اجتمع مسؤولون كبار في مقر حلف شمال الأطلسي في بروكسل الأسبوع الماضي ليفكروا بالسؤال الذي يصعب تصوره: ما الذي سيحل بأوروبا إن قطعت روسيا، وهي أكبر مورد غاز لها، إمداداتها المتجهة غرباً؟
تشتري أوروبا يومياً نحو 40% من استهلاكها من الغاز من شركة "غازبروم" الروسية العملاقة التي تملكها الدولة. كانت النمسا في 1968 أول دولة في أوروبا الغربية توقع عقداً لشراء الغاز الروسي. منذئذ صمدت التجارة في وجه الاضطرابات السياسية والاقتصادية، حتى في فترات اشتداد الحرب الباردة وإبان انهيار الاتحاد السوفيتي.
دام ذلك حتى الآن على الأقل، لكن خطر نشوب صراع عسكري في أوكرانيا جعل من الغاز الطبيعي سلاح اضطراب شامل.
تراجعت تدفقات الغاز الروسي إلى أوروبا حالياً لتصبح أقل بشكل حاد مما كانت عليه في الماضي، وبلغت في بعض الأحيان أقل بحوالي 30% من متوسط الخمس سنوات. تُصِر "غازبروم" على أنها تفي بعقودها طويلة الأجل مع مرافق الطاقة الأوروبية. حصلت "غازبروم" العام الماضي 1.8 تريليون روبل (23.2 مليار دولار) من مبيعاتها إلى أوروبا، أي حوالي 10% من إجمالي صادرات روسيا، وفقاً لصندوق النقد الدولي. لكن الشركة تتجنب حقيقة أخرى وهي أن الأمر لا يتعلق بالمال بقدر ما تتعلق بحيّل الضغط الجيوسياسي وحده؛ حيث إن موسكو تجني أموالاً أكثر من البترول. لم تملأ "غازبروم" خزانات أوروبا وهو ما يجافي المألوف كما أنها لا تبيع غازاً إضافياً في السوق الفورية. بدأت أوروبا تعاني نقصاً شديداً حيث انخفضت مخزونات الغاز إلى أقل من 40% من سعتها، وهو أدنى مستوى على الإطلاق لهذا الوقت من العام. جنّب الطقس المعتدل غير المعتاد حتى الآن في هذا الشتاء أوروبا أزمة الغاز.
هناك سيناريوهان رئيسيان أولهما أُحتوي وثانيهما كارثي.
أنابيب في خطر؟
إن غزت روسيا أوكرانيا، سيتعثر الغاز بسبب العمل العسكري بطريقة أو بأخرى، وربما حتى عن طريق الصدفة إن قُصفت خطوط الأنابيب أو أجزاء أخرى من البنية التحتية. لكن إن كانت الحملة سريعة وتحققت أهداف موسكو بسرعة، فقد تكون أوروبا قادرة على تحمل حتى الأضرار المادية التي تلحق بخطوط الأنابيب في أوكرانيا. يحتاج المرء فقط إلى إلقاء نظرة على الخريطة لمعرفة السبب: فلقد تغيرت التدفقات الروسية على مدى العقدين الماضيين.
كانت أوكرانيا في التسعينيات هي الممر الضيق لجميع صادرات الغاز الروسي إلى أوروبا عبر أنابيب "سويوز" و"برذرهوود" و"بروغريس". لكن روسيا نوعت منذئذ معابر غازها عبر إنشاء "يمال-أوروبا" و"نورد ستريم 1" و"بلو ستريم" و"ترك ستريم" قبل أن تضيف "نورد ستريم 2" الذي ما تزال موافقته التنظيمية معلّقة. قللت الخطوط الجديدة من أهمية أوكرانيا، وهو أمر لم يفهمه عديد من السياسيين. ما تزال ذكريات أزمة الغاز في أوكرانيا وأوروبا في 2006 و2009 حين تعطلت الإمدادات، تشكل طريقة أوروبا الغربية في فهم السوق. لكن عندما يتعلق الأمر بالغاز، فإن 2022 مختلف كثيراً عن 2009.
تضاؤل الأهمية
كانت أوكرانيا نقطة عبور لحوالي 125 مليار متر مكعب من الغاز الروسي إلى بقية أوروبا قبل عقدين. انخفض العام الماضي التدفق 65% إلى أقل من 42 مليار متر مكعب. رغم أن هذا ما يزال قدراً كبيراً، إلا أنه لا يداني ما كان عليه في الماضي. ربما يوازي ذلك من حيث الأهمية أن أوكرانيا لم تعد نقطة عبور رئيسية للغاز الروسي إلى ألمانيا وست دول أخرى، حيث إنها مهمة فقط بالنسبة لسلوفاكيا والنمسا وإيطاليا. عبر نيكوس تسافوس، خبير الغاز لدى "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" الذي يتخذ من واشنطن مقراً له، عن ذلك ببضع كلمات قائلاً إن أوكرانيا: "كانت الممر الرئيسي لتوصيل الغاز الروسي إلى أوروبا... ولم تعد كذلك".
تتمتع أوروبا اليوم بوضع أفضل بكثير للاستجابة للأزمة مما لو كان الغاز يمر عبر أوكرانيا فقط، حيث تستطيع أن تتعامل مع إغلاق عبور الغاز لأوكرانيا لفترة محدودة عبر استيراد الغاز الطبيعي المسال بكميات أكبر إضافة لسحبه من المخزون. إن ظل الطقس معتدلاً، فسيقل الطلب.
