وصل إلى الهند هوس إعادة تدوير الأصول، الذي بدأ في أستراليا مع تأجير ميناء "بوتاني"، وميناء "كيمبلا" عام 2013؛ لكنَّه مصحوب بمخاوف تتعلَّق بالإضرار بالمستهلكين، جرَّاء تسليم السيطرة على المرافق العامة إلى قطاع خاص صغير.
حدَّدت الحكومة الهندية التي تعاني من ضائقة مالية أصولاً مُدرَّة للدخل حالياً بقيمة 6 تريليونات روبية (81 مليار دولار)، وذلك لتسييلها على مدى أربع سنوات، بهدف تمويل خطة بنية تحتية طموحة جديدة بقيمة 1.5 تريليون دولار. في حين أنَّ نيودلهي تهدف إلى تكرار نجاح الجولات التمويلية المقامة في الخارج، إلا أنَّها تحتاج أيضاً إلى الانتباه لتحذير رئيس لجنة المنافسة والمستهلك الأسترالي رود سيمز الشهر الماضي، عندما قال: "إمَّا أن تقوم بالخصخصة لزيادة كفاءة الاقتصاد، أو لا تقوم بذلك على الإطلاق".
ما بعد الخصخصة
يسعى صانعو السياسة الهنود إلى التخلي عن امتيازات التشغيل المُدرَّة للإيرادات مقابل مدفوعات مسبقة أو استثمارات، على أن تتمَّ هيكلة الصفقات على شكل "الشراكات التعاقدية" مع احتفاظ الدولة بالملكية العامة طويلة الأجل. مع ذلك؛ يرغب المستثمرون بطبيعة الحال في رفع الأسعار، أو الحد من المنافسة، أو تقليل الصيانة، بهدف رفع أرباحهم إلى الحد الأقصى خلال فترة زمنية محدودة. إذا أخذنا سنغافورة كمثال، اضطرت الدولة لتأميم قطارات الضواحي وأنظمة الإشارات، نظراً لعدم استثمار المُشغِّل الخاص الرئيسي من القطاع الخاص في الصيانة، مما أدى إلى حدوث أعطال متكررة، وغضب الركاب بسبب انقطاعها، وعدم قدرتهم على التنقل.
على نحو مماثل، من المهم أن نحول دون تحويل المكاسب الإجمالية التي تحقِّقها الحكومة الحالية إلى تكلفة غداً. فبعد خمس سنوات من خصخصة الأعمدة والأسلاك في نيو ساوث ويلز، تضاعفت أسعار الكهرباء، واضطرت الحكومة إلى التدخل من خلال تقديم حزمة معروفة باسم "القدرة على تحمُّل تكاليف الطاقة" لتقليل العبء على المستهلكين. إنَّ دافع الضرائب الهندي، الذي يعاني بالفعل من ضرائب باهظة على الطاقة، لا يستطيع ببساطة تحمُّل مثل هذه المبالغ.
المخاطر
لكن تحوّل الإجراءات البيروقراطية والفطنة التنظيمية دون تحويل البرنامج الهندي إلى أداة لنقل الأصول المموّلة من قبل دافعي الضرائب إلى شركات الأعمال التجارية. يعتبر هذا الأمر مصدراً للقلق بسبب تزايد تركيز القوة الاقتصادية في كل شيء، بدءاً من النقل إلى الاتصالات. تقع المطارات والموانئ في قبضة مجموعة الملياردير غوتام أداني، التي تريد أيضاً الاستحواذ على شركة "كونتينر كوربوريشن أوف إنديا"، للخدمات اللوجستية المملوكة للدولة. وتحوَّلت أعمال النقل اللاسلكي، التي عجَّت بالعشرات من المُشغِّلين، فعلياً إلى احتكار ثنائي بقيادة أغنى رجال الأعمال الهنود، موكيش أمباني.
في الوقت الحالي، تؤدي خصخصة أحد مُصنِّعي الألمنيوم المملوك للدولة إلى مخاوف من فقدان العمال للوظائف، لكن بمجرَّد خروج المرافق العامة من سيطرة الحكومة التي استمرَّت لعدَّة سنوات أو عقود، سيقلق الجمهور الأشمل من رسوم الاستخدام الباهظة، التي سيفرضها مُشغِّلو الطرق، والسكك الحديدية، والمطارات، وشبكات الطاقة وأنابيب الغاز.
