كم من المال ستنفق أكثر مقابل الحصول على منتج أقل ضرراً لكوكب الأرض؟ فشركة "بورشه" مثلاً، تريد أن يدفع عملاؤها المستقبليون علاوة سعرية تتراوح بين 10% و15% للنسخ الكهربائية من سياراتها الرياضية متعددة الاستخدامات طراز "ماكان" و"كايين"؛ فيما تتوقع شركات صناعة الصلب في أوروبا زيادة بنحو 20% تقريباً على أسعار الصلب منخفض الانبعاثات الكربونية.
إنه سؤال حيوي، يتطلب من قادة الأعمال والمستثمرين التفكير فيه، إذ سيتوجب على الشركات إنفاق تريليونات الدولارات على مدى العقدين المقبلين للقضاء على الانبعاثات الكربونية. ويمكن أن يساعد ما يُطلق عليه اسم "العلاوة الخضراء على السلع والخدمات"، في جعل هذه الاستثمارات الهائلة مجدية، مع تحفيز الشركات للإسراع في عملية إزالة الكربون في وقت أقرب.
بالطبع، يمكن أن تكون التكاليف الإضافية الخضراء مثيرة للجدل، إذ يمكن أن تدفع بمعدلات التضخم إلى مستويات مرتفعة للغاية، وقد تزيد من خطر الغسيل الأخضر، وربما لا يستطيع المستهلكون من ذوي الدخل المنخفض تحمل أعبائها.
حذّرت مجموعة في قطاع الطيران البريطاني الأسبوع الماضي، من أن أسعار تذاكر الطيران مثلاً سترتفع بالتأكيد جراء التكلفة العالية لشراء تعويضات الكربون واستخدام وقود طائرات مستدام، مشيرة إلى أن هذا الأمر قد يردع بعض الناس عن السفر جواً.
التكلفة الإضافية للعلاوة الخضراء
هناك مخاطر أخرى على هذا الصعيد، تتمثل في تحوّل العلاوة الخضراء على السلع والخدمات سريعاً إلى عنصر مؤثر في المنافسة، وهذا ما لمسناه مؤخراً عندما خفضت شركة "تسلا" ما تفرضه من علاوة على العملاء. صحيح أن حرب الأسعار قد تكون مفيدة للمستهلكين، لكنها بالنسبة إلى المنافسين، قد تكبح وتيرة استثماراتهم في السيارات الكهربائية.
اعتُمدت العلاوة الخضراء لتعويض التكلفة الإضافية الناتجة عن عملية طرح التكنولوجيا النظيفة في بداية ظهورها وقبل أن تبلغ مرحلة وفورات حجم الإنتاج. ومن بين الأساليب التي تُتبع لسد فجوة الأسعار بين المنتجات النظيفة وتلك الملوثة للبيئة، تقديم مليارات الدولارات من الدعم للشركات، على غرار ما تفعله الولايات المتحدة من خلال قانون خفض التضخم.، إلا أنه ورغم ذلك، قد تؤدي إعادة توطين عمليات الإنتاج ونقص العمالة الأميركية المرتبطة بها، إلى تضخم الأسعار على المدى القريب.
في أوروبا، تنتهج الحكومات سياسة "العصا والجزرة". فهي إلى جانب الإعانات التي تقدّمها، تزيد التكاليف أمام الأنشطة المسببة للتلوث. والنتيجة أن التكلفة المرتفعة لائتمانات الكربون داخل الاتحاد الأوروبي، وتقييد تصاريح الانبعاثات الكربونية المجانية الممنوحة للصناعات الثقيلة، إلى جانب توسيع تجارة الكربون لتشمل النقل البري والمباني، وكذلك استحداث ضريبة على الواردات المسببة لتلوث البيئة، كل ذلك سيؤدي إلى تآكل الميزة السعرية التي يتمتع بها الوقود الأحفوري حالياً، لتصبح الاستثمارات في المنتجات قليلة الانبعاثات الكربونية أكثر جاذبية.
