بوتين يطلق عصراً جديداً من انتشار التسلح النووي

قائد دولة أوروبية يجتاح جارة صغرى لم تستفزه كما يهدد بحرب نووية إن لم تسر الأمور على هواه

time reading iconدقائق القراءة - 15
فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي - المصدر: بلومبرغ
فلاديمير بوتين، الرئيس الروسي - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

- مقال رأي

تنوّعت الطرق التي جعل بها رئيس روسيا فلاديمير بوتين من العالم مكاناً خطراً وهمجياً ومرعباً، كان أحدها زيادة تهديد وقوع حرب نووية تنهي العالم، وفي هذا يبرز احتمالان؛ أحدهما في المدى القريب، والثاني بعيد الأمد.

نأمل جميعاً في المدى القصير أن يكون تهديده النووي الأخير مجرد كذبة. بعث بوتين في جعجعة إعلانه الحرب على أوكرانيا، رسالة واضحة للغرب: حاولوا إيقافي، "لتواجهوا عواقب أكبر من أي شيء رأيتموه في التاريخ... أتمنى أن تكونوا قد سمعتم". وجّه بعد أيام أوامر بوضع القوات النووية الروسية "في حالة تأهب قتالية خاصة".

هذا هو الدرك الذي انحدر إليه عالمنا؛ في 2022 قائد دولة أوروبية يجتاح دولة جارة أصغر حجماً، لم تفعل شيئاً لتستفزه، كما يهدد بحرب نووية؛ إن لم تسر الأمور على هواه.

يبقى هذا الأمر، حتى لو كان الأمر مجرد كذبة، الحدث الأكثر رعباً منذ أزمة الصواريخ الكوبية لسببين: أولهما؛ بروز التساؤل حول ما إذا كان الرجل قد اختل، وثانيهما؛ هو أنَّ السياسة النووية بقيادة بوتين تتضمن خيار الضربة النووية "التكتيكية" التي ألمح لها تحديداً، وتعريف ذلك هو هجوم ذري محدود، إن صح وصف ذلك، لحسم حرب تقليدية لمصلحة موسكو. يصف الأمريكيون هذا: "بالتصعيد لوقف التصعيد".

كبح السعير النووي

يعتري افتراضاته خلل واضح، حتى إن طبّقنا فرضية انعدام قيمة المبادئ والأخلاق. لا أحد يعرف كيف يكبح السعير النووي. إذ يتعين على القوى النووية الأخرى أن تتصرف في غضون دقائق لتتخذ قراراً بالردّ أو عدم الردّ، أصالة عن نفسها، أو نيابة عن حلفائها، أو حتى أن تشنّ ضربة استباقية على ترسانة العدو للتصدي لأي ضربات لاحقة قد تقوم بها روسيا.

حتى لو زال طيف التهديد النووي التكتيكي؛ فإنَّ بوتين قد تسبّب بالفعل بضرر على المدى الطويل، لأنَّه دمّر أي فرصة تمكّن المجتمع الدولي من إبقاء الرؤوس النووية بعيداً عن متناول المزيد من الأشخاص الخطرين.

لنلقِ نظرة على هذه الرسالة من 1994 لفهم هذا الجزء من إرثه، وقد كانت قبل أن يتسلّم بوتين السلطة. أرسلها المندوبون الدائمون لكلّ من بريطانيا، والولايات المتحدة، وأوكرانيا، وروسيا لأمين عام الأمم المتحدة، ووقّعها عن روسيا سيرغي لافروف، وزير خارجية بوتين الحالي.

كانت أوكرانيا آنذاك، الدولة السوفيتية السابقة، تملك ثالث أكبر ترسانة نووية تضم حوالي 1900 رأس نووي بعد الولايات المتحدة وروسيا. خشي العالم من استحالة السيطرة على هذه القنابل، والقنابل الأخرى المنتشرة في أرجاء الاتحاد السوفيتي السابق، ومن وقوعها في أيدي الإرهابيين. وافقت أوكرانيا، وبلاروسيا، وكازاخستان، حينها على التخلي عن رؤوسها الحربية، والانضمام إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية لتسطر بذلك إحدى أعظم قصص نجاح نزع الأسلحة تاريخياً.

