بلومبرغ
بقلم: فيفيان نيريم، مراسلة بلومبرغ في الرياض
يبدو الطابق التاسع والعشرون من برج "تمكين" السعودي، وكأنَّه تحوَّل إلى عالم للنساء، إذ يستضيف مركز خدمة العملاء التابع للهيئة العامة للإحصاء المُطل على الامتداد الحضري للرياض ذي اللون "البيج". وبتخطي أبواب المركز الزجاجية الغَبِشَة، ستجد أنَّ عدد النساء اللائي يشغلن المكاتب المنتشرة فيه يفوق بكثير عدد الرجال القلائل ممن يعملون في جانب واحد فقط منه.
هذا المشهد هو عكس ما كانت تبدو عليه معظم أماكن العمل في المملكة المحافظة قبل بضع سنوات، مما يعكس تدفُّق النساء المتزايد إلى سوق العمل. "انظروا أين كنَّا.. وأين نحن الآن؟"، تقول ريم المهنا، 31 عاماً، التي تشرف على موظفي مركز خدمة العملاء، البالغ عددهم 74 موظفاً، أثناء قيامهم بجمع البيانات عن الأسر والشركات.
يعدُّ إبقاء النساء في المنزل رفاهية لم يعد بمقدور أكبر دولة مُصدِّرة للنفط الخام في العالم تحمُّل تكلفتها، إذ يعكف ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، 35 عاماً، على إصلاح الاقتصاد استعداداً لمستقبل ما بعد النفط، وسعياً لخلق فرص عمل وسط النمو الاقتصادي المتعثِّر. وفي ظل ارتفاع تكاليف المعيشة، وخفض الحكومة لدعم البنزين والكهرباء، وفرض رسوم وضرائب جديدة، بما في ذلك ضريبة القيمة المضافة بنسبة 15%، باتت الأسر السعودية تعتمد بشكل متزايد على النساء العاملات.
نتيجة لذلك، تنتشر التغييرات الاجتماعية والاقتصادية بقوة في تقاليد البلد، وتغيِّر حياة المرأة في جميع أنحاء طيف المجتمع، وتثير الاستياء بين بعض السعوديين المحافظين. وتدرك الدولة، التي تواجه ضغوطاً من الحكومات الأجنبية وجماعات حقوق الإنسان، بسبب حملات ضد المعارضين، أنَّ رواية تمكين المرأة قد تساعدها على تلميع سمعتها في الخارج. لكن برغم ذلك؛ فهذه التغييرات ليست وهمية.
بات الفصل بين الجنسين -الذي كان مُطبَّقاً بصرامة من قبل هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر– يتلاشى تدريجياً، ليس بين النخب الحضرية وحسب؛ وإنَّما أيضاً في الأقاليم المحافظة مثل منطقة القصيم. ويمكن للرجال والنساء غير المرتبطين الآن الاختلاط علانيةً في المطاعم. وهناك العديد من المكاتب التي تجمع بين الجنسين، وكذلك المهرجانات الموسيقية، والمؤتمرات التجارية والمهنية.
على الرغم من أنَّ صنع القرار ما يزال إلى حدٍّ كبير محصوراً في أيدي الرجال، إلا أنَّ مشاركة الإناث في القوة العاملة زادت من 19% في عام 2016 إلى 33% خلال العام الماضي، وفقاً لمسح القوى العاملة التابع لهيئة الإحصاء السعودية. وقالت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية في بيان تمَّ إرساله إلى "بلومبرغ نيوز" في شهر مارس الماضي، إنَّ "التزام الحكومة القوي بتمكين المرأة السعودية كان المحرِّك الرئيسي".
الهدف المُنجز في وقت قياسي
كانت زيادة مشاركة المرأة في القوة العاملة الهدف الوحيد في رؤية 2030 للأمير محمد بن سلمان الذي تمَّ تحقيقه مبكِّراً بعقد من الزمن، وذلك عبر انخراط النساء السعوديات في العمل كنادلات، وموظَّفات صرافة، وضابطات شرطة. وخلال تطبيق هذه العملية، تمَّ تخفيف قواعد لباس المرأة؛ إذ يمكن الآن التسامح مع ارتداء المرأة سراويل الجينز، وكشف الشعر، إلى جانب ارتداء العباءات السوداء التقليدية الطويلة.
