بلومبرغ
يُعاد النظر حالياً في تشغيل محطات الطاقة العاملة التي تعتمد على الفحم مجدّداً في كلِّ من ألمانيا وإيطاليا، بعد أن كانت قد خرجت عن العمل سابقاً. وفي جنوب أفريقيا، تُوجّه المزيد من السفن المحمّلة بالفحم أشرعتها نحو مسار يعتبر في العادة طريقاً هادئاً حول رأس الرجاء الصالح باتجاه أوروبا. يشهد حرق الفحم بالولايات المتحدة غِمار أكبر انتعاش له منذ عقد زمني، في حين تعيد الصين فتح المناجم المُغلقة، وتخطط لإنشاء مناجم جديدة.
أصبح إدمان العالم للفحم حالياً أقوى من أي وقت مضى، وهو الوقود الذي اعتقد الكثيرون أنَّه في سبيله للفظ أنفاسه الأخيرة قريباً.
تزايد الطلب على الفحم منذ العام الماضي وسط نقص في الغاز الطبيعي، ومع ارتفاع استخدام الكهرباء بعد إلغاء القيود المفروضة جرّاء تفشي الوباء. لكن أعاد الغزو الروسي لأوكرانيا شحن سوق الفحم، والذي أدى بدوره إلى ظهور تأثير الدومينو الذي ترك منتجي الطاقة يتدافعون من أجل الحصول على الإمدادات، ودفع الأسعار إلى مستويات قياسية.
الصين تكافح لاحتواء ارتفاع أسعار الفحم مع تفاقم اعتمادها عليه
ينطوي هذا الانتعاش، الذي تشهده أكثر أنواع الوقود الأحفوري تلويثاً للبيئة في العالم، على تداعيات هائلة على الاقتصاد العالمي.
ستغذّي الأسعار المرتفعة التضخم الآخذ في الارتفاع. ولكن حتى مع هذا الانتعاش الأخير؛ يقول المحللون إنَّ الفحم ما يزال من أرخص أنواع الوقود نسبياً. وهذا يجعل الأمر أكثر أهمية لإمدادات الطاقة في وقت يظل فيه حرق الفحم أيضاً أكبر عقبة منفردة في المعركة ضد تغير المناخ. وفي الوقت نفسه، تواجه المناجم تحدياً لاستخراج أي أطنان إضافية، إذ ما تزال المرافق في جميع أنحاء العالم تطلب المزيد من الإمدادات، مما يمهّد الطريق للمرحلة التالية من أزمة الطاقة العالمية.
قال ستيف هولتون، النائب الأول للرئيس لأسواق الفحم في شركة أبحاث السوق "ريستاد إنرجي" (Rystad Energy) في سيدني: "عندما تحاول تحقيق التوازن بين إزالة الكربون وأمن الطاقة، يعرف الجميع أيهما سيفوز: إبقاء المصابيح مُضاءة. هذا ما يبقي الناس في السلطة، ويمنع الناس من الشغب في الشوارع".
ارتفاع الاستهلاك
في عام 2021، أنتج العالم الكهرباء من الفحم أكثر من أي وقت مضى، بزيادة 9% عن العام السابق، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية. وبالنسبة لعام 2022؛ فمن المتوقَّع أن يرتفع إجمالي استهلاك الفحم، لأغراض توليد الطاقة، وصناعة الفولاذ، والاستخدامات الصناعية الأخرى، بنسبة 2% تقريباً ليصل إلى مستوى قياسي يتجاوز ثمانية مليارات طن متري، ويظل عند هذا المستوى حتى عام 2024 على الأقل.
قالت وكالة الطاقة الدولية: "تشير جميع الأدلة إلى اتساع الفجوة بين الطموحات والأهداف السياسية من ناحية، وواقع نظام الطاقة الحالي من ناحية أخرى"، فقد قدّرت الوكالة أنَّ انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من الفحم في عام 2024 ستكون أعلى بثلاثة مليارات طن على الأقل مما كانت عليه، في سيناريو يستهدف الوصول إلى صافي الصفر بحلول عام 2050. ترتبط قصة الفحم ارتباطاً وثيقاً بالغاز الطبيعي، والذي غالباً ما يتم الترويج له على أنَّه البديل الأنظف للاحتراق.
أزمة الطاقة في أوروبا وعودة الفحم
عندما بدأ العالم التعافي من الوباء في منتصف عام 2021؛ ارتفع الطلب على الطاقة مع إعادة فتح المتاجر والمصانع. لكن واجهت أوروبا، التي كانت تقود الجهود العالمية للاستغناء عن الفحم، أزمة غير مسبوقة في الكهرباء ونقصاً في الغاز الطبيعي. وفي الوقت نفسه، كانت الطاقة المتجددة شحيحة بالمنطقة وفي مناطق أخرى من العالم. وأدى تشابك الأحداث إلى انقطاعات بالطاقة في عددٍ من المناطق، ودفع أسعار الغاز إلى أقصاها في جميع أنحاء العالم، مما أدى إلى اندلاع أزمة الطاقة.
