هل تنهار أسواق الملابس؟

time reading iconدقائق القراءة - 12
المصور: - Andrew Harrer/ Bloomberg
المصور: - Andrew Harrer/ Bloomberg
المصدر:

بلومبرغ

يواجه قطاع الملابس مشكلة كبيرة، إذ ينفق الأمريكيون مبالغ أقل على الملابس.

غالبًا ما يلقي قطاع التجزئة باللوم في هذه المشكلة على شركة "أمازون"، لأنها تجذب أعدادًا كبيرة من المشترين عبر الإنترنت، الذين يفضلون استخدام هواتفهم المحمولة وتصفح البضائع بدلًا من الذهاب إلى الأسواق المحلية، ما أدى إلى هبوط حاد في المبيعات، وتسريع إفلاس عمالقة السوق التقليدية، مثل "أميريكان أباريل" (American Apparel) و"ويت سيل" (Wet Seal).

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، فلا يبدو أن أحدًا في قطاع الملابس قد قدم حلًا لمواجهة انخفاض إنفاق الأمريكيين على الملابس. وبات واضحًا أيضًا أن الشركات الناشئة، التي تتطلع إلى خلق ثورة في عالم الملابس، تنحرف عن هدفها دون بذل أي جهد يُذكر.

والسؤال الذي يطرح نفسه: ما حاجتك لاتباع آخر صيحات الموضة بوجود وسائل التواصل الاجتماعي التي تتيح لك التعبير عن نفسك من خلالها؟ ولمَ ستشتري قطعة ملابس بمبلغ كبير بينما يمكنك أن تنفق هذا المال على قضاء إجازة ممتعة؟!

لقد فقدت الملابس بريقها بكل بساطة، ولا يبدو أن هناك ما سيعيده من جديد، ونتيجةً لذلك، نرى تراجع العديد من شركات الملابس، ابتداءً من المتاجر الكبرى وانتهاءً بالمتاجر الإلكترونية الناشئة العصرية.

أين ينفق المستهلكون أموالهم؟

المعدل السنوي لإنفاق المستهلكين الأمريكيين على البضائع حسب فئتها:

لا يختلف اثنان على أن الجذور الأساسية لهذه المشكلة موجودة منذ عقود، حيث تشير الإحصاءات الحكومية إلى أن الملابس كانت تشكل نسبة 6.2 بالمئة من النفقات المنزلية في الولايات المتحدة عام 1977، والآن - وبعد 4 عقود- تراجعت هذه النسبة إلى النصف.

نسبة النفقات الشخصية للمستهلكين

ببساطة، أصبح الناس ينفقون أموالهم على السفر وارتياد المطاعم وممارسة الأنشطة الترفيهية، بدلًا من إنفاقها على الملابس، أي أنهم يفضلون إنفاق المال على خوض التجارب، التي أصبحت تشكل نسبة 18 بالمئة من المشتريات، وتمثل التكنولوجيا نسبة 3.4 بالمئة من المشتريات، بما في ذلك رسوم البيانات والمحتوى الإلكتروني، متفوقةً على نسبة الإنفاق على الملابس والأحذية.

ويعود هذا التغيير إلى عدة أسباب، منها ما لا يمكن لشركات الملابس التحكم به، كالتغيرات الاجتماعية التي تتحكم بسلوك المستهلكين المتعلق بالتسوق؛ حيث أخفقت الشركات في اتخاذ الخطوات المناسبة لمواجهة هذه التغييرات، ما أدى إلى تسريع تراجع اهتمام المستهلكين بالملابس.

لا داعي لشراء ملابس خاصة بالعمل بعد الآن

كان الموظفون في السابق مضطرين لارتداء البدلات وربطات العنق، أو البناطيل الرسمية، أو التنانير الطويلة والأحذية ذات الكعوب العالية، للذهاب إلى أعمالهم، لكن ذلك تغير منذ بداية التسعينيات، ويعتبر السبب الأساسي في هذا محل جدل، حيث يلقي الكثيرون باللوم على الشركات التقنية في "سيليكون فالي" (Silicon Valley)، التي روّجت للمظهر غير الرسمي، الذي تسيطر عليه بناطيل اللون "الكاكي".

