طاقة أوروبا النووية تنحسر فيما تشتد حاجتها للكهرباء

ينبغي أن تستثمر أوروبا 568 مليار دولار في الطاقة النووية خلال 30 عاماً لتلبية الطلب المتزايد على الكهرباء وتحقيق أهداف خفض الكربون

time reading iconدقائق القراءة - 23
محطة \"هينكلي بوينت سي\" النووية في بريطانيا - المصدر: بلومبرغ
محطة "هينكلي بوينت سي" النووية في بريطانيا - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

اتخذت المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل قراراً إبّان كارثة مفاعل فوكوشيما الياباني في 2011 أثلج صدور مناهضي الطاقة النووية في بلادها، وهو ترك خلي عن جميع المفاعلات.

ما لم يُتوقع حينها هو أن أوروبا ستجد نفسها لاحقاً في خضم إحدى أسوأ أزمات الطاقة في تاريخها. تخلّت أكبر قوة اقتصادية في القارة بعد مرور عقد عن كامل طاقتها الإنتاجية تقريباً بالفعل وسيتوقف تشغيل الباقي بنهاية 2022، أي في أسوأ مرحلة ممكنة.

ارتفعت أسعار الكهرباء بالجملة بأكثر من أربعة أضعاف ما كانت عليه في بداية تفشي فيروس كورونا. ما اضطر الحكومات لاتخاذ إجراءات طارئة لدعم المستهلكين المحليين والصناعيين الذين يواجهون فواتير معيقة، قد تتجه لارتفاع أكبر إن تصاعد التوتر بشأن أوكرانيا. لم تكشف الأزمة عن نقاط ضعف العرض في أوروبا فحسب، بل سلطت الضوء على انقسامات ثقافية وسياسية مترسخة حول الصناعة النووية وعلى الإخفاق بصياغة رؤية جماعية.

شهدت في الحين ذاته مناطق أخرى تقدماً على هذا الصعيد، حيث تتخذ الصين خطوات متسارعة فيما يتعلق بالطاقة النووية سعياً لنقاء الهواء وتتجه مجموعة مفاعلاتها في مسار يمكنها من تجاوز نظيراتها في الولايات المتحدة، وهي الأكبر في العالم، بحلول منتصف العقد. كما تمضي روسيا قُدُماً بإنشاء محطات جديدة في الداخل، ولديها أكثر من 20 مفاعلاً متعاقداً عليها أو يُخطط لتصديرها، وفقاً للرابطة النووية العالمية.

قال بيتر أوسبالدستون، مدير أبحاث الطاقة ومصادر الطاقة المتجددة لدى "وود ماكنزي" (Wood Mackenzie) في المملكة المتحدة: "لا أعتقد أننا سنرى إجماعاً أوروبياً حول استمرار تشغيل المحطات الحالية، ناهيك عن بناء محطات جديدة... يشكّل الوضع استقطاباً هائلاً للآراء، حيث إن إرساء سياسة وطنية للطاقة أمر مطلوب بشدة على مدى فترة مستدامة لدعم الاستثمار النووي الجديد".

نهضة نووية موعودة

وعدت فرنسا، وهي أكبر منتجي الطاقة النووية في أوروبا، بنهضة ذرية فيما أصبح إنتاجها أقل موثوقية، كما تخطط بريطانيا لاستبدال المحطات المتقادمة بحثاً عن مصادر طاقة أنظف وأكثر موثوقية. تسعى هولندا لإضافة طاقة إنتاجية، فيما تتطلع بولندا أيضاً للانضمام إلى النادي النووي، وتباشر فنلندا إنتاج الكهرباء في وقت لاحق من هذا الشهر من أول محطة جديدة لها منذ أربعة عقود.

تحذو بلجيكا وإسبانيا حذو ألمانيا في التخلي عن الصناعة النووية، وإن كان ذلك في أطر زمنية متفاوتة، كما رفضتها النمسا في استفتاء في 1978.

ينظر مؤيدو الطاقة النووية إلى هذه الصناعة على أنها حيوية لتحقيق أهداف طاقة نظيفة تماماً. بمجرد بناء مفاعلات، فهي توفر كهرباء منخفضة الكربون طوال الوقت، بخلاف الرياح المتقطعة أو الطاقة الشمسية.

يستغرق إنشاء المصانع عقداً أو أكثر في أحسن الأحوال وتنطوي على مخاطر عالية من حيث التشغيل بمرور الوقت وتجاوز الميزانية. فعلى سبيل المثال، تدخل وحدة "أولكيلوتو -3" (Olkiluoto-3) الفنلندية الجديدة حيز التشغيل بعد تأخرها 12 عاماً وتجاوزها التكلفة بمليارات اليورو. بعد ذلك تأتي مشكلة المخلفات التي تستمر خطورتها 100 ألف سنة.