فجأة، عاد الفحم للرواج، باعتباره البديل الأقل تكلفة. ويعد الفحم الحراري، الذي يتم حرقه بمحطات الطاقة، أحد أرخص مصادر الوقود "على ظهر هذا الكوكب"، إذ تبلغ تكلفته حوالي 15 دولاراً لكل مليون وحدة حرارية بريطانية، وفقاً لتقرير لــ"بنك أوف أمريكا" صدر في الأول من أبريل. ويُقارن ذلك بحوالي 25 دولاراً للنفط الخام والسعر العالمي للغاز الطبيعي البالغ 35 دولاراً، بحسب التقرير.
إنفوغراف.. أكبر المستوردين للفحم الحراري الروسي
شهد الاتحاد الأوروبي، الذي لديه بعض الأهداف المناخية الأكثر طموحاً في العالم، ارتفاعاً في استخدام الفحم بـ12% العام الماضي، وهي أول زيادة منذ عام 2017، على الرغم من أنَّ هذه الزيادة جاءت من مستويات منخفضة شهدها عام 2020. وارتفع استهلاك الفحم بـ17% في الولايات المتحدة، وصعد أيضاً في كلٍّ من آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وكانت الهند والصين، اللتان تهيمنان على الأسواق العالمية، من العوامل الرئيسية لزيادة الطلب العالمي.
قبل بضعة أشهر فقط، وصل المفاوضون إلى جلاسكو لحضور مؤتمر المناخ (COP26)، متفائلين بأنَّهم يستطيعون "جعل الفحم ضرباً من الماضي".
وبدلاً من ذلك؛ انتهت محادثات المناخ في نوفمبر بتخفيف حِدّة الخطاب المناهض لاستخدام الفحم. وتعد الصين والولايات المتحدة والهند أكبر ثلاث دول تسبّب التلوث، وقد تعهدت جميعها الآن بالوصول إلى انبعاثات صفرية في العقود المقبلة. ومع ذلك، اتبعت الهند والصين تدابير تدخل في اللحظة الأخيرة لتخفيف الخطاب المناهض لاستخدام الفحم، ولعبت الولايات المتحدة دوراً في قبول هذا الموقف الأضعف، الأمر الذي أدّى إلى التشكيك في التزام الدول على المدى القصير بكبح الفحم.
وكان هذا كله قبل الانتعاش الأخير للسوق.
بعد تعهدات العام الماضي الباهرة.. كيف تتراجع الحكومات عن قضايا المناخ عالمياً؟
نشرت وكالة الطاقة الدولية توقُّعاتها السنوية للطلب في ديسمبر الماضي. وتخطط الوكالة حالياً لإصدار مراجعة منتصف العام في يوليو، وهي المرة الأولى التي تُتخذ فيها هذه الخطوة على الإطلاق لتحليل أثر الحرب. سيكون الطلب في جميع الاحتمالات أعلى من توقُّعات ديسمبر، إذ يطلق الغزو الروسي لأوكرانيا سلسلة من ردود الفعل في أسواق الطاقة العالمية التي تدفع بالفحم إلى دائرة الضوء.
هل بإمكان الاتحاد الأوروبي التخلي عن الطاقة الروسية؟
تعد أوروبا في أمس الحاجة لاتباع سبيل تقليل اعتمادها على روسيا، المورّد الرئيسي للوقود الأحفوري. ويمضي الاتحاد الأوروبي في سبيله لحظر الفحم الروسي مع زيادة استخدامه الكلي للوقود، في حين يسعى بشكل متوازٍ إلى تقليل استخدامه للغاز الطبيعي الروسي. وتتمحور خطوة أوروبا حول فكرة أنَّها ستكون قادرة على دفع المزيد مقابل إمدادات الفحم غير الروسية مقارنة بالمشترين الآخرين، وهي مقامرة تؤدي إلى صعود الأسواق العالمية، ويمكن أن تكبّد الخسائر للبلدان النامية التي قد تواجه نقصاً.
وللمساعدة في تأمين الطاقة في الشتاء المقبل؛ تدرس الحكومة الألمانية العمل مع مرافق مثل "آر دبليو إي" (RWE) لإعادة تنشيط محطات الطاقة التي تعمل بالفحم، والتي كانت قد خرجت من الخدمة، وتأخير إيقاف تشغيل المرافق النشطة.
