بلومبرغ
ينطلق بعض من أصغر أشكال الحياة في مهمة حول الأرض على متن محطة الفضاء الدولية، محاولين إنجاز عملهم بوتيرة تتجاوز سرعة الصوت 20 مرة، هذه المهمة هي: إطعام سكان كوكب يزداد حرارةً، حيث أطلقت الوكالة الدولية للطاقة الذرية في المدار بذور السرغوم وحب الرشاد بعد ربطها بالمحطة عبر صندوق معدني رفيع. وهذا يعرضها لإشعاع شمسي أكثر كثافة في تجربة لتحفيز طفرات جينية، حتى تتمكن من البقاء في درجات حرارة أعلى، وتربة أكثر جفافاً، وبيئة تنتشر فيها الأوبئة، مع ارتفاع مستويات سطح البحر.
تقول شوبا سيفاسانكار، رئيسة قسم تحسين السلالات النباتية وصفاتها الوراثية في وكالة الطاقة الذرية، من مختبرها خارج فيينا: "علم النبات الفلكي يختبر في معظمه حتى الآن كيف تمكن زراعة النباتات لإطعام رواد الفضاء من أجل مستعمرات فضائية محتملة. هذه التجربة مختلفة لأنها مصممة لمساعدة الناس على الأرض للتكيف مع تغير المناخ".
إنتاجية المحاصيل ضحية الحرارة
على الجانب الآخر، يكافح المزارعون من الأرجنتين إلى كاليفورنيا وفرنسا والهند للحفاظ على غلالهم وسط الاحتباس الحراري، مع تأثير ارتفاع أسعار المحاصيل الرئيسية المستخدمة لإنتاج الخبز على الاستقرار السياسي. يقلص الجفاف الذي يجتاح شمال أفريقيا محصول القمح في دول المنطقة، مما قد يؤدي إلى زيادة الطلب في واحدة من أكبر مناطق الاستيراد في العالم.
خفض ارتفاع درجات الحرارة واضطرابات الطقس إنتاجية الغذاء في جميع أنحاء العالم بنسبة 13% تقريباً منذ 1961، وفقاً لتقديرات حديثة للأمم المتحدة. وتتوقع إدارة الطيران والفضاء الأميركية "ناسا" تغييرات جوهرية في طريقة زراعة الغذاء خلال العقد المقبل.
في الصين، التي تضم نحو خمس سكان العالم، 7% فقط من أراضيها صالحة للزراعة. لذا، يرسل ثاني أكبر اقتصاد منذ عقود البذور إلى الفضاء على متن صواريخ ومناطيد على ارتفاعات عالية.
قال العلماء إن بذور الفضاء تنتج محاصيل عالية الإنتاجية من القمح والشعير والذرة والخيار والطماطم. ولا تزال الصين تجري اختبارات على عينات من بعثة عام 2006 كانت تحمل أكثر من 130 نوعاً، وأعادت بعثة مشتركة مع باكستان العام الماضي بذور نباتات طبية إلى جامعة كراتشي.
الصين تحصد أول محصول من "أرز الفضاء" ضمن مسعى للأمن الغذائي
قال الباحث الجامعي وانغ يان لصحيفة "تشاينا إيكونوميك نت": "نأمل أن تتمكن البذور من النمو بشكل أفضل تتمتع فيه بمقاومة أشد ومعدل بقاء أطول وفعالية أكبر. يمكن تحقيق كل شيء عن طريق الطفرات الجينية في الفضاء".
هذه هي المرة الأولى التي تستخدم فيها وكالة الطاقة الذرية الإشعاع الكوني لجعل البذور تتحور. ومع ذلك، فقد كانت تتحكم في جرعات الإشعاع باستخدام مصدر من النظير المشع "كوبالت-60" في مختبرها في زايبردورف لأكثر من نصف قرن.
طفرات بالإشعاع لكن آمنة
بذور السرغوم ورشاد الصخر (التي تنتمي لفصيلة حب الرشاد المستخدم على نطاق واسع في التجارب الوراثية) قطعت نحو 400 كيلومتر في المدار على متن صاروخ تابع لشركة "نورثروب غرومان" (Northrop Grumman) في نوفمبر. يتوقع أن تعود مرة أخرى إلى مختبرات وكالة الطاقة الذرية في أبريل، لتخضع بعدها لتجارب قد تستغرق سنوات.
على عكس التقنيات الحديثة التي تعدل الحمض النووي وراثياً باستخدام أساليب مثل التكرارات العنقودية المتناظرة القصيرة المنتظمة التباعد (كريسبر)، فإن إحداث طفرات بالإشعاع يُعد أمراً طبيعياً. لذلك؛ لا تخضع البذور لقيود السوق التي تواجهها الكائنات المعدلة وراثياً.