بدأ التحول في عهد الملك عبد الله، الذي توفي عام 2015، لكنَّه تسارع بشكل كبير مع تولي الأمير محمد -الحاكم الفعلي الآن- ولايةَ العهد. وفي السنوات الخمس الماضية، قلَّصت الحكومة من سلطة هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأنهت الحظر المفروض على قيادة المرأة للسيارات، وخفَّفت القواعد التي أبقت النساء تحت وصاية أولياء الأمر الذكور. وفي هذا الشأن تقول سلمى الراشد، كبيرة المسؤولين في جميعة "النهضة" الحقوقية، وهي منظمة غير ربحية مستقلة تركِّز على تمكين المرأة: "هناك اعتراف عام بأنَّه غير مستدام اقتصادياً أن نستمر دون الاستفادة من 50% من السكان".
كان للتغييرات تكلفة، فمع اتساع نطاق الحريات الاجتماعية، تراجعت الحريات السياسية للرجال والنساء على حدٍّ سواء، مما يترك مجالاً ضئيلاً للمواطنين لمناقشة السياسات التي تعمل على تحويل أحد أكثر دول العالم تقييداً اجتماعياً. تمخَّضت حملة الأمير محمد ضد النقاد المحليين عن تورُّط ناشطات، وكاتبات، وأكاديميات نسوة أسوة بالرجال.
وفي عام 2018، تمَّ اعتقال ناشطات، مثل لجين الهذلول وعزيزة اليوسف، وقد أمضتا سنوات في الدعوة إلى إجراء تغييرات في المملكة، مثل السماح للمرأة بالقيادة، وتمَّ اتهامهما بتهديد أمن الدولة. (حُكم على الهذلول بالسجن لنحو ست سنوات، ولكن تمَّ تعليقه جزئياً، وأُطلق سراحها في فبراير الماضي، كما تمَّ الإفراج عن اليوسف في عام 2019، ولكنَّها ممنوعة من السفر إلى الخارج. وتقول منظمات حقوقية، إنَّهما تعرَّضتا للتعذيب، وهو أمر تنفيه الحكومة السعودية). أما المنشقون الآخرون فقد التزموا الصمت بسبب الخوف.
حان الوقت لدور المرأة
مع تطور المجتمع السعودي، يشعر بعض الرجال بالقلق من أنَّ النساء يأخذن وظائفهم، ويعرِّضن للاضطراب دورهم التقليدي في قيادة الأسرة كمسؤولين عن أسرهم مالياً وغير ذلك.
يقول يزيد، وهو طبيب أسنان سعودي يبلغ من العمر 25 عاماً، بعد أن طلب حجب اسمه الأخير، حتى يتمكَّن من التحدُّث علانيةً في بلد تحدُّ فيه الحكومة من حرية التعبير: "أنا ضد حقيقة إعطاء الأولوية للمرأة في الحصول على وظائف، في حين يُترك الرجال وراء الركب.. أعتقد أنَّ عمل المرأة ضروري فقط عندما لا تجد من يعولها".
نادراً ما يجري الأمير محمد مقابلات صحفية، لكنَّه قال لبلومبرغ في عام 2016، إنَّ "النساء نصف هذا المجتمع، ونريده أن يكون نصفه منتجاً". وقال، إنَّ الوقت قد حان لأن تلعب المرأة دوراً أكبر.
تحمل أكثر من ثلثي السعوديات العاطلات عن العمل درجة البكالوريوس أو مؤهلاً أعلى، مقارنة بالثلث فقط من الرجال الباحثين عن عمل. ويُنظر إلى إشراك النساء المتعلِّمات في القوى العاملة بالمملكة على أنَّه ضروري لنجاح رؤية 2030.
في هذا الشأن، تقول رشا التركي، الرئيسة التنفيذية لجمعية النهضة، إنَّ منطق تمكين المرأة واضح للغاية، مضيفةً أنَّ الحكومة استثمرت على مدى أجيال في تعليم النساء السعوديات. واستطردت: "يجب أن يكون هناك عائد على استثمارك. وإلا سيكون بلا هدف!".
الخروج من الفقاعة
هناك قلَّة من الناس الذين استفادوا من التغييرات التي طرأت على السعودية بشكل عميق، ومنهم أحلام عيسى، البالغة من العمر 32 عاماً، وهي أمٌّ لأربعة أطفال، تعمل في متجر لبيع الملابس النسائية في الرياض، وتقود سيارة لصالح شركة "أوبر" وغيرها من شركات النقل التشاركي لجني المزيد من الأموال. وتقوم عيسى بكل ذلك أثناء دراستها للحصول على شهادة الثانوية العامة.
ولدت أحلام في الجنوب، وتزوَّجت وانتقلت إلى العاصمة الرياض عندما كانت في التاسعة عشرة من العمر، وكانت تعيش حياة منغلقة تقليدية مثلها كمثل كثير من النساء السعوديات. لكنَّ مرورها بتجربة الطلاق قبل ثلاث سنوات دفعها إلى دخول عالم بديل تعمل فيه النساء، وتخرج مع الرجال العازبين لتناول الطعام سوياً في المقاهي. تقول أحلام: "لم أكن أعرف ما هو العالم الخارجي.. كنت أعيش في فقاعة".
