بلومبرغ
مع التقاط الحرب الباردة أنفاسها الأخيرة في نهاية التسعينيات استفادت أوروبا مما يطلق عليه اسم "عائد السلام"، الذي يشير إلى المبالغ الطائلة التي أتيحت بعد تقليص الميزانيات العسكرية، وبيع القارة كميات هائلة من المعدات الحربية، ظنّاً منها أنه من المستحيل نشوب صراع عسكري جديد على أرض القارة، لكن ذلك الاعتقاد سرعان ما تبخر بعد غزو روسيا لأوكرانيا في أوائل 2022. والآن تلتزم الحكومات الأوروبية في مختلف أنحاء القارة تعزيز إنفاقها العسكري بشكل كبير، استعداداً للصراع المطول والمفخخ بالتوترات الذي تخوضه كييف. رغم هذا، لم تتشابه نتائج تلك المساعي بين الدول، ما أثار شكوكاً حول ما إذا كانت أوروباً مستعدة فعلاً لمواجهة التحديات الأمنية مستقبلاً، ومتى ستجهّز نفسها لذلك؟
1) ما "عائد السلام"؟
تجاوز متوسط الإنفاق العسكري بين أعضاء حلف الناتو 4% من الناتج المحلي الإجمالي في 1989، إذ أبقوا على ما يسمى خط الدفاع الأول في أوروبا لصد غزو الاتحاد السوفييتي وحلفائه في منظمة معاهدة وارسو (حلف وارسو). وعندما انهار الاتحاد والحلف على حد سواء في غضون عامين فقط من هذا التاريخ، سارعت الحكومات للاستفادة من تلاشي توترات القوى العظمى، وقلصت الإنفاق الدفاعي، مع تحويل الموارد إلى مجالات أكثر إنتاجية وشعبية مثل الرعاية الصحية والرفاهية. كما فُكّكَت أو بيعت الدبابات والمدفعية وغيرها من الدروع الثقيلة.
إنفوغراف: 2.2 تريليون دولار قيمة الإنفاق العسكري العالمي بزيادة 3.7%
تعزز هذا الاتجاه بعد هجمات 11 سبتمبر 2001 على الولايات المتحدة، حينما أعيد تشكيل قوات الحرب البرية لتتحول إلى وحدات متنقلة بأسلحة خفيفة لمكافحة الإرهاب حول العالم. كما خصص الأعضاء الأوروبيون في منظمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) بحلول 2014 نحو 1.4% من الناتج المحلي الإجمالي للدفاع. وكان لدى ألمانيا في ذلك الوقت أقل من 1000 دبابة وعربة مشاة قتالية مجتمعة، بانخفاض من 7000 (في ألمانيا الغربية وحدها) خلال الحرب الباردة.
2) كيف كان الوضع في الولايات المتحدة؟
دام عائد السلام لفترة أقصر في أميركا، حيث تدنت نسبة الإنفاق الدفاعي من 6% من الناتج المحلي الإجمالي في 1989 إلى مستوى منخفض بلغ 3% في 2001، لكنه بدء في الصعود مجدداً بعدما أدت هجمات 11 سبتمبر إلى اندلاع حروب أميركية كبرى في أفغانستان والعراق. وبسبب هذه الصراعات ارتفع الإنفاق العسكري الأميركي مجدداً إلى 5% من الناتج المحلي الإجمالي في 2010، قبل استقراره عند 3.5% تقريباً في السنوات الأخيرة.
3) كيف تغير المشهد؟
بعد ضم روسيا شبه جزيرة القرم الأوكرانية زاد الإنفاق الدفاعي بين دول أوروبا التي تحمل عضوية حلف الناتو في 2014. وحدد الحلف في ذلك العام سنة 2024 موعداً نهائيّاً لوصول أعضائه إلى هدف الإنفاق البالغ 2% الذي تُجوهِل سابقاً.
الناتو يسعى لاتفاق مع الصين بشأن استخدام الذكاء الاصطناعي عسكرياً
كانت حفنة من دول الحلف بصدد الوصول فعلاً إلى ذلك الهدف قبل أن يقلب الغزو الشامل على أوكرانيا جذرياً التصورات حول مقدار ونوع الدفاع الذي تحتاج إليه أوروبا. ويعتقد عديد من المسؤولين الأوروبيين والأميركيين أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مصمم على إخضاع الدول التي كانت تحت مظلة الاتحاد السوفييتي من قبل. وبعد أشهر قليلة من نشوب الحرب، تبنى الناتو استراتيجية محدَّثة حدّدت روسيا على أنها "التهديد الأكثر خطورة ومباشرة" للحلف، وكانت استراتيجية الحلف في 2010 تهدف إلى "شراكة استراتيجية" مع روسيا.
