على مدى ثلاثة عقود، نشبت حربان عالميتان، لقي فيهما أكثر من 100 مليون شخص حتفهم، ثم في أغسطس 1945، عرفت البشرية أكثر الأسلحة التي تم نشرها على مدار التاريخ تدميراً. ومنذ ذلك الحين، أدى الاحتمال المروّع للهلاك المؤكد الناجم عن الحروب المُغذية بالأسلحة النووية، إلى بقاء القوى العظمى تحت السيطرة، والآن في الوقت الذي تتحول فيه الأعمال العدائية العالمية إلى الرقمية، قد يكون التوصل إلى مقابل سيبراني للأسلحة النووية، هو الأمر المطلوب تماماً.
منذ شهر فبراير، صاحب الغزو الروسي لأوكرانيا وابل من الهجمات الإلكترونية التي استهدفت البنية التحتية للطاقة والاقتصاد الأوكراني، وهو ما ذكّرنا بأن الكرملين يعطي ترسانته الرقمية الأهمية ذاتها التي يوليها لعتاده من الدبابات والصواريخ القديمة. مع ذلك، فإن أياً من هذه التوغلات لم ينجم عنها ضربة قاضية، ويعود أحد تفسيرات ذلك إلى أن كييف بدأت بناء دفاعاتها الرقمية خلال العقد الماضي، وباتت رائدة عالمياً في القدرة على صد الهجمات الإلكترونية الآن.
حرب روسيا
مع ذلك، يوجد شعور بأن موسكو ربما تكون تخطط لأمر ما. حيث قد يكون لدى الرئيس فلاديمير بوتين مخطط أكبر يتماشى مع أسلوب تفكيره، وينتهي باستخدام سلاح رقمي مدمر لم نشهده من قبل. وهو بالفعل قد أصدر تهديدات ضمنية بنشر أسلحة نووية مع استمرار الصراع.
من جهته، فإن البيت الأبيض بالتأكيد يأخذ حذره فيما يتعلق بالحرب الإلكترونية، وقد حذّر سابقاً أن الولايات المتحدة نفسها مهددة بسبب دعمها المستمر لأوكرانيا وزعيمها فولوديمير زيلينسكي.
في الوقت الحالي، يضم "النادي النووي" تسعة أعضاء، بما فيها الدول التي أكدت امتلاكها لهذه الأسلحة، والدول التي يُفترض أنها تمتلكها.
(الدول الأعضاء في معاهدة الحد من الانتشار النووي: الصين، فرنسا، روسيا، بريطانيا، والولايات المتحدة. أما الدول النووية غير الأعضاء في معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية: الهند، وباكستان، وكوريا الشمالية، بينما تُحافظ إسرائيل على إخفاء وضعها).
القوى العظمى الثلاث
لكني أرى أن هناك ثلاث دول فقط يمكن تسميتها بالقوى العظمى إلكترونياً، من بينها الصين التي أثبتت نفسها كمُنفّذة هجمات إلكترونية ذات تسلّل ماهر وعدواني، رغم عدم وجود الكثير من الأدلة حتى الآن تؤكد عزمها التدمير الشامل. حيث تُركّز غالبية الهجمات، التي يُعتقد حصولها على موافقة بكين الضمنية أو الصريحة، على الأمن أو الأسرار الصناعية. وكان لعدد قليل منها دوافع اقتصادية مثل برامج البرمجيات الذكية المهاجمة "رانسومواري". بينما تنفي بكين من جهتها اتهامات القرصنة.
أما القوى الثانية فهي روسيا التي تشتهر ببراعتها الأسطورية في المجال. وكانت العصابات الإلكترونية، بتوجيه من موسكو أو بموافقتها على الأقل، أطلقت برامج ضارة أوقفت خطوط أنابيب، وحصلت على كميات كبيرة من البيانات الحساسة، وتسبّبت في أنواع أخرى من الأضرار الواسعة والخبيثة. حيث أدّى هجوم" 2020 سولار ويندز" (2020 SolarWinds)، الموجّه بواسطة الوكالات الروسية، إلى اختراق كثير من الإدارات في الحكومة الأمريكية وتسبّب بأضرار قيمتها 100 مليار دولار.