وتسللت هذه الموضة إلى قطاعاتٍ أخرى، ففي البداية أصبح من المعتاد أن يرتدي الموظفون الملابس العادية ليوم واحد في الأسبوع فقط، لكنها سرعان ما أصبحت المظهر الاعتيادي للموظفين في العديد من القطاعات.

وخلال السنوات الخمس الماضية، قفزت نسبة أرباب الأعمال الذين يسمحون بارتداء الملابس غير الرسمية طوال أيام الأسبوع إلى 10 بالمئة، وكانت النتيجة تحول الأمريكيين تدريجيًا إلى نمطٍ واحدٍ من الملابس، فلم يعد هناك فرق كبير بين ملابس العمل وأيام الإجازة.

نسبة أرباب العمل الأمريكيين الذين يسمحون بارتداء الملابس غير الرسمية يوميًا:

انخفاض نسبة متاجر تنظيف الملابس منذ عام 2010:

لم تعد ربطات العنق إلزامية كما في السابق، حتى في القطاعات المالية، وأصبح من الممكن ارتداء الأحذية الرياضية في جميع المناسبات، حتى في الأعراس والمناسبات الدينية، وما يؤكد هذا، الاستبيان الذي أجرته "إن بي دي غروب" (NPD Group)، الذي أكد فيه نصف الأمريكيين أنهم يستطيعون ارتداء بناطيل الجينز في وظائفهم.

ليس من الصعب أن ندرك أن هذا الخبر لا يسر شركات الملابس، فعندما تستغني عن فئة كاملة من الملابس، تقل الحاجة إلى شراء أخرى جديدة عند تغير الموضة. مثلاً، عندما يظهر لون أو نمط جديد جذاب، سيشتري عدد كبير من الناس قميصًا واحدًا لمواكبة الموضة، وسوف يرتدونه في العمل وعند الخروج للسهر مع أصدقائهم، بينما كان الناس في السابق يشترون ملابس مختلفة لكل مناسبة.

شركات الموضة السريعة ومتاجر التصفية تضغط على الأسعار

تعرض قطاع الملابس بشكل عام لنوع من الانكماش، فقد انخفضت تكلفة صناعة الملابس في السنوات الأخيرة، خاصةً مع انتقال الإنتاج إلى أسواق العمالة الرخيصة.

وعلى سبيل المثال، إذا قارنت سعر بنطال جينز عادي طراز 501 من العلامة التجارية "ليفايز" (Levi’s) ستجد أن سعره كان 58 دولارا أمريكيا عام 2009، ومن ثم ارتفع إلى 64 دولارا بعد ثلاث سنوات، ليعود إلى سعر 59.50 دولار عام 2017.

ويتزامن الضغط على الأسعار مع ظهور المتاجر التي تبيع ما يسمى "الموضة السريعة"، مثل "ولمارت" (Walmart) و"تارغت" (Target) في الولايات المتحدة، اللذين أصبحا مصدرًا للبضائع معتدلة الأسعار.

واليوم تقدم متاجر مثل "إتش آند إم" (H&M) ملابس تحاكي تلك التي نراها في عروض الأزياء مقابل سعر 35 دولارا مثلًا، أو تبيع بناطيل الجينز للرجال مقابل 25 دولارا فقط، حتى إنها أصبحت تجذب المشترين بشكل أسرع من بقية المتاجر، بفضل تصاميمها المواكبة للموضة.

مثلت هذه الطريقة وصفة للنجاح على مر السنوات، حيث توسعت سلسلة متاجر "إتش آند إم" (H&M) سريعًا في الولايات المتحدة، وجنت أرباحًا بقيمة 3.2 مليار دولار العام الماضي، وتزامن نموها مع التوسع السريع لمنافسيها من متاجر الموضة السريعة، مثل "فور إيفر 21" (Forever 21) و"زارا" (Zara) أيضًا.

