تخوض الولايات المتحدة وروسيا أعنف منافسة في إكراه للقوى العظمى منذ ذروة الحرب الباردة. يستخدم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين التهديدات النووية وغيرها من أساليب التصعيد في محاولة لتفادي المهانة في أوكرانيا. تمارس واشنطن مجموعة من ضغوطاتها لإجبار بوتين على القبول بهذه النتيجة فقط.
النبأ السار هو أنه، إلى حد الآن، جرت معايرة كلتا الاستراتيجيتين بعناية نوعاً ما. النبأ السيئ هو أن أميركا وروسيا ربما ما تزالان في مسار تصادمي، لأن واحدة فقط من هذه الاستراتيجيات يمكن أن تنجح.
يُعرف الإكراه بأنه فن تشكيل سلوك المنافس من خلال الترهيب أو العنف. يمكن أن تجري هذه العملية في وقت السلم والحرب وما بينهما.
حالياً، لا تقاتل واشنطن وموسكو بعضهما البعض بصورة مباشرة في أوكرانيا. لكن منذ بداية هذا الصراع، كانوا يقومون بإكراه بعضهم البعض بشدة.
معركة الإكراه
كانت نسخة بوتين أعلى صوتاً وأكثر تهديداً في اللهجة الخطابية. منذ فبراير 2022، تحدث الزعيم الروسي بطريقة تهدد بالسوء عن الحرب النووية لإثناء منظمة حلف شمال الأطلسي "الناتو" عن التدخل مباشرة نيابة عن أوكرانيا. حذّر مسؤولو الكرملين من أنه حتى إمداد كييف بأسلحة بعينها، على غرار الصواريخ طويلة المدى التي يمكنها الوصول لعمق روسيا، سيعد تجاوزاً لخطوط موسكو الحمراء. يحاول بوتين ترهيب الغرب حتى يستطيع شن الحرب التي يريدها في صورة مبارزة فردية تخضع فيها أوكرانيا لقوة روسيا الفائقة.
لم تنجح الخطة في ذلك، جرّاء حملة الإكراه الأميركية الهادئة، ولكنها كانت مؤثرة بلا هوادة. أجبرت أميركا بوتين على البقاء عاجزاً بطريقة ملحوظة، إذ ألحقت أوكرانيا والتحالف الغربي الذي يدعمها ضرراً غير متصور في السابق بجيشه والدولة التي يسيطر عليها.
جعلت التعهدات المتكررة من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بالدفاع عن "كل شبر" من أراضي حلف الناتو التدخل في خطوط الإمداد الأوكرانية التي تمر عبر رومانيا وبولندا خطراً بالغاً على بوتين. منعت القوة العسكرية الأميركية، التقليدية والنووية على حد سواء، موسكو من شن هجمات انتقامية، في وقت يرسل فيه الغرب الأسلحة والمعلومات والأموال التي تحتاجها أوكرانيا لتدمير القوات البرية الروسية، كما تعيد عملية فرض عقوبات مالية اقتصاد بوتين إلى الخلف بمقدار جيل، ويضم عضوين جديدين للناتو يقعان على حدود روسيا، وهما فنلندا والسويد. هذا انتصار في معركة الإكراه يستحق الثناء، حتى لو أوصل الأمور لمرحلة خطيرة.
مناورة بوتين
بوتين يتجه صوب الهزيمة في أوكرانيا. ربما لا ينجو من تلك النتيجة من الناحية السياسية، لذلك يحشد مئات الآلاف من القوات، بينما يذكّر أعدائه فقط بمدى الضرر الذي يمكن أن تتسبب فيه روسيا.