تقود أحلام اليوم سيارة "هيونداي أكسنت" فضية تجوب بها أنحاء الرياض، وشعرها القصير المصفف يتدلى تحت الرداء، والحجاب رمادي اللون. وتقول، إنَّ السيارة التي ساعدتها جمعية خيرية محلية على شرائها، غيَّرت حياتها. وينصبُّ تركيزها الآن على إنهاء الدراسة، ثم التدريب لتصبح ممرضة.
تريد إحدى بناتها أن تكون مضيفة طيران؛ أما الآخرى، فترغب في أن تكون إخصائية في فنون التجميل. وتقول أحلام: "أدركت أنني سواء كنت متزوجة أو لا، فأنا من أستطيع جعل حياتي جميلة.. كل شيء في هذا العصر أصبح متاحاً للنساء".
امتلاك القرار
على غرار أحلام، تعدُّ نوال العنيزي سعيدةً بخياراتها الجديدة. وتوضِّح السيدة البالغة من العمر 42 عاماً، وهي أمٌّ لخمسة أطفال، أنَّها تحمَّلت زواجاً سيئاً لمدة عقدين من الزمن، خوفاً من فقدان حضانة أطفالها في ظلِّ نظام منحاز للأباء، إذ يعتبر فيه الرجال فقط أوصياء قانونيين على الأطفال. لكنَّ الإصلاحات التي سهَّلت على المرأة طلب الطلاق، والحصول على حضانة أطفالها، منحتها القوة للانفصال قبل أربع سنوات.
وتقول العنيزي، التي تعمل في قسم الموارد البشرية بإحدى الشركات العقارية: "أعيش حياة جديدة". وتضيف: "في السابق، كنت أشعر بالخجل عندما وددت القول لبناتي: "كُنَّ أقوياء، وواجهن الحياة‘. أما الآن فأقولها وأنا أنظر في أعينهن".
مزايا غير متكافئة
كانت التغييرات التي طرأت على القوى العاملة السعودية غير متكافئة (لم تأخذ في اعتبارها تماماً بعض النساء الأجنبيات العاملات بالمملكة، بما في ذلك مليون عاملة منزلية لديهن حقوق محدودة، ويقعن إلى حدٍّ كبير تحت رحمة أرباب العمل). كما
ما تزال العديد من القطاعات التي يهيمن عليها الذكور تقليدياً -مثل التصنيع والبناء– تحت سيطرة الرجال. وفي مقابل حوالي 18 رجلاً سعودياً يعملون في التعدين، هناك امرأة سعودية واحدة تعمل في القطاع. وتتقلَّص هذه الفجوة لتصل إلى حوالي رجل مقابل كل امرأة في مجالات أخرى، مثل: الرعاية الصحية، والعمل الاجتماعي، والفنون، والترفيه، وقطاع الضيافة.
عندما تفشى الوباء، تحوَّلت الهيئة العامة للإحصاء –التي تعمل فيها المهنا- من توظيف العدادين الذكور الذين يطرقون الأبواب، إلى الاعتماد على النساء اللواتي يعملن في مجال المسوحات عبر الهاتف. استطاعت الموظفات الوصول إلى المزيد من النساء بشكل مباشر؛ بسبب عدم اضطرار النسوة –اللواتي يشاركن في المسح- إلى الحصول على إذن أرباب الأسر الذكور قبل المشاركة. ومن بين العديد من الإحصاءات التي قامت بها الهيئة، تشير البيانات إلى أنَّ هناك المزيد من النساء اللواتي أصبحن يعملن بالفعل خارج المنزل، أكثر مما كان يعتقد سابقاً.
آفاق الاقتصاد السعودي
يعدُّ إيجاد فرص العمل التحدي المحلي الأكثر إلحاحاً الذي يواجه الأمير محمد. وأكَّدت الأزمة المزدوجة، التي واجهت المملكة العام الماضي، بعد انخفاض أسعار النفط، وتفشي وباء كوفيد-19، على أهمية تنويع الاقتصاد. وخلال الربع الأخير من عام 2020، بلغ معدل البطالة الإجمالي للسعوديين نحو 12.6%، وضعف تلك النسبة تقريباً كان بين النساء.
مع دخول المزيد من النساء إلى القوى العاملة، وبروز الشباب في تغيير شكل سوق العمل، كان من الصعب على الاقتصاد مواكبة ذلك. ويتضح ذلك الآن بشكل خاص في النمو الاقتصادي المتعثِّر، إذ تقلَّص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4.1% العام الماضي. ووفقاً لصندوق النقد الدولي، فمن المتوقَّع أن ينمو الاقتصاد السعودي بنسبة 2.9% هذا العام، وهو معدل ضعيف نسبياً مقارنة بسنوات الطفرة النفطية.
