديث عن رفع الإنفاق على كل البنود، من الدفاع إلى سياسات تعزيز معدل المواليد.
من المتوقع أن تقدم تصريحات المحافظ الجديد وعوداً بتطبيع السياسة النقدية، فيما يواصل تأجيل حل المشكلة الأساسية.
سياسة أكثر تقليدية
تغيير السياسة النقدية بتشديدها إلى حد ما، لكن دون كبح النمو، ليس مهمة سهلة. وتوسيع نطاق العائد مرة أخرى فقط، سيؤكد ببساطة ما يتردد حول تطبيق مزيد من التشديد مستقبلاً، كما سيختبر المتداولون تأثير النطاق الجديد فوراً.
لم يتحسن أداء السوق بشكل كبير، وهو أحد الأسباب التي أشار لها كورودا في حديثه عن الصدمة التي حدثت في ديسمبر الماضي. ويملك بنك اليابان شرائح ضخمة من سوق أدوات الدخل الثابت، بفضل التيسير النقدي القوي.
وربما يكون من الأسهل إلغاء التحكم في منحنى العائد بدلاً من الاستمرار في تعديله. يوحي ذلك بالتحول إلى ما يشبه سياسة أكثر تقليدية.
نائب محافظ بنك اليابان: لا تغيير للسياسة النقدية في مارس
في العديد من السيناريوهات، يرتفع سعر الفائدة القياسي أيضاً من المستوى السلبي، لكن ليس بكثير. وسيكون الصفر بداية جيدة.
وإذا كنت تتساءل عما إذا كان هناك الكثير من التعقيدات ومساحة للوقوع في الخطأ؟ فالإجابة هي نعم بالطبع. لكن تحويل مسار السياسات، في عصر يشهد ارتفاع التضخم بشكل معتدل، سيكون مهمة عادية لمصرفيي البنوك المركزية.
إطار عمل جديد
سيتطلب التخلص من إرث كورودا إطار عمل جديد في نهاية المطاف. وبقدر ما يبدو ذلك صعباً؛ فإن تحديد نطاق هذه المهمة أسهل بكثير من التوقعات بأداء دور كبير في تخليص البلاد من أزمتها.
وسيسعد الفريق الجديد في بنك اليابان بقضاء الوقت وهو في تحركات أسعار الفائدة، أكثر من تحدي صعود نجم الصين، والقضاء على مخاوف البلاد.
هذه ليست اللحظة التي توحي بـ"استعادة أمجاد اليابان". وربما يكون ذلك للأفضل؛ فبعد فترة ساخنة من تسليط الضوء عالمياً على استراتيجية "أبينوميكس"، فقدت الأغلبية اهتمامها بهذه السياسات عندما لم تؤت الاستراتيجية ثمارها على الفور.
ختاماً، ربما يكون محافظ بنك اليابان الجديد في عهد كيشيدا -أياً كانت هويته- أفضل حالاً هذه المرة، إذا وعد بالقليل وأوفى بالكثير.