مبادرات وحوافز
تزداد ثقة الشركات في قدرتها على فرض أسعار عالية على المنتجات قليلة الانبعاثات، من دون أن تشعر بالقلق من أن بدائل أرخص وأكثر تلويثاً ستحل محلها، في حين يبدو أن العملاء من الشركات والقطاع الحكومي مستعدون لدفع أموال أكثر للقضاء على الانبعاثات الكربونية في سلاسل التوريد الخاصة بهم.
على سبيل المثال، فإن تحالف "فيرست موفرز كواليشين" (First Movers Coalition)، وهو تحالف شركات تستخدم قوتها الشرائية لإنشاء أسواق مبكرة للتقنيات النظيفة المبتكرة، يحث الشركات الأعضاء، بما فيها "أبل"، و"إيه بي مولير ميرسك"، على توقيع اتفاقيات شراء مسبقة لمواد قليلة الانبعاثات الكربونية، لتيسير تمويل مشروعات من هذا النوع.
في غضون ذلك، أدت مبادرة إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن التي تحمل شعار "اشترِ النظيف"، إلى توجيه بوصلة الحكومة الأميركية نحو منح الأولوية لمشتريات منتجات الصلب والإسفلت والزجاج والخرسانة قليلة الكربون.
يشكل الإسمنت 7% تقريباً من مصادر الانبعاثات العالمية، وهو أحد أصعب القطاعات في إزالة الكربون بصورة كاملة. رغم ذلك، أبدت شركة الإسمنت السويسرية العملاقة "هولسيم" (Holcim) حماسة في الآونة الأخيرة لفكرة كسب الأموال من المنتجات قليلة الانبعاثات. كما أدت التكلفة العالية لتصاريح الكربون إلى تقليل إنتاج الإسمنت في أوروبا، وساهمت في زيادة أسعاره بصورة كبيرة.
بالتزامن مع ذلك، وفي مشروع "إيكوباكت" ( ECOPact) التابع لشركة "هولسيم"، اختارت الشركة نوع الخرسانة الذي يقلص الانبعاثات الكربونية بصورة أكبر، حيث يمثل الخفض المتوقع للتلوث نتيجة لذلك 30% على الأقل من إجمالي المواد المستخدمة، أو ما يعادل 16% من مبيعات الخلطة الجاهزة لمواد البناء على مستوى العالم في أول 3 أشهر من العام الجاري. (ملاحظة: استخدمت شركة "أمازون دوت كوم" نوع الخرسانة ذاته لتشييد مراكز بيانات في الولايات المتحدة).
أوضحت إدارة الشركة في فبراير الماضي، أن أي علاوة سعرية ستكون محدودة، ما ينفي عنها صفة أنها منتج مخصص لسوق صغيرة. وتتوقع "هولسيم" أن التحرك المقبل لإنشاء مصانع إسمنت في ألمانيا وبولندا قادرة على احتجاز الانبعاثات الكربونية، سيكون مربحاً للغاية، وذلك جراء المزج بين دعم الاتحاد الأوروبي، والعلاوة المفروضة على السعر، والأموال المدخرة، مع عدم الحاجة إلى شراء تصاريح انبعاثات كربونية.
عوائد الاستدامة
خلال الأسبوع الماضي، تباهى جان جينيش، الرئيس التنفيذي لـ"هولسيم" قائلاً، إن الاستدامة هي "عرض بيع حديث فريد من نوعه، وقطعاً ستترتب عليه علاوة سعرية، وتُعتبر الاستثمارات في الاستدامة ذات عوائد مرتفعة للغاية".
لا يأتي الطلب من الشركات المناصرة للبيئة فقط، بل أيضاً من المكاتب التجارية التي تقدم البيانات التي تثبت التزامها بالمعايير البيئية. وبالمقارنة، لا تزال هناك أماكن عمل قديمة تستهلك طاقة بكفاءة أقل وتتطلب تعديلات لتحديثها.
ينطبق الأمر ذاته على وحدات الإسكان، إذ تدفع المنازل التي تشغل الطاقة النظيفة بكفاءة، أسعاراً أعلى أيضاً. وتُعد المملكة المتحدة وألمانيا من بين البلدان التي بدأت في التخلص تدريجياً من التدفئة بالغاز، وتحولت إلى مضخات حرارية ذات تكاليف أولية أعلى، ما يعني ارتفاع فواتير المنازل التي قد تكون مزودة فعلاً بتجهيزات من هذه النوعية.