في الدنمارك، تعمل "أورستد" (Orsted) على دعم إمدادات الفحم لاستخدامها بدلاً من الكتلة الحيوية، نظراً لتوقف إمدادات الحبيبات الخشبية محايدة الكربون بسبب الحرب. وتستكشف بريطانيا الخيارات لتعزيز أمن الطاقة، بما في ذلك الإبقاء على وحدات إنتاج الفحم التابعة لـ"دراكس غروب" (Drax Group) قيد التشغيل.
قالت إيما تشامبيون، رئيسة تحوّلات الطاقة الإقليمية في "بلومبرغ إني إي إف": "يمرّ الفحم بآخر لحظاته في أوروبا".
كانت إمدادات الفحم غير ثابتة بالفعل، حتى قبل الخطوة المحفوفة بالمخاطر التي اتخذتها أوروبا. وكان لابدَّ من إغلاق محطة للطاقة في ألمانيا العام الماضي عندما نفد الفحم. وأدى النقص أيضاً إلى انقطاع التيار الكهربائي في الهند والصين، علماً أنَّهما تشكّلان معاً حوالي ثلثي استهلاك الفحم العالمي.
ارتفاع أسعار الفحم
تحلّق أسعار الفحم نحو مستويات فلكية. فقد ارتفعت أسعار العقود المستقبلية للمؤشر الأسترالي، والتي نادراً ما تتجاوز 100 دولار للطن المتري، لتصل إلى 280 دولاراً في أكتوبر الماضي، في الوقت الذي استُكشِفت المرافق بجميع أرجاء العالم بحثاً عن الوقود. ثم تراجع المؤشر بشكل طفيف، إذ أدت درجات الحرارة الشتوية المعتدلة نسبياً في نصف الكرة الشمالي إلى تخفيف بعض الطلب على الطاقة. ولكن عندما غزت روسيا أوكرانيا؛ أدّت مخاوف الإمداد إلى دفع الأسعار إلى 440 دولاراً، وهو أعلى مستوى على الإطلاق.
مع عودة الفحم.. بولندا تتخلى عن الغاز الطبيعي ضمن خطة طاقة جديدة
اتّبعت الأسواق الأوروبية النمط نفسه، وحتى في الولايات المتحدة، التي يقودها الطلب المحلي بشكل أكبر، وصلت الأسعار إلى أعلى مستوى لها في 13 عاماً هذا الشهر.
قال زيزهو زو، العضو المنتدب للطاقة العالمية ومصادر الطاقة المتجددة في "إس آند بي غلوبال" (S&P Global): "لم تكن سلسلة إمداد الفحم مستعدة لهذا النوع من الصدمة".
ومع تزايد أهمية الفحم، فمن غير المرجّح أن تحذو الإمدادات حذوها.
ما تزال شركات المناجم قلقة بشأن توقُّعات الطلب على المدى الطويل، لا سيما أنَّ الأمم المتحدة تجدّد تأكيدها على أنَّ العالم بحاجة إلى التخلص التدريجي من الوقود. وأظهر التقرير الصادر عن الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيّر المناخ الشهر الحالي أنَّ حرق الفحم لابدّ أن يصل إلى الصفر بحلول عام 2050 للوصول إلى هدف الحد من زيادة درجة الحرارة عالمياً إلى 1.5 درجة مئوية (2.7 درجة فهرنهايت).
قال إيثان زيندلر، رئيس أبحاث الأمريكتين في "بلومبرغ إن إي إف": "لكي نقول إنَّه لن يكون هناك طلب على منتجك على المدى الطويل، بل على المدى القصير؛ هل يمكنك تكثيف إنتاجه من فضلك، فهذا الكثير الذي نطلبه من سلسلة التوريد".
ويُضاف إلى الفوضى واقع اتخاذ صنّاع السياسات والشركات في كلٍّ من اليابان وكوريا الجنوبية خطوات للحدّ من واردات الفحم الروسية. سيؤدي ذلك إلى أن يبحث الكثير من دول العالم عن بدائل لـ187 مليون طن صدّرتها روسيا إلى محطات الطاقة العام الماضي، وهو ما يعادل حوالي 18% من تجارة الفحم الحراري في العالم. لن يكون من السهل تعويضها بهذه السهولة.
