للوهلة الأولى، قد تبدو جهود شركات مثل "أبل" و"غوغل" وغيرهما من عمالقة التكنولوجيا، لغزو عالم صناعة السيارات، كتوجهات بلا ربحية تذكر حتى الآن.
فتصنيع السيارات، ليس أمراً سهلاً، فهو يتطلب معامل وتجهيزات وجيشاً من الموظفين الذين يقومون بتصميم وتجميع كتل ضخمة من الحديد والبلاستيك والزجاج. وكلّ هذا لا ينتج الكثير من الأرباح. حيث إن أكبر 10 من صانعي السيارات في العالم، بلغت هوامشهم التشغيلية خلال العام الماضي، 5.2% فقط، وهي نسبة أقل بكثير من الهامش التشغيلي الذي بلغت نسبته 34% لدى عمالقة قطاع التكنولوجيا في نفس الفترة، وذلك بحسب البيانات التي جمعتها "بلومبرغ".
حماية النفوذ
ولكن بالنسبة لشركة "أبل" وغيرها من شركات التكنولوجيا التي تخوض غمار تقنيات القيادة الذكية، أو تلك التي وضعت خططاً لإنتاج سياراتها الخاصة، فإن هذه الاندفاعة لا تهدف فقط لاستكشاف سوق جديدة، بل هي تستهدف أيضاً الدفاع عن دائرة نفوذها الثمينة.
كريس جيرديس، المدير المساعد لمركز بحوث المركبات في جامعة "ستانفورد" يقول: "لماذا تندفع شركات التكنولوجيا نحو تطوير القيادة الذاتية؟ لأنها تستطيع ذلك، ولأنه يتوجب عليها ذلك"، مضيفاً: "توجد نماذج للأعمال، لا يعيها الناس".
القيادة الذاتية
وبالوقت نفسه، فإن تجاهل سوق يتوقع أن تصل قيمته إلى تريليونيْ دولار بحلول عام 2030، ليس بالأمر السهل أو الحكيم. حيث من المتوقع بحلول ذلك الوقت، أن تصبح أكثر من 58 مليون سيارة حول العالم ذاتية القيادة.
ومن جهتها، تملك شركات التكنولوجيا الضخمة الوسائل اللازمة للانخراط في هذه السوق، ويشمل ذلك وسائل الذكاء الصناعي والبيانات الضخمة وصناعة الرقاقات والهندسة. وهو ما يتيح لها إحداث تحول كبير في قطاع يمتد عمره لمئة عام.
وفي الحقيقة فإن ما يكمن على المحك الآن، هو أمر أهم بكثير من الربحية، وهو أمر يتعلق بالاستحواذ على اهتمامات المستهلكين، خلال الوقت الأخير المتبقي من الساعات التي يكونون يقظين فيها. فالناس، بالأخص في الولايات المتحدة، يقضون وقتاً طويلاً جداً في السيارة. إذ قضى الأميركيون 307 ساعات و8 دقائق خلف مقود السيارة في عام 2016، أي ما يوازي ست ساعات أسبوعياً، وذلك بحسب آخر الأرقام الصادرة عن رابطة المركبات الأمريكية.
وهذا وقت "طويل" يمضي من حياة المرء بدون أن يستخدم فيه أي تطبيقات على "أيفون"، أو يجري بحثاً على "غوغل" أو يتصفح "انستغرام"، فأي شركة قادرة على تعبئة هذا الوقت بشكل هادف، ستكون لديها فرصة جيدة للسيطرة عليه.
تغيّر جذريّ للقطاع
يتوجّه العالم بشكل مستمر نحو السيارات الذكية الصديقة للبيئة. فعدا عن إعلان الحكومات عزمها تحقيق الحياد الكربوني، وتحديد البعض منها مهلة نهائية لبلوغ هذا الهدف بحلول نهاية العقد الحالي، تشير الكثير من البحوث أيضاً إلى أن مركبات محرك الاحتراق الداخلي سوف تلقى مصير الديناصورات.
يتوقع تقرير آفاق المركبات الكهربائية السنوي الذي أصدرته "بلومبرغ NEF" في مايو الماضي، أن يبلغ الطلب العالمي على النفط من قبل جميع وسائل النقل على الطرقات، ذروته خلال ستّ سنوات فقط. وذلك على افتراض عدم تبني أي إجراءات أخرى على صعيد السياسات. كما يتوقع أن تصل مبيعات المركبات الكهربائية حول العالم إلى 10% بحلول عام 2025، وترتفع إلى 28% بحلول عام 2030، وتصل إلى 58% بحلول عام 2040. وفي نهاية المطاف، سوف تغير المركبات الكهربائية وجه عالم السيارات والشحن بالكامل.
"سيارة أبل"
انطلاقاً من كل ذلك، ليس مفاجئاً أن تعزز شركات التكنولوجيا نشاطها واستثماراتها في هذا المجال باندفاعة واضحة، بعد سنوات صرفت فيها النظر عن السيارات ذاتية القيادة.