أيضاً، فالعديد من الوظائف المتاحة للنساء منخفضة الأجر، وتشمل أعمالاً كانت تشغلها في السابق عاملات من آسيا، ودول عربية أخرى. وعلى مدى عقد من الزمن، سعت المملكة إلى معالجة ارتفاع معدلات البطالة بين مواطنيها، من خلال تشجيع الشركات على توظيف السعوديين بدلاً من الأجانب الذين يحوِّلون الكثير من دخلهم إلى عائلاتهم في بلدانهم الأصلية.
تكثَّفت هذه الجهود بشكل خاص في ظلِّ ولي العهد، إذ فرضت الحكومة السعودية ضرائب على أرباب العمل الذين يوظفون الأجانب، وبعض الرسوم التي يدفعها المغتربون للسماح لأفراد أسرهم بالإقامة معهم في البلد، بالإضافة إلى تخصيص حدٍّ أدنى من حصص التعيينات في قطاعات معينة للسعوديين، مثل قطاع البيع بالتجزئة.
وتقول سحر، البالغة من العمر 23 عاماً، وتعمل بائعة في متجر ملابس: "نعم، العثور على وظيفة عادية للنساء هنا سهل، لكن من الصعب العثور على وظيفة جيدة". يذهب راتب سحر، البالغ 3500 ريال (ما يعادل 933 دولاراً) شهرياً، لإعالة أسرتها بعد وفاة والدها. وتعيَّن عليها ترك الدراسة لكي تعمل، وهي غير متأكِّدة من أنَّها ستتمكَّن من العودة إليها مجدداً. وتضيف سحر، التي طلبت حجب اسمها الأخير حتى تتمكَّن من التحدُّث بحرية: "لا أعتقد أنَّني سأتقدَّم في حياتي المهنية أبداً".
فجوة الأجور
اكتشف بحث لجمعية النهضة وجود فجوات بين الجنسين؛ ليس فقط في نسبة المشاركة في القوة العاملة، ولكن أيضاً في الترقي الوظيفي والأجور، إذ تكسب المرأة السعودية 57 ريالاً مقابل كل 100 ريال يكسبها الرجل السعودي. وما تزال تلك الفجوة موجودة حتى بعد تقليص الاختلافات بين الجنسين في التعليم والخبرة. وتصل الفجوة إلى أكبر قدر في قمة السلم الوظيفي، إذ يوجد عدد قليل من النساء في مجالس إدارة الشركات في المملكة، وليس هناك أي امرأة في مجلس الوزراء السعودي. كما أنَّ جميع المستشارين المقرَّبين من الأمير محمد هم رجال.
لكن على الرغم من أنَّ الصورة تبدو مختلطة بالنسبة للنساء السعوديات في مكان العمل، إلا أنَّها تمثِّل فرقاً كبيراً عما كان عليه الوضع في السابق. على سبيل المثال، عندما تمَّ تعيين نهى قطان كأوَّل امرأة في ما يعرف الآن باسم وزارة الرياضة عام 2016؛ لم يكن هناك حتى دورة مياه مخصَّصة للنساء في المبنى.
تشغل قطان الآن منصب وكيلة الوزير للشراكات الوطنية والتنمية في وزارة الثقافة، إذ تشغل النساء في هذه الوزارة نحو 49% من القوى العامة الإجمالية، التي يبلغ قوامها 667 موظفاً.
خلف واجهة وزارة الثقافة التي تتشكَّل من الحجر والزجاج، تجلس نساء في مكاتب ذات جدران مفتوحة إلى جانب الرجال، وهنَّ يرتدين عباءات ملونة، بعيداً عن أقسام النساء المغلقة، التي غالباً ما تكون مظلمة، وضيقة، ومخبأة، وبعضها مايزال موجوداً في عدد من المؤسسات الحكومية. علاوةً على ذلك، لم تعد تشعر النساء بالقلق من أنَّه سيتمُّ إبلاغ هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومعاقبتهنَّ عند حصولهنَّ على استراحة لتناول القهوة لمدة خمس دقائق مع زملائهنَّ الذكور.
وأثناء حديثها مع أحد الصحفيين في مكتبها الفسيح ذي الجدران الزجاجية، تذكَّرت قطان التغييرات التي مرَّت بها. وقالت، إنَّ الانتقال من عدم وجود حمام نسائي قبل أقل من خمس سنوات إلى إجراء هذه المحادثة الآن "يعدُّ أمراً مذهلاً بكل تأكيد".