قال كريس غادومسكي، رئيس الأبحاث النووية في "بلومبرغ نيو إنيرجي فاينانس": "رغم الدعوات المتزايدة حول العالم للتصدي للتغير المناخي والعدد المتزايد من التعهدات الوطنية لطاقة خالية تماماً من الملوثات، فإن الصناعة النووية العالمية ما تزال متراجعة عنها إلى حد كبير".

مدّ وجزر

ما يزال الجدل محتدماً بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حول ما إذا كان يمكن اعتبار الطاقة النووية صناعةً مستدامةً، كما أن هناك انقساماً بين الأوروبيين في الاستبيانات حول هذا الموضوع، فقد كشفت نتائج استطلاع من "يوغوف" (YouGov) نشرته في ديسمبر أن الدنماركيين والألمان والإيطاليين كانوا أكثر تشككاً حول الصناعة النووية، مقارنة بالفرنسيين أو البريطانيين أو الإسبان.

قال فينس زابيلسكي، الشريك في شركة "بيلسبري وينثروب شو بيتمان" للمحاماة ومقرها فينيويورك، والذي عمل مهندساً نووياً لمدة 15 عاماً: "الأمر مرهون بالسياسة... كل شيء له طبيعة سياسية له مد وجزر، لكن عندما تنقطع الكهرباء يكون للناس منظور مختلف تماماً".

تواجه أوروبا خطر انقطاع التيار الكهربائي هذا الشتاء، حيث أدت مخاوف الإمدادات التي تعصف بالقارة لارتفاع أسعار الغاز والكهرباء إلى مستويات قياسية وتزايد التضخم. كما أن هنالك توتراً متصاعداً مع روسيا بشأن غزو محتمل لأوكرانيا، ما قد يعطل إمدادات الغاز. كل هذا يعزز الرأي القائل بأن أوروبا بحاجة لتقليل اعتمادها على مصادر الغاز الدولية.

ستحتاج أوروبا لاستثمار 500 مليار يورو (568 مليار دولار) في الطاقة النووية على مدى ثلاثة عقود لتلبية الطلب المتزايد على الكهرباء وتحقيق أهداف خفض الكربون، وفقاً لتصريحات تييري بريتون، مفوض السوق الداخلية في الاتحاد الأوروبي، التي تأتي بعدما كشف الاتحاد الشهر الماضي عن خطط للسماح بتصنيف بعض مشاريع الغاز الطبيعي والطاقة النووية على أنها استثمارات مستدامة.

ضمانات متعذرة

قالت إلينا بروتشين من المعهد الدولي لتحليل الأنظمة التطبيقية: "الطاقة النووية هي استثمار طويل الأجل للغاية، ويحتاج المستثمرون لشكل من أشكال الضمان لتحقيق مكاسب،" مشيرة إلى أنه من أجل استمرار الاقتصادات المتحررة، مثل الاتحاد الأوروبي، تحتاج التكنولوجيا لدعم سياسي للمساعدة في حماية المستثمرين.

يبدو هذا طلباً مستعصياً، حيث أشارت مجموعة من الخبراء الرئيسيين للمفوضية الأوروبية أن عملية التصنيف تهدد بزيادة انبعاث غازات الاحتباس الحراري وتقويض سمعة الاتحاد الأوروبي باعتباره معقلاً للتمويل الصديق للبيئة.

هدّدت النمسا بمقاضاة المفوضية الأوروبية حول محاولات تصنيف الطاقة الذرية على أنها خضراء، حيث كانت النمسا قد حاولت أن تدفع بطعن قانوني فيما كانت المملكة المتحدة ما تزال عضواً في الاتحاد الأوروبي، بغية إيقاف بناء محطة "هينكلي بوينت سي" التابعة لشركة "الكهرباء الفرنسية" (Electricite de France) في غرب إنجلترا. كما بدأت إجراءات قانونية ضد المشاريع الجديدة المدعومة من قبل روسيا في المجر المجاورة.

تعرضت ألمانيا، التي لم تحقق أهدافها المتعلقة بانبعاثات الكربون خلال العامين الماضيين، لانتقادات بعض المدافعين عن البيئة وعلماء المناخ لإغلاقها إمدادات الطاقة النظيفة في أسوأ الأوقات. ستتوقف المفاعلات الثلاثة الأخيرة هذا العام ولن تتراجع عن ذلك في ظل وجود حزب "الخُضر" في الحكومة الائتلافية الجديدة.

