بلومبرغ
قليلون هم من توقَّعوا الانهيار المفاجئ لإمبراطورية التشفير البالغة قيمتها عدة مليارات من الدولارات والتابعة لسام بانكمان - فريد.
مع ذلك؛ فبالرغم من كل التقلبات والمكاشفات والتغريدات البائسة عبر "تويتر"؛ لكنَّ الأمر كان مثل سقوط من النعيم إلى دائرة مألوفة لا تخطئها عين.
الأسبوع الذي بدأ مع نشر اثنين من الرؤساء التنفيذيين لشركتي عملات مشفرة تغريدات تحمل انتقادات لاذعة انتهى بإفلاس "إف تي إكس" (FTX)، التي تعد واحدة من أكبر وأشهر بورصات العملات المشفَّرة، إلى جانب حوالي 130 شركة أخرى تمتلكها. كانت الشركة تحاول تغطية عجز يصل إلى 8 مليارات دولار، إذ ما تزال تفاصيل فشلها، التي تخضع حالياً لتحقيقات متعددة، غير مكشوفة بعد.
يعتبر الأمر واضحاً للغاية، إذ إنَّ هذا "الخليط المُسكِر" من الأموال السهلة والتفكير المستند إلى الآمال والابتكار المفرط، قد أسهم في الانهيار الداخلي الذي لم يكن شيئاً جديداً، على الرغم من كونه مذهلاً أيضاً عند مناظرته بفضائح مثل "إنرون" (Enron) و"ورلدكوم" (WorldCom) و"ليمان براذرز" (Lehman Brothers) قبل ذلك. على الرغم من اختلاف التفاصيل؛ لكنَّ الجوانب المشتركة بين كل منها تتمثل في الغطرسة والضعف التنظيمي والواقع الذي تمر به دورة الاقتصاد، فضلاً عن الكثير من السوابق.
ضاع كل شيء.. مستثمرون في بورصة "إف تي إكس" يستعدون للخسائر
لم تعد جذابة
قالت هيلاري ألين، أستاذة القانون بالجامعة الأميركية في واشنطن: "كانت لدينا صناعة بُنيت على أساس الخوف من الضياع والمال السهل، والآن بعد أن رفعت الحكومات في جميع أنحاء العالم أسعار الفائدة، وهذا يقيّد الأموال السهلة، فأنت تعيش حالة الخوف من الضياع فعلياً. ولم تعد جذابة بعد الآن".
بينما لا يوجد نقص في اللوم، لكن يمكن أيضاً اعتبار أنَّ دائرة ثروات "إف تي إكس" كانت نتيجة طبيعية لسياسة "الاحتياطي الفيدرالي". ازدهرت أعمال "إف تي إكس" بالتزامن مع ازدهار العملات المشفَّرة نفسها ومجموعة من حيل السوق الأخرى، بدءاً من أسهم "الميم" إلى إبداعات تكنولوجيا البقاء في المنزل وشركات الاستحواذ ذات الأغراض الخاصة، حيث دفعت جائحة "كوفيد-19" مجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى خفض أسعار الفائدة إلى الصفر مع إبقائها عند هذا المستوى لمدة عامين.
أما الآن؛ ففي مواجهة أشد دورة تشديد يتبعها بنك الاحتياطي الفيدرالي منذ أربعة عقود، سرعان ما تتبخر الإمبراطوريات المضطربة بالوتيرة نفسها التي تتهاوى بها السيولة التي دعمتها. ومن المؤكد أنَّ انهيار "إف تي إكس" يعد كارثة فريدة من نوعها في كثير من النواحي، حيث من المرجح أن تنهار معها مليارات الدولارات من الثروات النقدية وأرباح التداول، لكنَّ فشل "إف تي إكس" أقل استثنائية بكثير عند النظر إليه بعد 11 شهراً من حطام أسهم التكنولوجيا، بالإضافة إلى قرون من تاريخ فقاعة الأصول.
