ترسو عشرات السفن قبالة موانئ لوس أنجلوس ولونغ بيتش هذا الأسبوع، ما يضر بسلاسل التوريد العالمية ووصول هدايا الأعياد. لكنها تهدد أيضاً سلامة وصحة حياة البحارة على متنها، حيث لم تطأ أقدامهم الأرض منذ أكثر من عام مع قيود الحقبة الوبائية وتكدس السفن التي تتنافس على مراسي الموانئ المزدحمة.
كما أفاد البحارة العالقون على متن السفن بتدهور صحتهم النفسية والبدنية في ظل محدودية الوصول للرعاية الطبية وتزايد التوتر بين أفراد الطاقم والإرهاق، وهو ما تقول الجماعات العمالية إنه يعرض السلامة البحرية للخطر.
لكن من يدركون محنتهم قلة منهم، بات بيتيت، المديرة العامة لمركز البحارة الدولي في لونغ بيتش، ولوس أنجلوس، حيث وفرت لهم على مدى أربعة عقود كل شيء من السكن المؤقت وتوصيل طلبات "أمازون" الى سفنهم وصولاً للنقل بالسيارات إلى متاجر البقالة.
أخبرتني بات أن ما يطلق عليه الآخرون مشكلة سلاسل التوريد تراه هي أزمة إنسانية: "هذا أسوأ بكثير من كل السنوات التي أمضيتها في وظيفتي... لا أعرف فيما إذا كانوا سيعودون الى طبيعتهم".
خطرة وضرورية
يبلغ عدد البحارة حول العالم 1.89 مليون يشغلون أكثر من 74 ألف سفينة تجارية، ما يتيح نقل نحو 90% من التجارة العالمية. وظيفتهم ضرورية لكنها خطيرة أيضاً، حيث تنطوي على العزلة وتتطلب تمضية شهور في عرض البحر، ويكون ذلك على الأرجح في ظل محدودية الاتصال ببيوتهم أو الرسو على اليابسة. ساهم فيروس كوفيد بتردي عديد من أماكن العمل العائمة تلك، ما جعل البحارة في جميع أنحاء العالم يعيدون النظر الآن بتمسكهم بمهنتهم. حذّر قادة الصناعة لأشهر، أن الوباء سيُصعّب توظيف العمال لسنوات مقبلة. قد تواجه سلاسل التوريد العالمية قريباً نتيجة لذلك تحدياً موهناً بصورة أكبر، ألا وهو نقص العمالة المزمن.
لطالما وثّقت الأعمال الأدبية والأغنيات المصاعب التي ينطوي عليها عمل البحارة. مع ذلك لم تفتقر مهنة الملاحة البحرية أبداً لموظفين رغم سوء سمعتها. يرجع ذلك بالغالب لاستمرار سوء الآفاق الاقتصادية في بعض الدول، ما يجعل مهنة الملاحة البحرية وظيفة جذابة. على سبيل المثال في 2019، كان هناك نحو 470 ألف فلبيني منتشرين على متن السفن التجارية حول العالم، أي قرابة ثلث الإجمالي العالمي لعمالة النقل البحري.
دخل أفضل
كانت حسابات التفاضل والتكامل بسيطة، فمقابل قضاء أشهر بعيداً عن الوطن، يمكن لطواقم السفن التجارية تحقيق 10 أضعاف ما قد يكسبونه في بلد مثل الفلبين.
تحصل صناعة الشحن بالمقابل على كثير من موظفيها، فساعات العمل الطويلة هي القاعدة، خاصة بالنسبة للبحارة من دول الأسواق الناشئة. وجد تقرير حديث عن الصناعة أن البحارة الصينيين في ناقلات البضائع السائبة التي تنقل الحبوب والفحم وغيرها من البضائع غير المعبأة، يعملون في المتوسط 15 ساعة يومياً، في حين أن نظرائهم الأوروبيين يقضون "فقط" 10 ساعات في العمل ذاته.
ليست أعباء العمل وحدها تؤثر على هؤلاء البحارة. ربطت العديد من الدراسات في السنوات الأخيرة العوامل المتأصلة في التجارة البحرية، بما فيها الوحدة وعدم تمضية إجازة على اليابسة والحنين إلى الوطن وممارسات أماكن العمل التعسفية بقضايا الصحة العقلية. وجدت دراسة أجريت في 2019 أن نتائج 25% من البحارة الذين شاركوا في دراسة استقصائية صحية تشير لإصابتهم بالاكتئاب، وهي نسبة تتجاوز عموم السكان والقوى العاملة.