تتمثَّل الطريقة الأخرى في الاستفادة من التجربة الأسترالية في السماح للمستهلكين برؤية ما إذا كانوا سيحصلون على معاملة عادلة. ومثلما كتبت صحيفة "سيدني مورنينغ هيرالد" هذا العام، حدَّت عملية بيع حصة 51% من الطريق السريع الأسترالي المثير للجدل، "ويست كونيكس"، في عام 2018، من "تعرُّض الشبكة لطلبات الحصول على المعلومات بحرية، وجلسات الاستماع لتقديرات الميزانية"، بالإضافة إلى إضعاف "قدرة مُدقّق الحسابات العام بالولاية على إبقاء المشروع تحت المراقبة".
النضج المؤسسي
تبرز أيضاً أهمية مراعاة الفجوات في النضج المؤسسي. تمتلك الهند- المنتمية إلى الأسواق الناشئة- فعلياً صناديق استثمارية راسخة إلى حدٍّ ما، وهياكل تحويل الرسوم والتشغيل. لكن هل لدى الهند آليات قانونية وتنظيمية للتخلُّص من مخاطر البنية التحتية الحساسة سياسياً قبل مطالبة القطاع الخاص بتسعيرها؟ فيمكن للجهات التنظيمية الضعيفة أن تقوم بعرض مخاطرها، الصعبة التسعير، حتى في حالة توافر التصاريح البيئية، وحيازة الأراضي والبناء، وتوفُّر البيانات المؤكَّدة حول حركة المرور المستقبلية.
لنأخذ قطاع الطيران كمثال. ما تزال الهند بعد عام ونصف العام من وباء كورونا، تفرض حدوداً قصوى على السعة، وتقوم بتسعير الأرضيات، وتضع سقوفاً على عدد الرحلات الجوية، مما يؤدي إلى حرمان المطارات من حركة الركاب لإنقاذ بعض شركات الطيران غير الفعَّالة. ينتج هذا التعسُّف عن اعتبارات الاقتصاد السياسي التي لن تزول سريعاً. ومن المرجَّح أن تتقدَّم لعطاءات الأصول العامة المعروضة للبيع مؤسسات وشركات، من أمثال مجلس استثمار خطة المعاشات التقاعدية الكندية، وشركة "بروكفيلد أسيت مانجمينت"، و"ماغواير غروب" الأسترالية، وصندوق الثروة السيادية السنغافوري "جي آي سي بي تي إي" (GIC Pte)، فضلاً عن المؤسسات المالية المحلية. قد تفوز تلك الأطراف ببعض الأصول، لكنَّها قد لا تتمتَّع بمركز متساوٍ مع مجموعات الأعمال المحلية الراسخة في بسط النفوذ على اللوائح.
القدرة على التنفيذ
تأتي بعد ذلك القدرة التنفيذية للدولة، التي أصبحت موضع تساؤل بسبب التأخيرات الطويلة في بيع البنوك المُدارة من قبل الحكومة، وأكبر شركة تأمين على الحياة، ومصفاة نفط كبيرة، والناقل الوطني "اير إنديا". قدَّمت أسواق الأسهم الرخوة، بسبب تخمة السيولة العالمية والمحلية الهائلة، لمُصنِّعي السياسات فرصة ذهبية لاستخراج قيمة كبيرة من الأصول، باستثناء "إير إنديا". ربَّما تلاشت هذه الفرصة الآن. فقد انقضَّت الشركات الناشئة خالية الأرباح حالياً، وربما سيكون ذلك لبعضهم مستقبلاً ، على أسواق رأس المال العامة، و اكتسحت مجالس الإدارات، في حين كانت الحكومة تنتظر.
قد تؤدي التأخيرات البيروقراطية كذلك إلى إفساد امتيازات الأصول. وبحلول الوقت الذي ستبدأ فيه نيودلهي الترويج لها، سيكون قد بدأ مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في تقليص ميزانيته العمومية المتضخِّمة فعلياً، وقد تتعرَّض أصول الأسواق الناشئة حينها لمعاملة سيئة. والأكثر من ذلك، ستتعرَّض تلك الأصول إلى معضلة في حال استمرار عودة موجات فيروس كورونا إلى البلدان المتأخرة في برامج التطعيم الشامل، أو تلك غير القادرة على تحمُّل تكاليف الجرعات المعزّزة المتكررة من اللقاح.
لكنَّ التوقيت ليس كل شيء؛ فنجاح برنامج إعادة تدوير الأصول المتوعّكة لن يأتي فقط عبر الأموال التي سيتمُّ جمعها خلال هذا العام أو التالي، ولكن من خلال التوازن الصحيح بين المصالح العامة والخاصة، وربما سيكون هذا هو الدرس الأكثر أهمية من تجربة أستراليا.