واحدة من أكثر المواقف تعبيراً عن الأيام الأولى للحرب تتمثل في مشهد يظهر مزارعاً أوكرانياً يقطُر دبابة روسية باستخدام جرار زراعي، منتشياً بهذا الانتصار. كان المزارعون الأوكرانيون في ذلك الوقت هم الأبطال الحقيقيون، حيث دأبوا على حرث حقولهم تحت قصف المدفعية. ولم يتمكنوا من شحن الحبوب إلى خارج بلادهم حيث أغلق فلاديمير بوتين الموانئ، وقد امتلأت صوامعهم بالفعل بالحبوب من الموسم السابق ومع اقتراب حصاد جديد، احتشدت أوروبا خلفهم، وفتحت سوقها الداخلية.
كان هذا القرار صائباً في ذلك الوقت، لكنه استند إلى افتراض خاطئ، مفاده أن الغزو سرعان ما سينتهي. لم تكن هناك خطة بديلة لتحمل تبعات صراع طويل. يمكن لدول أوروبا الشرقية، في أحسن الأحوال، استيعاب محصول أوكراني واحد، وربما محصولين، ولكن ليس أكثر من ذلك. تُعد المنطقة نفسها مُصدِّراً خالصاً للحبوب، فيما تشكّل أوكرانيا واحدة من أكبر خمس دول مصدِّرة للحبوب على مستوى العالم. تراكمت فوائض الحبوب فوق بعضها البعض، مما أدى إلى انخفاض الأسعار. وساد وضع غير مستدام. وعادة، فإن المواقف غير المستدامة لا تدوم. والموقف الحالي لا يستمر.
في وقت سابق من الشهر الجاري، فإن بولندا، التي ربما تكون أكثر الداعمين المخلصين لكييف في أوروبا، أغلقت من جانب واحد سوقها المحلية للحبوب أمام المزارعين الأوكرانيين. وما لبثت أن لحقت بها في هذه الخطوة كل من المجر وسلوفاكيا وبلغاريا. أوضح رئيس الوزراء البلغاري غلاب دونيف هذا الموقف، قائلاً: "نظل متضامنين مع أوكرانيا، لكن إفلاس المزارعين البلغاريين لن يساهم في قضيتها".
الجفاف يزيد الحاجة للحبوب
من المفارقة أن هناك حاجة ماسة للحبوب الأوكرانية في أوروبا، ليس في الأماكن التي تتراكم فيها فحسب. بل وهي مطلوبة في إسبانيا وإيطاليا، اللتين تعانيان بالفعل من الجفاف، وفي هولندا التي تُعد موطن صناعة المواشي الضخمة للغاية. لكن نقل المحصول إلى هناك أمر صعب.
حالياً، يبدو أن الاتحاد الأوروبي مغلول الأيدي بسبب أزمة لم يتوقعها أحد في بروكسل. فالقمح والذرة لا يثيران الانتباه مثل الدبابات والصواريخ، لكنهما في الوقت نفسه مهمان لاستمرار الاقتصاد الأوكراني. حتى قبل الحرب، شكّلت الزراعة نحو 10% من الناتج المحلي الإجمالي. واليوم، ربما تكون الحصة أكبر، بما أن الدمار قد لحق بالعديد من القطاعات الأخرى.
الخيارات المتاحة أمام بروكسل ليست طيبة. إذا استمر الحظر، فسوف ينخفض سعر السلع الزراعية داخل أوكرانيا، مما يؤجّج أزمة زراعية. تعرف روسيا أن ضحيتها لديها طريقتان فقط لتصدير منتجاتها الغذائية: إما براً عبر أوروبا الشرقية، أو الشحن مباشرة عن طريق السفن عبر ممر الحبوب الذي ترعاه الأمم المتحدة في البحر الأسود. إذا أغلق الاتحاد الأوروبي سوقه، فسيكون قطاع الزراعة الأوكراني تحت رحمة ممر الحبوب، مما يمنح بوتين اليد العليا في المفاوضات. تحاول موسكو انتزاع التنازلات مقابل إطالة عمر الطريق الآمن بضعة أشهر أخرى. لقد أبعد بوتين بالفعل تجار الحبوب الدوليين من روسيا، مما أعطى الكرملين السيطرة الكاملة على سوقه المحلية.
إجبار الدول على قبول الحبوب الأوكرانية
لكن لا تكاد بروكسل تقدر على إجبار الدول على الاستمرار في قبول الحبوب الأوكرانية. إذا حدث ذلك، فإن الأسعار المحلية، وخاصة الذرة، ستنخفض أكثر، مما يؤدي إلى احتجاجات جديدة. ستخوض بولندا وسلوفاكيا انتخابات عامة في وقت لاحق من العام الجاري، ويرجح أن يكون التصويت في المناطق الريفية حاسماً في كليهما.
استوعبت أوروبا الشرقية بالفعل جزءاً كبيراً من الحصاد الأوكراني لموسم 2020-2021، الذي كان يستقر في صوامع وقت الغزو الروسي في فبراير 2022. وتطلّب الأمر جزءاً كبيراً من إنتاج 2021-2022. لكنها ستكافح من أجل جني محاصيل هذا العام.
الحل الذي تفضله بروكسل هو السماح للحبوب الأوكرانية بالتحرك براً في حاويات مُحكمة الغلق دون التوقف داخل الاتحاد الأوروبي. كانت الحبوب الأوكرانية نظرياً تتدفق عبر بولندا في كل من غيدنيا وغدانسك إلى موانئ بحر البلطيق، وعبر رومانيا وبلغاريا إلى موانئ البحر الأسود في كونستانتا وفارنا. ومن هناك، تصل إلى الأسواق العالمية.
حتى لو كان ذلك ممكناً من الناحية اللوجستية بكميات أكبر من الآن، وهو ليس كذلك، فإن الخطة تتعارض مع أعمال تجارة السلع. طالما أن الحبوب الأوكرانية تتنافس على قدرة تصدير محدودة مع الحبوب المحلية في بولندا ورومانيا وبلغاريا، فإن الأسعار المحلية في الموانئ ستظل تحت الضغط. لا يهم ما إذا كان المقصود عبور الحبوب عبر أراضي الاتحاد الأوروبي فقط. العبور، واستخدام قدرة تصدير محدودة في الموانئ، له تأثير كبير على الأسعار. وإذ سألت أي تاجر فسيخبرك أن الإمدادات الوفيرة من القمح والذرة الأوكرانية في الموانئ البولندية والبلغارية ستؤدي إلى خفض الأسعار المحلية.
كيف يمكن دعم كل من المزارعين الأوكرانيين، وهم الأساس لاستدامة اقتصاد البلاد، والمزارعين البولنديين وهم مجتمع مهم سياسياً ضمن دولة حليفة رئيسية بالنسبة إلى كييف؟ الحل الوحيد، ربما يمكنك التخمين بالفعل، هو المال، والمتمثل في دعم مزارعي أوروبا الشرقية للسماح بتدفق الحبوب الأوكرانية.
تقدّم بروكسل بعض الدعم المالي بالفعل، لكن أعتقد أنه ليس كافياً. فهي بحاجة فعلياً إلى التفكير في وضع الخطة "ج". وكلما طال أمد الصراع زادت الحاجة إلى مزيد من الأموال.