عدد متاجر "إتش آند إم" (H&M) في الولايات المتحدة:

ولا تخلو قصة نجاح متاجر الموضة السريعة من بعض العراقيل، فبينما عدد متاجر "إتش آند إم" يتزايد في الولايات المتحدة، وصل معدل افتتاح المتاجر الجديدة إلى أدنى مستوى له منذ عشرين عامًا. كما واجهت الشركة صعوبات في التخلص من المنتجات التي امتنع المتسوقون عن شرائها، ويرجع ذلك جزئيًا إلى تفضيل المستهلكين خوض تجربة إلكترونية أقل تعقيدًا على فوضى التسوق في المتاجر الفعلية.

متاجر التجزئة ورواد الموضة التقليديون يفقدون تأثيرهم لصالح الشخصيات المؤثرة عبر وسائل التواصل الاجتماعي

تمتع قطاع الموضة بتأثير كبير على الملابس التي نرتديها، فقد كانت بعض المتاجر والمجلات والمصممين المرموقين بمثابة الجهة المُصدرة لصيحات الموضة، ومن برجهم العاجي، كانوا يحددون موضة الموسم ليسارع المتسوقون إلى طاعتهم.

وقبل عقدٍ من الزمان مثلاً، كان المراهقون يرتدون ملابس العلامة التجارية المعروفة، مثل "آبركومبي آند فيتش" (Abercrombie & Fitch) من الرأس حتى أخمص القدمين.

وفي ظل الاقتصاد المتمحور حول المستهلكين، أصبحت الشخصيات المؤثرة- على مواقع التواصل الاجتماعي- غالبًا ما تتحكم بما يشتريه المستهلكون. وتجمع هذه الشخصيات متابعيها من خلال نشر صور لملابسهم وروتينهم اليومي في استخدام مستحضرات التجميل وأسلوب حياتهم، ولا تفضل عادةً العلامات التجارية الباهظة.

ويمكن أن يبتكر أحد مشاهير "إنستغرام" (Instagram) إطلالة من ملابس "توري بيرتش" (Tory Burch) وبعض القطع من متجر "تي جيه ماكس" (T.J. Maxx) والملابس والقطع الأساسية من "تارغيت" (Target).

واكتشف المستهلكون أن بإمكانهم الاستثمار في قطع معينة وشراء ملابس مقلدة عن ملابس دور عرض الأزياء للحصول على مظهر فريد يستحق التقاط صورة "سيلفي". ومن خلال الهواتف الذكية، أصبح بإمكان هؤلاء المتسوقين مقارنة الأسعار أو استخدام التطبيقات لالتقاط الصور وإيجاد بدائل أرخص.

قميص كحلي اللون يناسب جميع الميزانيات

تخصص المتاجر- في الوقت الحالي- جزءًا أكبر من ميزانيتها التسويقية للإعلانات الإلكترونية، وتطوير صورتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وترويج المنشورات، والتعاون مع الشخصيات المؤثرة لدعم منتجاتها والتسويق لها، إذ يأملون بذلك في أن تبدو الإعلانات أكثر مصداقية وقربًا للمستهلكين، مقارنةً بالإعلانات التجارية التي يظهر بها المشاهير.

وأصبح من الصعب أن تصل صيحات الموضة الجديدة إلى الأسواق، بسبب وجود الكثير من الشخصيات التي تشكل الذوق العام عبر الإنترنت، وهذا ما جعل الكثير من علامات الملابس التجارية أقل جرأة أو اندفاعًا للمخاطرة بابتكار تصاميم قد لا تعجب الجميع.