عهود روسيا

حصلت هذه الدول بالمقابل على الضمانات المذكورة في الرسالة. فقد تعهد لافروف والموقِّعون الآخرون على: "احترام استقلال وسيادة أوكرانيا وحدودها القائمة... والامتناع عن التهديد باستخدام القوة ضد وحدة أراضي أوكرانيا، أو استقلالها السياسي... والامتناع عن الإكراه الاقتصادي"، وغيرها من الأمور الجيدة.

كلّ ذلك ذهب في مهب الريح.

انتهك بوتين، الذي دائماً ما يتبعه لافروف، كلّ الضمانات التي قدّمتها بلاده بموجب مذكرة "بودابست"، في إشارة إلى اتفاقية 1994. يشعر الأوكرانيون بالندم لتخليهم عن ترسانتهم النووية، فيما تدك المدفعية الروسية أوكرانيا بوابل من القذائف. لو احتفظوا بها؛ لكان بوتين قد فكر مرتين قبل غزو بلادهم في 2014، وبالتأكيد قبل الاعتداء على كامل البلاد اليوم.

أخذ كلّ قائد حالي أو مستقبلي في العالم عبرة من ذلك، وهذا يشمل الحكام الدكتاتوريين الصغار، والملالي، والدول الطامحة لتصبح قوى خارقة، وصولاً للإرهابيين الذين لا يخضعون لأي دولة. لقد أظهر لهم بوتين أنَّ تسليم السلاح خطأ مهما كانت الوعود المقدّمة لك؛ لأنَّك ستواجه شخصاً مثله الآن أو لاحقاً.

كانت معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية في مأزق حتى قبل هجوم بوتين الأخير. فقد اعترفت المعاهدة التي دخلت حيز التنفيذ في 1970 بالدول الخمس التي كانت تمتلك أسلحة نووية أصلاً، لكنَّها توقَّعت من بقية الدول أن تتخلى عن ترسانتها مقابل الحصول على تقنية الانشطار النووي المدنية تحت المراقبة.

تعطيل الضوابط

صنّعت أربع دول أخرى رؤوساً حربية حينها، فيما تفكر دول عدة بفعل ذلك. تأجل المؤتمر التكميلي العاشر لأطراف معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية أربع مرات، وكان من المقرر عقده في أغسطس، لكن بفضل بوتين؛ لم يعد أي أحد يتوقَّع شيئاً الآن.

ينطبق الأمر نفسه على كل محادثات الحدّ من الأسلحة. فالاتفاقية الوحيدة من هذا النوع التي ما تزال مطبقة، وهي اتفاقية "ستارت" الجديدة تنتهي مدتها في 2026، وهي تشمل فقط الأسلحة الاستراتيجية، أي بشكل أساسي الأسلحة العابرة للقارات، وليست الأسلحة التكتيكية التي يراهن عليها بوتين. كما تتسلح الصين بأكبر سرعة ممكنة في هذه الأثناء.

كانت كذبة لافروف في 1994 قد تكررت منذ برهة؛ إذ أعلنت الدول الخمس المعترف بها في معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية في يناير بشكل مشترك أنَّه "لا يمكن الفوز في حرب نووية، ولا يجب خوضها". تذكّر تلك الكلمات بإعلان شهير للولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي في 1985، وهو زمن بات يبدو بريئاً ومستقراً بالمقارنة بواقعنا.

هذه المرّة كان قائد إحدى الدول الموقِّعة، بوتين، قد بدأ بحشد جنوده حول أوكرانيا استعداداً لغزوها، في حين كان ينفي حتى التفكير بذلك. يفعل بوتين ولافروف وزمرتهما كلّ ما بوسعهم لإفقاد العالم آخر وأفضل بصيص أمل عبر الكذب، والازدواجية، وسوء النية.

هذا المقال لا يعكس موقف أو رأي "الشرق للأخبار"وهو منشور نقلا عن Bloomberg Mediaولا يعكس بالضرورة آراء مجلس تحرير Bloomberg أو ملاكها
تصنيفات
النشرة البريدية
تعرف على أحدث الأخبار والتحليلات من اقتصاد الشرق مع بلومبرغ
سجل الان

موسكو

4 دقائق

-1°C
غيوم قاتمة
العظمى / الصغرى -1°/
19 كم/س
66%