تنطوي فضيحة "إف تي إكس" على أوجه ملحوظة تتشابه بها مع ما حلّ بشركة "إنرون"، فقد قادتهما شخصيتان تبشيريتان، وهما بانكمان – فريد وجيف سكيلينغ، اللذان أبهرا المؤمنين بمآثر سحر التكنولوجيا. وبرغم أنَّهما كانا يحظيان بالإعجاب شبه الكامل من قبل الصحافة والمؤسسة المالية؛ لكنَّهما ارتكبا أيضاً أخطاء مالية أساسية أثناء محاولتهما مواصلة هذا الحفل. تفيد تقارير أنَّ إمبراطورية العملات المشفَّرة سمحت لميزانيتها العمومية بالاستقرار بشكل غير ثابت على رمز رقمي مرتبط بثرواتها الخاصة، من خلال استنساخ طريقة "إنرون" في استخدام أسهمها لدعم هياكلها التمويلية.
في نهاية المطاف، في نهاية المطاف، أصبح الأمل في أن تخفي الأسواق الصاعدة أخطاء سوء الإدارة أو الاحتيال المباشر، هو نفسه رمز انهيار مؤسسة كانت مزدهرة في يوم من الأيام. عندما استقال بانكمان - فريد من منصبه كرئيس تنفيذي لـ"إف تي إكس دوت كوم" (FTX.com) يوم الجمعة الماضي، جاء جون جيه راي الثالث، بديلاً له، وهو رئيس مجلس الإدارة السابق لـ"إنرون" الذي تركها من أجل جمع ما تبقى منها بعد إعلان الإفلاس في أوائل العقد الأول من القرن الحالي.
ازدهار وكساد
تبدو دورة الازدهار والبناء المفرط والكساد مألوفة لدى كيم فورست، كبيرة مسؤولي الاستثمار في "بوكيه كابيتال بارتنرز" (Bokeh Capital Partners). فقد قالت: "إنَّ هذه التطورات تحدث في الاقتصاد بأكمله في الوقت الحالي، لكنَّ صناعة التكنولوجيا هي البداية. فأين العملات المشفَّرة من هذا التشبيه؟. هي نقطة انطلاق".
أضافت "فورست": "كنتُ مهندسة برمجيات في أواخر التسعينيات من القرن الماضي، ورأيتُ المبالغات، واندهشتُ، إذ إنَّهم يوظفون الكثيرين. ولم تكن هذه الشركات مُنتجة إلى هذه الدرجة المفرطة لخلق هذا القدر من التوظيف، وليس لديها الإنتاج الكافي، ولا تدر العائد من رأس المال".
جمعت "إف تي إكس" تمويلات بحوالي 4 مليارات دولار عبر شبكتها من الشركات التابعة، والتي تضمّنت "ألاميدا ريسيرش" (Alameda Research)، وهي شركة تداول أسسها بانكمان- فريد، فضلاً عن "إف تي إكس فنشرز" (FTX Ventures) وبورصة منفصلة للمستثمرين الأميركيين.
الحملات التنظيمية تفتح شهية المستثمرين مجدداً على العملات المشفرة
على الرغم من أنَّ انهيار "إف تي إكس" ينطوي على المزيد من الإثارة، لكنَّه يشترك من حيث التفاصيل مع الكثير مما اختفى في الأسواق والفضاء التكنولوجي في عصر الوباء، إلى جانب التشابه الواضح لحالتها مع نظيراتها من شركات العملات المشفَّرة المنهارة مثل "ثري أروز كابيتال" (Three Arrows Capital) ومنظومة "تيرا" ( Terra) و"سيلزيوس نتورك" (Celsius Network)، فقد كان انهيارها مدفوعاً بالاقتناع بها والثقة في عبقريتها التي تحمل بصمات الأزمات التي تؤثر على كلٍ من "ميتا" (.Meta Inc) و"تويتر" في الوقت الحالي.