بين البلدان الثلاثة الأكثر عرضة للخطر، يمكن لإيطاليا استيراد الغاز الطبيعي المسال مباشرة كما أن مخزوناتها مرتفعة. يرجع ذلك جزئياً إلى أن روما لديها مخزون استراتيجي للغاز تفتقر إليه بقية القارة إلى حد كبير. بلغ مخزون إيطاليا نحو 50.8% من السعة الكلية الإثنين، وهو أعلى بكثير من المتوسط الأوروبي البالغ 38.9%. لكن النمسا وسلوفاكيا بوضع أسوأ بكثير حيث يبلغ مخزونهما 22.7% و32.5% على التوالي ما سيُحوجهما لمساعدة كبيرة من الجوار.
يفترض ما سبق أن موسكو ستعيد توجيه الإمدادات بعيداً عن أوكرانيا باستخدام خطوط أنابيب أخرى مواصلة إمداد أوروبا. لكن حجب الإمدادات كلّية عن القارة أمراً مختلفاً تماماً.
تجاهل الأخطر
حلّل المنظمون الأوروبيون 19 احتمالاً في نوفمبر خلال محاكاة لحرب تخلق اضطرابات غاز محتملة، كما وضعوا عديداً من التبادلات الرياضية لكل من هذه السيناريوهات. لكنهم لم يفكروا فيما سيحدث إذا توقفت جميع التدفقات الروسية. لماذا؟ لأن هذا السيناريو غير مستحب كما لا توجد له حلول بديلة. إن حدث ذلك فليس لدى أوروبا طريقة لتجنب الأضرار الاقتصادية التي لا يمكن تصورها إضافة لانقطاع التيار الكهربائي.
يقول الدبلوماسيون الأمريكيون والأوروبيون إنهم يستكشفون العالم للحصول على إمدادات غاز إضافية، لكن لا يوجد ما يكفي في مكان آخر ليحل محل روسيا. قد تتمكن قطر ودولتان من مصدري الغاز الطبيعي المسال الآخرين من المساعدة على الهامش. سترتفع أسعار الغاز الطبيعي المسال بشكل كبير لدرجة أن بعض البلدان النامية الآسيوية مثل باكستان وبنغلاديش ستخرج من السوق، ما يؤدي إلى تحرير شحنات إضافية إلى أوروبا على حساب انقطاع التيار الكهربائي في آسيا. يمكن لأوروبا في أحسن الأحوال أن تأمل بتعويض ثلثي الإمدادات الروسية، وقد يكون هذا التقدير مبالغاً فيه.
كما ستواجه أوروبا تحدياً إضافياً، حيث إن جلب شحنات الغاز الطبيعي المسال إلى شواطئها لا يكفي، فما هو أصعب هو نقل هذا الغاز إلى نظام التوزيع على مستوى القارة. إذ يقع نحو ثلث القدرة الأوروبية لإعادة تحويل الغاز الطبيعي المسال إلى غاز في إسبانيا، وليس لديها سوى خط أنابيب صغير يربطها ببقية القارة. إن أضفنا فرنسا والمملكة المتحدة إلى إسبانيا سيرتفع ذلك إلى 70% من إجمالي طاقة تحويل الغاز الطبيعي المسال إلى غاز في أوروبا. لا يوجد في ألمانيا مصنع واحد لإعادة تحويل الغاز الطبيعي المسال إلى غاز.
إغلاق الصناعات
سيكون الملاذ الوحيد هو التقنين، أولاً في الخدمات الأساسية مثل المستشفيات والتدفئة السكنية ثم إنتاج الكهرباء الذي سيحاول الاعتماد على الفحم والنفط. بعدها سينفد كل الغاز وصولاً في النهاية لإغلاق جميع الصناعات.
ستكون هذه المعاناة الاقتصادية هائلة وستختبر التضامن الأوروبي. قال سيمون تاغليابيترا من "مركز بورغل للأبحاث" الذي يتخذ من بروكسل مقراً له: "هناك خطر يتمثل في أن الدول التي لديها أوضاع إمداد أفضل قد تكون غير راغبة بمشاركة موارد الغاز الشحيحة مع البلدان التي هي في وضع أسوأ". هو على حق، فقد أظهرت أزمة كوفيد-19 أن البلدان قد تضع المصلحة الوطنية قبل الإقليمية.
سترتفع أسعار الغاز بشكل كبير في حال وقف الإمداد بشكل كامل بما سيجعل الارتفاع القياسي الذي رأيناه في ديسمبر يبدو بسيطاً، فقد يصل الارتفاع إلى خمسة أضعاف أو حتى عشرة أضعاف. لا ترغب أوروبا بحدوث ذلك بالتأكيد لكن هل سيقدم فلاديمير بوتين عليه؟
أنا أشك في ذلك. يفضل الرئيس الروسي أن تظل أوروبا مرتبطة اقتصادياً بالغاز الروسي إلى الأبد؛ حيث إن السيطرة على الصنابير تعني التأثير الجيوسياسي في أوروبا، وتخدم القدرة على إيقافه الكرملين كوسيلة تهديد بأكثر من فعل ذلك. يلعب هذا الأمر نفس دور الأسلحة النووية في الحرب التقليدية وهو التدمير المتبادل المؤكد. إن اختارت روسيا استخدام الغاز كسلاح، فإن أوروبا ستفعل كل ما بوسعها خلال السنوات القليلة المقبلة لعدم الاعتماد مرة أخرى على "غازبروم" أبداً للحصول على ذرة غاز واحدة، وهذا ما يدفع بوتين للتخفيف من استخدام الغاز كسلاح، فيقيد الإمدادات بدل قطعها.
تلك هي حدود نفوذه. إن اتبع النهج الهدام، فسيكون مستقبل روسيا في خطر لأن الغاز سلاح لا يعمل إلا إن لم يستخدم.