عن طريق عملية الضم غير القانونية لـ4 مناطق أوكرانية، حذّر بوتين واشنطن وكييف من أن الهجمات على تلك الأراضي ترقى إلى مستوى الهجوم على روسيا نفسها. وفي حال كانت روسيا وراء الهجمات الأخيرة على خطوط أنابيب الغاز الممتدة تحت البحر إلى ألمانيا، كما يؤكد مسؤولو الاتحاد الأوروبي، فربما يرسل بوتين رسالة تقول إن موسكو يمكنها أن تنقل القتال إلى دول الناتو بطرق أقل تقليدية. يقول بوتين، تراجع، قبل أن تصبح الأمور خطيرة فعلاً.
اختارت إدارة بايدن عدم الانصات. وردت على مناورة الضم بالإعلان عن إرسال شحنات حديثة من الأسلحة إلى أوكرانيا، التي تحرر كل يوم أراضٍ أكثر، يدعي بوتين حالياً أنها في حيازته. يحذّر المسؤولون الأميركيون موسكو بطريقة علنية من أن استعمال الأسلحة النووية سيكون مدمراً لروسيا، وسراً، يقال إنهم يوجهون تهديدات يُقال أنها أكثر تحديداً لكنهم ما زالوا يتركون شيئاً للتخيل. في كل مرة سعى فيها بوتين الترهيب بالصوت العالي أو ممارسة التهديد والوعيد في طريقه للخروج من المتاعب، أجبرته الولايات المتحدة ببساطة على العودة فوراً.
أوراق أخرى
ما زالت توجد تحركات باقية في هذه اللعبة. يمتلك بوتين أوراقاً أخرى غير نووية ليلعبها، على غرار شن هجمات ضد كابلات الألياف البصرية تحت البحر التي تربط بين الولايات المتحدة وأوروبا. قد يصدر إنذاراً نووياً أكثر تحديداً أو الشروع في تحريك ترسانته بوسائل تكتشفها وكالات الاستخبارات الأميركية.
من جانبها، لم تزود الولايات المتحدة كييف حتى الآن بصواريخ بعيدة المدى وطائرات هجومية ودبابات قتال مهمة وأسلحة أخرى. التنافس حالياً خطير تماماً، لكنه لم يخرج حتى الآن عن السيطرة.
رغم ذلك، يذكرنا ذلك بأشد أوقات الحرب الباردة رعباً. أثناء أزمات برلين في أواخر فترة الخمسينات وأوائل الستينات من القرن الماضي، تعهد الزعيم السوفيتي نيكيتا خروتشوف بإطلاق الصواريخ في حال لم تتخلَ الولايات المتحدة وحلفاؤها عن برلين الغربية. في 1962، حذّر الرئيس الأميركي الراحل جون كينيدي من أن أميركا ربما تغزو كوبا- مع كل التصعيد الذي يمكن أن يتبعه- إذا لم يسحب خروتشوف الصواريخ التي وضعها هناك. كانت التهديدات النووية والتهديدات المضادة هي لغة سياسات القوى العظمى، كما هو الحال حالياً مرة أخرى.
تسوية مماثلة؟
حُلت هذه الأزمات في نهاية الأمر بطريقة سلمية، لأن الإكراه خُفف في نهاية المطاف عبر التوصل لتسوية. في 1961، استقر خروتشوف على تحويل برلين الشرقية إلى سجن، عن طريق بناء جدار برلين، عوضاً عن طرد القوى الغربية. في السنة التالية، تعهد كينيدي بعدم غزو كوبا إذا أعاد خروتشوف صواريخه إلى الوطن. التوقيت الراهن مخيف لأنه من غير الواضح ما هي التسوية المماثلة.
يستمر بوتين في تمزيق أوكرانيا، وهو ما لن تقبله كييف وواشنطن. تضع أوكرانيا والولايات المتحدة بوتين على طريق هزيمة كارثية تعد بمثابة لعنة عليه. يراهن الطرفان على أن عملية التسوية الأساسية لأهدافهما الحربية لا تعتبر ضرورية، لأنهما يستطيعان ممارسة ضغوط بما فيه الكفاية لإجبار العدو على التراجع في التوقيت الحاسم. لا يمكن أن يكون كلا الجانبين على حق.