هناك كذلك، الولايات المتحدة الأمريكية، التي تختلف طريقة الهجمات المُنفَّذة تحت قيادتها عن تلك التي تقوم بها الصين أو روسيا. ويعود أحد أسباب ذلك إلى أن الهيئات الأمريكية، ومنها مكتب التحقيقات الفيدرالي ووزارة العدل، تنشر المعلومات عن تعرضها لهجمات خارجية باستمرار، ربما لتحظى بدعم الميزانية أو لتُظهر عملها الجاد. بينما بكين وموسكو، على الجانب الآخر، لا تميلان إلى الاعتراف بأنهما كانتا ضحيتي هجمات، وتحتفظان بسرية هذه الانتهاكات بشكل عام. وتضمّنت الهجمات الأكثر شهرة وتدميراً، "ستاكسنت" (Stuxnet)، التي نفذتها الولايات المتحدة ضد المنشآت النووية الإيرانية في عام 2009 (هناك اعتقاد واسع أن إسرائيل لعبت دوراً بها).
وبالرغم من التدمير الناتج عن هذه الهجمات التي شهدناها، فإن أياً منها لا يرقى إلى مستوى الدمار الشامل حتى الآن. مع ذلك، لا زال من المنطقي أن نشعر بالقلق، حيث إن هذه القوى العظمى، بالإضافة لحلفائهم (مثل كوريا الشمالية من جهة، وبريطانيا وأستراليا من جهة أخرى) تعمل باستمرار لتطوير هذه القوى السيبرانية لتشكّل أسلحة إلكترونية أكثر قوة. خلال مارس الماضي، خصّصت كانبيرا ميزانية تاريخية تصل قيمتها إلى 7.5 مليار دولار لتعزيز قدرات أستراليا خلال 10 سنوات، ولإضافة أدوات هجومية تستهدف الصين بشكل مباشر.
دروس التسلّح النووي
لا يبدو أن هذا التصعيد سينتهي في أي وقت، والهجمات تبدو مستمرة. لكن في حال استطاعت إحدى القوى إثبات امتلاكها لسلاح هائل لا يُمكن إيقافه، ولحقت بها الدول الأخرى سريعاً، فسيوجد حينها أمل بالتوصل إلى هدنة من نوع ما. وقد شهدنا ذلك سابقاً مع الأسلحة النووية، عندما قامت كل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ببناء مخزونات تكفي لتدمير كليهما مرات عدة، وحينها فُتح الباب للتهدئة. وكانت معاهدة الحدّ من انتشار الأسلحة النووية، التي دخلت حيّز التنفيذ في عام 1970 الخطوة الأولى في ذلك، كما أنها ساعدت في إقناع المزيد من الدول بالتخلي عن الانضمام إلى النادي النووي.
ومع أن توقف القوتين الرئيسيتين عن بناء ترسانتهما النووية تطلّب 15 عاماً وانهيار الاتحاد السوفييتي أيضاً، إلا أن مخزون الأسلحة النووية اليوم هو عند أدنى مستوياته منذ عام 1958، ولم تضف الدول الأخرى سوى هوامش ضئيلة إلى ترساناتها.
في المقابل، لن يكون خفض التصعيد السيبراني سهلاً، لأن عتاده هي حزم بيانات، وأهدافه هي برامج، لا يمكن حملها أو لمسها. عدم القدرة على التنبؤ بهذا النوع من الأسلحة يجعل السيطرة عليها أمراً صعباً، وقياسها أمراً مليئاً بالتحديات.
يقول غريج أوستن، الذي يشغل منصب زميل أول في الصراع السيبراني والفضائي والمستقبل، في المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية في سنغافورة: "في السلاح النووي فإننا نعلم بأنه سينفجر وسيكون تأثيره كما يريد مُطلقه في مكان ما، بينما في السلاح الإلكتروني، فإننا لا نستطيع التأكد من المكان الذي سيهبط فيه، أو أين سيتم اعتراضه"، مضيفاً: "لا يمكننا إحصاء حزم البيانات في الفضاء الإلكتروني، لكن سيمكننا عدّ الرؤوس الحربية النووية ".
ومع توفر الكثير من الأسلحة الإلكترونية، توجد احتمالية تنفيذ معارك عسكرية بالوكالة على غرار الحروب البرية في فيتنام وشبه الجزيرة الكورية، حيث يستعين فيها الخصوم الرقميون بمصادر خارجية لتنفيذ عملياتهم، ثم ينكرون مسؤوليتهم حيالها. ويعني هذا من الناحية الواقعية أننا لا نستطيع توقع توقف تام لكافة الحروب الإلكترونية، لكن إذا حصل انفراج في الأسلحة الرقمية، يمكننا أن نأمل على الأقل بعالم أكثر سلاماً في الفضاء الإلكتروني.