العملات المشفرة تهوي مع تزايد شكوك صفقة "بينانس– إف تي إكس"
بالقدر نفسه الذي ترحل به الفقاعات؛ فإنَّ القليل منها كان متوقَّعاً بشدة كهذه الفقاعة. إلى جانب أسهم "الميم"؛ سخر الخبراء في صناعة الأوراق المالية من جنون العملات المشفَّرة منذ اللحظة التي بدأت فيها تقريباً، مع تزايد حدة النقد جنباً إلى جنب مع السعر الذي وصلت إليه "بتكوين" في عام 2020. وأبدى تشارلي مونغر ذات مرة إعجابه بالصينيين لحظرهم "بتكوين"، بينما شبّه مؤلف كتاب "البجعة السوداء" نسيم نيكولاس طالب عملة "بتكوين" بـ"الورم".
اعتبرت هذه التأويلات حينئذ أنَّها غريبة الأطوار. والآن تتحقق هذه التوقُّعات في الوقت الذي يعمل فيه بنك الاحتياطي الفيدرالي على تشديد الخناق، فأسهم "الميم" هي أكثر قليلاً من مجرد عرض جانبي، باستثناء الأسهم ذائعة الصيت العرضية، أمثال "إيه إم سي إنترتينمنت هولدينغز" (AMC Entertainment Holdings) و"غيم ستوب" (.GameStop Corp). وانهارت أسهم النمو عالية المضاربة، مما أدى إلى تراجع صندوق "آرك إنوفيشن" (Ark Innovation) المتداول في البورصة التابع لـ"كاثي وود" (Cathie Wood)، والذي كان أحد أعلى الأسهم في فترة الجائحة، إلى أدنى مستوى له منذ عام 2020.
تخفي السوق الصاعدة الكثير من الأخطاء، إلى أن يكشفها منعطف دورة الاقتصاد. والتاريخ حافل بمثل هذه الأمثلة، وربما لا شيء أكثر شهرة من انهيار مخطط "بونزي" الضخم التابع لبرنارد مادوف، والذي استمر لمدة 15 عاماً، على الأقل، قبل هبوط أسواق الأسهم في عام 2008، مما دفع العملاء إلى السعي إلى عمليات سحب أكثر مما يستوعبها.
التقلب مطلوب
قال مايكل أورورك، كبير استراتيجيي السوق في "جونزتريدينغ" (Jonestrading): "أنت بحاجة إلى درجة من التقلب في الأسواق المالية لأنَّ ذلك سيمنع الإفراط في الاستفادة واستغلال النظام. فلم يُكتشف أمر مادوف إلا نتيجة اندلاع الأزمة المالية العالمية".
حتى في ظل اللوائح التنظيمية التي تلوح في الأفق فيما يتعلق بصناعة التشفير؛ فإنَّ المقرات الخارجية للعديد من شركات التشفير، ومنها: "إف تي إكس"، قد جعلت أجهزة رقابية، مثل لجنة الأوراق المالية والبورصات، مكتوفة الأيدي. وقال هيستر إم. بيرس، مفوّض هيئة الأوراق المالية والبورصات، إنَّ الشكوك حول عدم وضوح الاختصاص التنظيمي تمثل "خطأنا الجزئي"، نظراً لأنَّ المستثمرين والشركات طلبوا من الهيئة الرقابية "مراراً وتكراراً تقديم المزيد من الوضوح حول اختصاصنا التنظيمي المكاني، ونحن لا نقوم بذلك".
نتيجة لذلك، أصبح المجال المالي مرتعاً لازدهار العملات المشفَّرة في ظل إشراف محدود. قال جاي ويلسون، مدير الاستثمار في شركة رأس المال الجريء (AlbionVC)، ومقرها في لندن: "لا يوجد نظام أصول رقمية شامل مقبول عالمياً، وهذا يخلق فرصاً هائلة".
بالنسبة لكيم فورست، من شركة "بوكيه"؛ فإنَّ التكلفة واضحة، مشيرة إلى أنَّ ذلك سيتكرر مرة أخرى مع اختلاف اللاعبين والتفاصيل، لكنَّ المعنويات البشرية ستكون هي نفسها.
وأضافت: "الناس لا يتغيرون. فعلاً هم كذلك. بقدر ما نودّ أن نصوّر لأنفسنا أنَّنا نتعلم من الماضي، فقد نتعلم ألا نستثمر في وورلدكوم، لكنَّنا لا نعرف ألا نبحث عن شركة أخرى".