حذّر تقرير حول الصناعة في 2016 أن صناعة الشحن قد تواجه نقص عمالة بحلول 2025، مالم يُبذل مزيد من الجهد لتوظيف البحارة واستبقائهم. ما يجعل الأمور أكثر سوءاً، حيث إنه من المتوقع تزايد حدة النقص أكثر بالنسبة لوظائف المشرفين وغيرهم من العمال المهرة كالمهندسين الميكانيكيين، الذين يرجح حصولهم على وظائف على اليابسة لا تتطلب قضاء شهور بعيداً عن أوطانهم.
الوباء والبحر
جعل "كوفيد" مهمة توظيف واستبقاء البحارة أكثر صعوبة. منعت الموانئ في جميع أنحاء العالم البحارة من مغادرة سفنهم مع انتشار الوباء مطلع 2020. كانت اتفاقية للأمم المتحدة قد حددت مدة أحد عشر شهراً كحد أقصى للمدة التي يقضيها البحارة على متن السفن قبل حصولهم على إجازة لقضائها على البر. من الناحية العملية، يقضي معظم البحارة من ثلاثة إلى ستة أشهر في العمل. غير أنه بسبب "كوفيد"، علق مئات الآلاف منهم على متن سفنهم دون احتمال لمغادرتها، مع تقارير عن بعض البحارة المحاصرين في البحر لمدة 17 شهراً.
لكن أتى تخفيف لهذه الظروف خلال الأشهر الأخيرة مع حملات اللقاح التي تركز على البحارة. رغم ذلك ما يزال هناك عشرات الآلاف من البحارة الذين يعملون لأشهر على السفن بعد انتهاء مدد عقودهم، دون أي وسيلة لمغادرتها.
أظهر استطلاع فصلي أواخر الشهر الماضي أن المزاج العام بين البحارة تحسّن من أدنى مستوياته على الإطلاق في وقت سابق من هذا العام، لكن هذا لن يمحو ذكريات العامين الماضيين. كشف الاستطلاع أن عدداً متزايداً من البحارة يعيدون النظر في خططهم المهنية ويفكرون بأن يعيشوا على البر. خلص التقرير إلى أنه "من المحتمل أن يكون هناك نقص متزايد في عدد البحارة في الأعوام المقبلة. يبدو أن الآليات المتماسكة لإدارة المشاكل التي تلوح في الأفق قليلة للغاية أو تكاد تكون معدومة".
استجابة أو دفع
تتطلب معالجة هذه المشكلة تحولاً حضارياً في الطريقة التي تنظر بها سلاسل التوريد وعملائها إلى مصالح البحارة. بدايةً، يجب على شركات الشحن لعب دور أكبر في دعم البحارة، وهي مسؤولية تركوها تقليدياً لمنظمات خيرية حميدة مثل مركز البحارة الدولي. فيما يجدر الثناء على هذه المنظمات، إلا أن اعتماد البحارة المستمر على الأعمال الخيرية لتلبية احتياجاتهم، خاصة في أوقات الأزمات، سيجعلهم يدركون أن أرباب أعمالهم لا يضعون مصالحهم في الاعتبار.
بدأت الشركات الاستهلاكية الكبرى، التي تعتمد على الشحن البحري العالمي، تنتبه لتلك النقطة ما قد يجلب خيراً. دفعت شركتا "يونيليفر" (Unilever) و"بروكتر آند غامبل" (Proctor & Gamble) وعلامات تجارية أخرى للسلع الاستهلاكية العام الماضي الحكومات وشركات الشحن لاتخاذ إجراءات بشأن طواقم السفن العالقة. اعتمدوا في إطار هذه العملية مجموعة أدوات لتدقيق ممارسات شركات النقل التي يتعاملون معها للتأكد من امتثالهم للمعايير. ينبغي توسيع هذه الجهود، مع تقديم حوافز مالية لشركات النقل لتشجيعها على التركيز على صحة حياة بحارتها. يجب على الشركات التي تستعين بخدمات هذه الشركات في حال عدم التزامها إيجاد طرق أخرى لشحن بضائعها. لن تقتصر مثل هذه السياسة على تحسين ظروف العمل على متن السفن فحسب، بل ستكون رسالة للبحارة بأن صحة حياتهم أمر بالغ الأهمية للعملاء الذين يعتمدون عليهم.
إن لم تفعل شركات سلاسل التوريد ما يجب ربما تدفع العملاء للنظر من منطلق إنساني إلى الاختناقات المرورية في موانئ العالم، حيث إن لهذه السفن طواقم.