بينما كان المصممون يقضون أشهرًا، في العمل على مجموعة من التصاميم الجريئة لتمييز علامتهم عن غيرها، باتوا الآن يخشون المخاطرة بقضاء الكثير من الوقت والمال على تصاميم قد لا تنجح، لذا أصبح الكثير من العلامات التجارية تشتري كميات كبيرة من الأقمشة لاستخدامها في تصاميم وأنماط متعددة وتقديم خيارات "آمنة" للمستهلكين. وهكذا، بما أن الموضة أصبحت أقل عرضة للتغيير، لم يعد هناك سبب وجيه لتغيير الملابس كثيرًا.

يبدو أن تصاميم الجينز المتغيرة توقفت عند النمط الضيّق

من الواضح أن بعض الصيحات قليلة الأهمية تشتهر ثم تخفت سريعًا، وتبقى الصيحات الأهم موجودة لفترة أطول، وخير مثال على ذلك بناطيل الجينز ذات النمط الضيق التي انتشرت منذ عام 2006، وما زالت كذلك حتى الآن. وصحيح أنها أصبحت ممزقةً أكثر من أي مضى، إلا أن تصميمها لا يزال على حاله.

الشركات التي تدّعي أنها سترسم ملامح مستقبل بيع الملابس تصارع من أجل البقاء.

عند النظر إلى جميع الضغوطات التي تثقل كاهل قطاع الملابس، لن تتفاجأ بوصول عدد المتاجر التي تغلق أبوابها إلى الذروة. ولا نتحدث هنا عن التحول للتسوق عبر الإنترنت فحسب، فعلى الرغم من أن المتاجر الإلكترونية الناشئة قد استغلت تراجع السوق التقليدية للملابس، لكنها بدورها واجهت بعض المعيقات، وهذا يشير إلى وجود مشكلات أكبر متفشية في قطاع الملابس.

متاجر الملابس التي أعلنت عن إغلاقها

في عام 2017، أعلن المتجر الإلكتروني المحبب لدى المتسوقين "ناستي غال" (NastyGal) عن إفلاسه، كما بيعت متاجر أخرى لعلامات تجارية معروفة، بدلًا من أن تشتهر بشكل مستقل، وهذا يشمل العلامة التجارية الشهيرة "بونوبوس" (Bonobos) لملابس الرجال، التي اشترتها سلسلة متاجر "ولمارت" (Walmart) عام 2017.

تمثل شركة "ستيتش فيكس إنك" (Stitch Fix Inc) الإلكترونية، التي تأسست عام 2011، أحد الاستثناءات، حيث تجمع الشركة الخوارزميات والبيانات لاختيار ملابس مخصصة لمشتركيها، ما يمنح المتسوقين شعورًا بالمعاملة الخاصة، من خلال تجربة سهلة يستمتعون بها من منازلهم.

وقد أدرجت أسهم الشركة في سوق "ناسداك" (Nasdaq) في شهر نوفمبر عام 2017، وحققت أسهمها أرباحًا بنسبة 34 بالمئة. وأفاد الخبراء بأنه على المزيد من المتاجر التعلم من قدرة "ستيتش فيكس" (Stitch fix) على توظيف التكنولوجيا لصالحها، من خلال تقديم تجربة مخصصة للمستهلك، رغم وجود تحديات إضافية تواجهها المتاجر الفعلية وتتجنبها شركات التجارة الإلكترونية.

حتى وإن استطاعت المتاجر حل تلك المعضلة، فلا تزال هناك مشكلة إضافية تكمن في قلة الطلب الذي من الممكن أن يعيق قطاع الملابس لسنوات، ما يعني أن المزيد من المتاجر ستغلق أبوابها مستقبلًا، والمزيد منها سيعلن إفلاسه، سواءً أخرجنا موقع "أمازون" (Amazon) من المعادلة أم لم نخرجه.

وقال "جان نيفين" (Jan Kniffen)، مؤسس شركة الاستشارات "جيه رودجرز نيفين وورلدوايد إنتربرايزيز" (J. Rogers Kniffen Worldwide Enterprises) في نيويورك: "يشهد هذا الزمن تحولات كبيرة وهي ليست بالسهلة، ولن تكون كذلك أبدًا".

تصنيفات