رئيس وزراء اليابان يقول إن بلاده ستحظر واردات الفحم الروسي
أزمات الإمداد العالمية
لم ينتعش الإنتاج العالمي بعدُ إلى مستويات ما قبل الجائحة. فقد عانت شركات المناجم من مشكلات الطقس ونقص العمالة والنقل، فضلاً عن ضعف الاستثمار في القدرات الجديدة. كما أوقفت إندونيسيا، وهي أكبر مورّد للفحم إلى محطات الطاقة، التصدير في أوائل هذا العام لتأمين الإمدادات المحلية. وأشار المنتجون في أستراليا، وهي مصدر رئيسي آخر، إلى أنَّ قدرتهم على زيادة المبيعات محدودة. تفرض شركة "كول إنديا" (Coal India) المملوكة للدولة، وهي أكبر شركة تعدين في العالم، قيوداً على التسليمات للمستخدمين من القطاع الصناعي، لإعطاء الأولوية لمحطات الطاقة، في محاولة لتجنّب انقطاع التيار الكهربائي عن ملايين الأسر. وانخفضت الصادرات من محطة "ريتشاردز باي كول ترمنال" (Richards Bay Coal Terminal) في جنوب أفريقيا إلى 58.7 مليون طن في عام 2021، وهو أدنى مستوى في 25 عاماً.
أستراليا تسعى لخطف الطلب الأوروبي على الفحم الروسي
قالت شيرلي زانغ، المحللة في شركة "وود ماكنزي" (Wood Mackenzie): "ما تزال السوق العالمية للفحم المنقول بحراً محدودة للغاية هذا العام، لذا؛ فإنَّ إيجاد إمدادات بديلة سيكون أمراً صعباً، بغضّ النظر عن الأسعار المرتفعة".
ومع تراجع إمدادات الفحم العالمية وارتفاع الأسعار؛ قد لا تتمكّن دول الأسواق الناشئة من شراء الوقود للحفاظ على استمرارية الأنشطة باقتصاداتها. يأتي ذلك فيما تعد الدول التي تعاني من ضائقة مالية في جنوب آسيا، مثل باكستان وسريلانكا وبنغلاديش، أكثر تعرضاً لصدمات الأسعار بشكل خاص، وهي تعاني بالفعل من نقص الطاقة.
مشترو الفحم في الهند يدفعون علاوة 300% للحصول على الوقود
من المؤكّد أنَّه في حالة استمرار ارتفاع أسعار الفحم؛ فقد يشجع ذلك البلدان على المدى الطويل على التخلص من هذا الوقود، واستبداله بمزيد من مصادر الطاقة المتجددة. كذلك، تعزز التوترات الجيوسياسية الأكبر الناجمة عن الحرب الروسية الاعتقاد بأنَّ إضافة المزيد من المركبات الكهربائية إلى الطرق، وتركيب توربينات الرياح الإضافية والألواح الشمسية؛ يمكن أن يعزز ذلك كله استقلالية الطاقة.
تأثير الطلب الصيني على الوقود
تشهد الصين أيضاً طفرة في إنتاج الوقود الأحفوري، فقد شكّل الإنتاج المتزايد للفحم هاجساً بالنسبة إلى بكين منذ أن تسبّب نقص الوقود في انقطاع التيار الكهربائي على نطاق واسع العام الماضي. وتعد الصين مسؤولة عن استخراج نصف إنتاج العالم من الفحم، وقد ارتفع الإنتاج في الوقت الذي أدّت فيه موجة جديدة من عمليات الإغلاق بسبب الوباء إلى تباطؤ النشاط الاقتصادي وكبح الطلب على الطاقة. ولكن من غير الواضح ما إذا كانت زيادات الإنتاج مستدامة؛ فقد قال مسؤول كبير في الصناعة مؤخراً، إنَّ الزيادات بلغت أقصى حدودها.
الفحم والنفط الروسي المدفوع ثمنهما باليوان في طريقهما إلى الصين
وفي الوقت الحالي؛ فإنَّ الديناميكية الأكثر إلحاحاً هي معركة عالمية على إمدادات الفحم المتاحة لتجنّب نقص الطاقة.
قال إرني ثراشر، الرئيس التنفيذي لشركة "إكس كول إنرجي آند ريسورسز" (Xcoal Energy & Resources)، وهي أكبر مصدّر للفحم بالولايات المتحدة: "لا أدري ما إذا كان لدي 200 طن إضافية. من الناحية المادية، لا توجد طاقة إنتاجية".
(مايكل بلومبرغ، المؤسس والمالك لحصة الأغلبية في "بلومبرغ إل بي"، الشركة الأم
لـ"بلومبرغ نيوز"، كان قد رصد 500 مليون دولار لحملة "بيوند كربون" (Beyond Carbon) التي تستهدف إغلاق محطات الطاقة المتبقية العاملة بالفحم في الولايات المتحدة بحلول عام 2030، ووقف إنشاء محطات جديدة تعمل بالغاز الطبيعي. كما أطلق حملة لإغلاق ربع محطات الفحم المتبقية في العالم، وإلغاء جميع مقترحات إنشاء محطات الفحم بحلول 2025.)