تضاعفت مساهمة مصادر الطاقة المتجددة في ألمانيا ثلاث مرات تقريباً منذ العام الذي سبق أزمة "فوكوشيما"، حيث شكّلت 42% من الإمدادات العام الماضي. يمثل هذا انخفاضاً من نسبة 46% عن العام السابق، ما يعني أنه سيتعين على الحكومة الجديدة تركيب حوالي 3 غيغاواط من مصادر الطاقة المتجددة، أي ما يعادل قدرة التوليد لثلاثة مفاعلات نووية، كل عام خلال هذا العقد لتحقيق هدفها البالغ 80%.

تاريخ من الاحتجاج

قال مانويل كوهلر، العضو المنتدب في شركة "أورورا إنرجي ريسيرش" (Aurora Energy Research) المتخصصة في تحليل أسواق الطاقة وأسسها أكاديميون من جامعة "أكسفورد": "البلدان الأخرى ليست لديها هذه الخلفية السياسية القوية المتأتية من ثلاثة عقود من الاحتجاجات المناهضة للصناعة النووية".

تتركز القضية على أن الدول التي لديها تاريخ في التسلح النووي ستستخدم الوقود على الأرجح لتوليد الطاقة، كما ستبني صناعة وتخلق وظائف في الهندسة المدنية في هذا المجال.

نشأ حزب "الخُضر" الألماني من حركات الاحتجاج المناهضة للأسلحة النووية المضادة لتمركز الصواريخ النووية الأمريكية في ألمانيا الغربية أنذاك. ساعد تفكيك مفاعل "تشيرنوبيل" في 1986، الذي أطلق أعمدة من التساقط الإشعاعي فوق أجزاء من أوروبا الغربية، على تحريك السكان للاحتجاج على نطاق أوسع. وُضعت خطط للتخلص التدريجي من الأسلحة النووية في الأصل في 2002، لكن جمدتها الحكومات المحافظة في البلاد. أعاد انهيار "فوكوشيما" في 2011 تنشيط نقاش الرأي العام حول هذه المخاوف، ما دفع ميركل في النهاية لتنفيذ الخطط.

قال مارك هيبز، وهو محلل الشأن النووي في بون بألمانيا لدى مؤسسة "كارنيغي للسلام العالمي"، إنه ليس من السهل التراجع عن هذا الالتزام، مضيفاً قوله: "هذه قرارات استراتيجية اتخذت مسبقاً منذ فترة طويلة".

عامل الوقت حاسم

يوشك رئيس فرنسا إيمانويل ماكرون على تبني خطوة جديدة إزاء الطاقة النووية. تنتج فرنسا حوالي ثلثي طاقتها من المفاعلات، وهي أكبر دولة مصدرة للكهرباء إلى أوروبا، بما يشمل ألمانيا والنمسا المناهضتين للطاقة النووية.

تحث شركة الكهرباء الفرنسية، وهي أكبر مشغل لمحطات الطاقة النووية في العالم، الحكومة الفرنسية على دعم بناء ستة مفاعلات جديدة كبيرة الحجم بتكلفة تقدر بنحو 50 مليار يورو يبدأ أولها بإنتاج الكهرباء بحلول 2035.

لكن حتى فرنسا واجهت انتكاسات، حيث عُلق تطوير مشاريع جديدة بعد سنوات من المشكلات الفنية في مشروع "فلامانفيل-3" (Flamanville-3) في النورماندي الذي يكتمل العام المقبل.

قال كواسي كوارتنغ، وزير أعمال المملكة المتحدة، إن أزمة أسعار الغاز العالمية تؤكد الحاجة لمزيد من الطاقة النظيفة المولدة محلياً. ستُغلق خمس من أصل ثماني محطات بريطانية بحلول 2024 لأنها قديمة للغاية، فيما تكتمل محطة "هينكلي بوينت سي" في 2026 وستتخذ الحكومة قراراً نهائياً حيال محطة أخرى قبل انتخابات 2024.

يتمثل أحد الحلول في بناء مفاعلات صغيرة، أو ما يسمى (SMR)، وهي أسرع بناءً وأرخص. تتصدر الولايات المتحدة جهود تصميم أنظمة نووية أصغر كما تمضي بريطانيا وفرنسا بتنفيذ خطط مماثلة. تلك أيضاً واجهت تأخيراً، حيث كانت تصميمات المفاعلات الصغيرة موجودة منذ عقود، رغم أنها تواجه نفس المقاييس الاقتصادية الصعبة ولوائح السلامة والأمن المطبّقة بالمحطات الكبيرة.

تكمن المشكلة، كما كانت دائماً، في عامل الوقت. قال أوزبالدستون، مدير الأبحاث في "وود ماكنزي": "أي قرارات استثمارية تتخذها الآن لن تؤتي ثمارها حتى 2030. الطاقة النووية ليست حلاً لأزمة الطاقة الحالية".

تصنيفات