على صعيد آخر، فإن المركبات ذاتية القيادة تكون جيدة فقط بقدر مهارة السائقين البشر الذين تتعلم منهم، وبالتالي فإن الأشخاص الذي يعلّمون هذه الأنظمة، يجب أن يكونو أنفسهم سائقين ممتازين.
وخلال الأشهر الماضية، منحت "أبل" الأولوية لخططها المتعلقة بـ"سيارة أبل"، بعد أن كانت تركز في السابق على صنع نظام قيادة ذاتية، بحسب ما أفادت به "بلومبرغ". وقد أثار ذلك الكثير من التساؤلات حول شركات صناعة السيارات والموردين الذين سترغب الشركة المصنعة لـ"أيفون" أن تتعاون معهم من أجل تحقيق رؤيتها. وعلى الرغم من خسارة "أبل" مؤخراً عدداً من كبار المديرين في المشروع، إلا أنه لا يزال لديها المئات من المهندسين ضمن مجموعتها الواسعة المعنية بالسيارات.
مشروع "غوغل"
من جانبها، تجري شركة "وايمو" هي الأخرى محادثات لجمع ما يصل إلى أربعة ملايين دولار، بهدف تسريع مجهودها في المجال. فالشركة التي تأسست في عام 2009 كمشروع القيادة الذاتية من "غوغل"، كانت الأولى التي سيّرت مركبات ذاتية القيادة بالكامل على الطرقات العامة. وقد أصبحت في عام 2017 شركة مستقلة تحت مظلة شركة "ألفابيت"، الشركة الأم لـ"غوغل"، وأطلقت خدمات سيارات أجرى ذاتية القيادة في مدينة فينيكس بالولايات المتحدة في عام 2018، كما بدأت باختبار الشاحنات ذاتية القيادة في نيو مكسيكو وتكساس كذلك.
جهود "مايكروسوفت" و"أمازون"
شركة "مايكروسوفت"، تدعم هي الأخرى العديد من مبادرات القيادة الذاتية، وقد عقدت شراكة مع "فولكس واجن" لإعداد برامج الكترونية للقيادة الذاتية، وربما تسعى لإنشاء ما يشبه المكاتب السيّارة.
من ناحيتها، ألقت "أمازون" بثقلها خلف شركة "ريفيان أوتوموتيف" المصنعّة للشاحنات الكهربائية، وفي العام الماضي، قامت بشراء الشركة الناشئة "زوكس" المتخصصة بالقيادة الذاتية. كما قد تسعى "أمازون" لطرح خدمات توصيل ذاتية القيادة كجزء من برنامج العضوية "برايم" لديها.
يقول البروفيسور راج راجكومار، الذي يقود معهد الروبوتات في جامعة "كارنيغي ميلون": "كلّ من هذه الشركات، بما فيها "فيسبوك"، تريد أن تصبح جزءاً، أو حتى تسيطر وتتحكم بكلّ جانب من حياة المواطنين". وأضاف: "فمن وجهة نظر أي من هذه الشركات تجارياً، فإنها في حال لم تفعل ذلك، فإن جهة أخرى ستقوم بالأمر، وسوف تكون قادرة على ذلك غالباً، وفي نهاية المطاف، سوف تضمحل دائرة نفوذها".
هجوم تكنولوجي
وعلى الرغم من أن "أبل" سيطرت على عالم الهواتف والأجهزة اللوحية والساعات الذكية، وخاضت معركة مشرفة للسيطرة على أجهزة الكمبيوتر على مرّ العقود الماضية، إلا أنها بدت متخاذلة على صعيد الذكاء الصناعي ومجالات الصوتيات وأجهزة الاستماع الذكية، وهي مجالات تقودها اليوم كلاً من "غوغل" و"أمازون".
لذا فإن نجاح طرح منتج جديد ضخم، سيفيد الشركة بشكل كبير. فعلى الرغم من نجاحها مع الساعات التي طرحتها في عام 2015، ومع الخدمات مثل تلفزيون "أبل" و"أبل آركيد" و"موسيقى أبل"، وهي كلّها مصادر ضخمة جديدة للإيرادات، إلا أن أياً من هذه المنتجات لم يقترب من مستوى النجاح الذي حققه مع هواتف الـ"آيفون"، التي أحدثت تحولاً في قطاع بأكمله، وبات المنتج الأكثر إدراراً للربح لـ"أبل" منذ طرحه في عام 2007.
وفي "غوغل"، لطالما نظر المديرون التنفيذيون إلى الاستثمارات في مجال المركبات ذاتية القيادة، على أنها كغيرها من الإنجازات في مجال التقنية الحيوية والطائرات بدون طيار، كلها مخاطر لن يريد رأس المال المجازف والشركات الأقل ثراءً منها، القيام بها، وأنها لن تقوم بها على الأرجح. وقد ناقشت "وايمو" نماذج أعمال محتملة تتعلق بخدمات سيارات الأجرة، ولوجستيات النقل لمسافات طويلة.