4) ما الخطوات التي تتخذها الحكومات الأوروبية؟
تراجع حفنة من هذه الحكومات النصوص الدفاعية التي تحدد أنواع الحروب التي يجب الاستعداد لها، فيما يدرس أغلبها بشكل أو بآخر وسائل إعادة بناء مخزون الدبابات والأنظمة المضادة للدبابات والطائرات والصواريخ الموجهة بدقة وبطاريات المدفعية والذخيرة، إلى جانب الطائرات المسيرة التي ثبتت أهميتها المحورية في حرب أوكرانيا. وقالت شركة الاستشارات "ماكنزي آند كو" إنه قبل الحرب كان من المتوقع نمو الإنفاق الدفاعي الأوروبي في الفترة من 2021 إلى 2026 بنحو 14%، لكن الصراع سيرفع هذه النسبة إلى 53% على الأقل من إجمالي الإنفاق الذي قدرته بنحو 296 مليار يورو (317 مليار دولار) إلى 453 مليار يورو.
كان التحول في مخصصات الإنفاق الدفاعي في ألمانيا لافتاً للنظر بشكل خاص، فمن بين دول الناتو كان أكبر اقتصاد في أوروبا يخصص إحدى أصغر حصص الناتج المحلي الإجمالي للدفاع قبل الحرب الروسية على أوكرانيا. لكن بعد أيام من الغزو أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس زيادة قدرها 100 مليار يورو في الإنفاق العسكري. ورفعت فرنسا مخصصات ميزانيتها الدفاعية لستّ سنوات بمقدار الثلث. فيما تستهدف بولندا شراء مئات من قاذفات صواريخ "هيمارس" (HIMARS) التي لعبت دوراً كبيراً في أوكرانيا، بالإضافة إلى ثلاثة أضعاف عدد الدبابات التي جمعتها فرنسا والمملكة المتحدة، وستة أضعاف عدد قطع المدفعية ذاتية الدفع الموجودة لدى ألمانيا. في غضون ذلك تجني شركات صنع الأسلحة مكاسب كبيرة.
5) ما التحديات؟
توجد شكوك حول مدى قدرة الحكومات على سداد تكاليف الترقيات الدفاعية الطموحة، كما تأتي الدعوات إلى زيادة الإنفاق العسكري الدفاعي وسط تسارع معدلات التضخم، وارتفاع الطلب على زيادات أجور القطاع العام، إلى جانب الإعانات والاستثمارات اللازمة لتلبية أهداف مكافحة تغير المناخ. وكل هذا يضاف إلى تكلفة إعادة إعمار أوكرانيا التي ستكون باهظة في نهاية المطاف. واستنفد عديد من الدول مخازن أسلحتها لتزويد أوكرانيا، وتحتاج إلى إعادة تعبئتها قبل أن تتمكن من التوسع. لكن نظراً إلى التعقيدات الإدارية أمام مشتريات الأسلحة، تكون الطلبات بطيئة حتى عندما يكون لدى المنتجين إمدادت كافية. لذا، ورغم مرور عام على إعلان شولتس زيادة مخصصات الدفاع، لم يُنفَق سنت واحد من هذه الميزانية حتى الآن، وفقاً لتقرير برلماني.
الإنفاق الحربي والسري يلتهم ميزانية روسيا
أيضاً تواصل الحكومات الأوروبية في أغلب الدول متابعة مشروعاتها الخاصة لتصنيع الأسلحة، مما يساهم في ظهور عديد من طرازات الدبابات والطائرات والسفن والمدافع الجديدة، وبالتالي يصعب عمل القوات العسكرية من دول مختلفة معاً. وخُصّص 18% فقط من إنفاق المشتريات الأوروبية لمشروعات الدفاع المشتركة في 2021. ويمكن للعمل المشترك في تصنيع الأسلحة أن يسرع الإنتاج ويحد من التكاليف في الوقت ذاته. ودعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وزراء الدفاع الأوروبيين إلى مؤتمر في باريس في 19 يونيو الجاري لمناقشة تعميق التعاون بينهم.