في إطار متصل، يشكل الشحن الصديق للبيئة خياراً بالنسبة إلى شركة "ميرسك"، وهو ينطوي على رسوم إضافية لاستخدام وقود ديزل حيوي، تبلغ حالياً 2% فقط من أحجام النقل البحري، لكن الشركة تهدف لأن يصبح 25% بحلول 2030، مع التوسع ليشمل الشحن الجوي وشبكة الشاحنات البرية التابعة للشركة. وتعتقد "ميرسك" أن المستهلكين لن يتأثروا بطريقة تذكر بالفارق في الأسعار، إذ إن الشحن الأخضر سيزيد على سبيل المثال سعر زوج من أحذية الجري قيمتها 100 دولار، بضعة سنتات فقط، وذلك وفق حساباتها.
انضمت شركة "فويستالبين" (Voestalpine) النمساوية الشهر الماضي، إلى شركات تصنيع الصلب الأخرى في أوروبا، والتي كشفت جميعها عن استثمارات هائلة لإزالة الكربون، وتوقعت وجود علاوة سعرية لـ"الصلب الأخضر" المصنّع دون استخدام أفران تعمل بوقود أحفوري. وتقدّر الشركة أن زيادة الأسعار قد تتراوح بين 10% إلى 20%.
قال محللو مصرف "يو بي إس" للعملاء: "هناك شهية لدى المشترين لدفع علاوة سعرية في ظل الندرة التي تتسم بها منتجات الصلب الخضراء". حتى آل غور قد لا يجد الاستثمار الأخضر سهلاً
ليس هذا وحسب، إذ تتضح العلاوات الخضراء في خطة شركة "إتش2 غرين ستيل" (H2 Green Steel) الناشئة، حيث تعتزم جمع ما يفوق 1.5 مليار يورو (1.7 مليار دولار) عبر بيع أسهم لإنشاء مصنع للصلب يعمل بالهيدروجين شمالي السويد. كما تصنع "إتش2 غرين ستيل" منتجات صلب مبيعة مسبقاً لشركة "مرسيدس–بنز غروب"، وهي أيضاً من مستثمري الأسهم، حيث تعهدت شركة تصنيع السيارات الفاخرة باستخدام مواد قليلة الانبعاثات الكربونية بداية من 2025.
عقاب المتلكئين
ستتعرض مصانع الصلب التي لا تضخ استثمارات من هذا النوع، لارتفاع متنامٍ في تكاليف الامتثال لمعايير إزالة لكربون. وقال محللو مصرف "مورغان ستانلي" في تقرير الأسبوع الماضي، إن "الشركات التي تتخلص من الانبعاثات الكربونية أسرع، هي التي ستولّد غالباً ريعاً اقتصادياً أعلى، وستحافظ على تدفقه، في حين سيعاني المتلكئون من تناقص قدرتهم التنافسية وحصتهم السوقية والقدرات الربحية".
اقرأ أيضاً: دراسة: الشركات تتجاهل المخاطر المالية للانبعاثات الكربونية
ريما يستمر تضخم الأسعار في ظل اختلال التوازن بين الطلب على المنتجات الصديقة للبيئة والمعروض منها خلال السنوات المقبلة، لكن الوقوف على حياد إزاء التغير المناخي أسوأ، حيث إن الجفاف على غرار ما حدث في إسبانيا، يسهم فعلاً في زيادة أسعار المواد الغذائية. ومن الممكن على أقل تقدير الحد من "التضخم الأخضر" عن طريق توفير الدعم الحكومي لأولئك الأضعف قدرة على السداد، كما ستختفي الرسوم الإضافية مع توسيع الشركات المصنعة لعمليات الإنتاج النظيفة، ويصبح تلويث البيئة أعلى كلفة.
خلاصة القول، يُعتبر دفع "العلاوة الخضراء" أمراً يستحق العناء، كي لا نصل قريباً إلى يوم نجد فيه أنفسنا مضطرين لدفعها.