رد شركات السيارات
هذا الهجوم من طرف شركات التكنولوجيا دفع القوى المسيطرة على قطاع السيارات للاستعداد إلى المعركة. فعمالقة هذه الصناعة، أمثال "فورد موتورز" و"جنرال موتورز" و"تويوتا"، قد عززوا جهودهم للمنافسة في مجال القيادة الذاتية. حتى أن صانع السيارات الياباني "تويوتا" يقوم ببناء مدينة مختصة بحدّ ذاتها بالقيادة الذاتية، تقع في أسفل جبل فوجي. فيما ستخصص شركة "هيونداي" الكورية الجنوبية 7.4 مليارات دولار لصنع المركبات الكهربائية في الولايات المتحدة، ولتطوير طائرات بدون طيار.
المساعي الصينية
في الصين، انضمت كبرى شركات التكنولوجيا للسباق، فقد تعهد عمالقة من طراز "هواوي" و"بايدو" بتخصيص ما يصل إلى حوالي 19 مليار دولار لمشاريع المركبات الكهربائية والقيادة الذاتية في هذا العام وحده. كذلك، انضم إلى القافلة كلّ من عملاق الهواتف الذكية "شاومي"، وحتى شركة "فوكسكون" وهي الشريكة التايوانية لـ"أبل" قد انضمت للسباق أيضاً، وأعلنت عن عقد اتفاقيات وكشفت عن خطط خاصة بها لتصنيع السيارات.
دفاع طبيعي
وتعد جهود شركات السيارات للدفاع عن مجال نفوذها، أمراً مفهوماً، ولكن بالنسبة لتاكيهيتو سوميكاوا، الشريك في مكتب "ماكنزي أند كو"، الذي يقدم الاستشارات حول مستقبل قطاع النقل فإنه "من الطبيعي" أيضاً لشركات التكنولوجيا أن تدخل مجال القيادة الذاتية. وأضاف: "هم يراهنون بأن بإمكانهم القيام بعمل أفضل على صعيد إحداث هزّة في هذا المجال".
حيث أن المجالات الحالية التي تنشط فيها كلّ من "أمازون" و"أبل" و"غوغل"، تفرض عليها أن تكون محترفة في مجال الذكاء الصناعي، بما أنها تتطلب معالجة كميات هائلة من البيانات وتصميم أنظمة معقدة. كما أن هذه الشركات تستثمر بشكل سبّاق في التكنولوجيات اللازمة من أجل تصميم وبيع السيارات ذاتية القيادة، والآن بات لديها مجموعات ضخمة من المهندسين المتشوقين لحلّ مسائل أكثر تعقيداً، وهم بشهية مفتوحة على إحداث عملية تحوّل بالقطاع.
التغيير
تقدّم "أمازون" المثال الأوضح عن شركة تكنولوجيا قادرة على إحداث تغيير في المجال الذي تبرع فيه. إذ إن شركة البيع بالتجزئة عبر الانترنت سوف تحقق ربحاً ضخماً من انخفاض تكلفة توصيل الطرود إلى المنازل، من خلال استخدام السيارات ذاتية القيادة.
ولـ"أمازون" أيضاً خبرة في تحويل الأدوات الخاصة بها إلى تجارة يمكن أن تبيعها لمجموعة أوسع من الزبائن، تماماً كما فعلت مع الحوسبة السحابية، التي تأسست في الأصل من أجل دعم عمليات البيع بالتجزئة التي تقوم بها الشركة عبر الانترنت. وقد تحولت لاحقاً إلى منصة حوسبة وتخزين بيانات تستخدمها "نتفلكس" والحكومة الأميركية وغيرها من الجهات، وباتت خدمات الانترنت من أمازون تجارة تقدّر قيمتها بـ45.4 مليار دولار.
وفيما ثبطّ وباء كورونا مؤقتاً من شهية المستهلكين على السيارات الجديدة، إلا أن الطلب عاد وارتفع مجدداً. وفي ظلّ النقص في أشباه الموصلات، سيتعذر على كثير من اللاعبين التقليديين الحفاظ على سير خطوط الإنتاج بالسرعة الكافية. وفي هذا العام وحده، يتوقع أن يتعافى قطاع السيارات بنسبة 9.7% ليصل إلى 2.7 تريليون دولار، بحسب "أيبيس وورلد".
وقال راجكومار :"حتى بالنسبة لشركات مثل "أبل" و"غوغل"، فهذه سوق ضخمة للغاية". وتابع: "المديرون الماليون والتنفيذيون يثيرهم هذا الموضوع فعلياً، حيث أن الشركة ذات الخطوات الأولى في هذا الاتجاه سوف تحقق التفوق الأكبر. كلّ من هذه الشركات تريد أن تكون المفترس، وليس الفريسة".