قالت سيندي مكين، سفيرة الولايات المتحدة لدى وكالات الأغذية التابعة للأمم المتحدة في روما، والتي تدعم المختبرات: "المختبر يغير حقاً الطريقة التي نحارب بها المرض، والطريقة التي نكافح بها الجوع. الأمن الغذائي قضية أمن قومي". يعد الأرز أكثر المحاصيل تعرضاً للإشعاع، إذ يُستنبط منه 870 صنفاً جديداً.
الجفاف الممتد من الصين إلى أميركا يهدد إمدادات الغذاء عالمياً
أدت ظروف الجفاف المتزايد إلى تراجع إنتاج السلع الغذائية الأساسية لنصف سكان العالم. زادت إنتاجية الأصناف المعدلة في فيتنام وإندونيسيا بأكثر من 40%.
العلم يجمع الخصوم
تجري سيفاسانكار أبحاثها في صوبة زجاجية رطبة مليئة بنباتات الموز والبن، على بعد ساعة تقريباً بالسيارة جنوب فيينا. ترسل الدول لها عشرات البذور كل عام من أجل أن تُقصف بأشعة غاما قبل أن تُزرع في ظروف قاحلة.
ربما يستغرق تطوير مجموعة متنوعة جديدة من النباتات عبر عملية تحور خاضعة للتحكم نحو عقد من الزمن- لكن هذا النشاط يزدهر.
قالت سيفاسانكار: "سيتأثر إنتاج الغذاء بتغير المناخ. مساعدة النباتات على التكيف مع هذه التغييرات من خلال التنوع الجيني هو أكثر الحلول استدامة".
شركة فرنسية تبني محطات باستخدام تقنيات الحياة في الفضاء لإنقاذ الكوكب من تغيرات المناخ
تعد مختبرات وكالة الطاقة الذرية واحدة من الحدود النهائية للدبلوماسية، إذ تولد التعاون بين الصين وروسيا والولايات المتحدة وسط تجدد التنافس بين القوى العظمى. استثمرت الدول قرابة 100 مليون دولار في السنوات القليلة الماضية لتحديث المنشأة التي تعود إلى حقبة الحرب الباردة، مما يساعد القوى النووية الخمس الرسمية على الوفاء بالتزامات معاهدة عدم الانتشار.
قالت لورا هولجيت، سفيرة الولايات المتحدة لدى وكالة الطاقة الذرية: "نتأكد من إمكانية إتاحة الاستخدامات المفيدة للتقنيات والمواد النووية".
تغير المناخ يهدد البشرية
الدول الغنية تستفيد أيضاً من الأبحاث. فعلى سبيل المثال، ساعد برنامج الحشرات المعقمة المزارعين في أميركا الشمالية على توفير عشرات المليارات من الدولارات من خلال القضاء على سلالات الذباب التي تهاجم الفاكهة والماشية. في إيطاليا، قضى برنامج على نحو 80% من مجموعات البعوض الحاملة للأمراض في المناطق المستهدفة.
يضم موقع الوكالة ثمانية مختبرات للتطبيقات النووية محاطة بأسلاك شائكة ومراع. يحتوي أحد المباني الخالية من النوافذ على آلة للكشف عن آثار اليورانيوم في عينات بيئية من دول مثل إيران. استُخدم آخر لتطوير اختبارات كوفيد-19 وفيروسات إيبولا وزيكا وحمى الخنازير الأفريقية.
يحتوي ثالث على أسراب من الحشرات في صناديق مغطاة بقطعة قماش بيضاء. داخل الغرف التي تُرفع درجة حرارتها لتضاهي المناخ الاستوائي، يعبق الهواء برائحة غذاء الحشرات: دم الحيوانات ومسحوق الكبد والتونة والخميرة.
تتسبب العينات من الحشرات في أضرار بمليارات الدولارات سنوياً في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، حيث ينشر ذباب تسي تسي مرض النوم بين الناس ويضعف قطعان الماشية. يساعد تعريض هذه الآفات للإشعاع العلماء على إصابة الذكور بالعقم للمساعدة في الحد من معدلات الفقس.
بالنسبة للعديد من الأشخاص، تُعد وكالة الطاقة الذرية مرادفاً لكونها هيئة الرقابة النووية التابعة للأمم المتحدة، فهي تحمي من الاتجار غير المشروع بالمواد التي يمكن أن ينتهي بها الأمر في صنع أسلحة نووية. لكن شانتيل دي بير، عالمة الحشرات من جنوب أفريقيا، قالت إن تغير المناخ يمثل تهديداً آخر للبشرية على نحو متزايد، ويقود استثمارات جديدة.
أضافت: "كانت مختبراتنا القديمة صغيرة جداً بالنسبة لنوع النمو الذي نشهده. من واجبنا إدارة المشكلات البيئية بكل احترام".