عندما كان عمره 11 سنة فقط، اقتنى وارن بافيت في عام 1942 أولى الأسهم التي ستمهد الطريق لمسيرة مهنية حافلة بالاستثمارات. وفي عام 2019، تذكر بافيت ذلك قائلاً: "اشتريت ثلاثة أسهم ممتازة في شركة (سيتيز سيرفيس). وكان ذلك بمثابة بدايتي كمستثمر، وقد شعرت برضا عميق".
لم يوضح بافيت الدوافع وراء اختياره لأسهم "سيتيز سيرفيس" (Cities Service)، وهي الشركة التي أصبحت في نهاية المطاف "سيتغو بتروليم" (Citgo Petroleum Corp) التي تسيطر عليها حكومة فنزويلا. ومع ذلك، بالنظر إلى ما حققه بافيت من نجاحات لاحقة، من المحتمل أنه كان يرى في الشركة فرصة استثمارية واعدة.
تريليونات تحت الفراش الياباني
في ضوء بلوغ الأسهم اليابانية مستويات قياسية جديدة في الآونة الأخيرة، تبحث البلد في الفترة الحالية عن نسختها الشابة من بافيت. وصل مؤشر "نيكاي 225" إلى أعلى مستوى جديد على الإطلاق، وتجاوز 40 ألف نقطة للمرة الأولى، لكن الفضل في معظم ذلك يرجع إلى مشتريات الأجانب.
اقرأ أيضاً: التضخم في اليابان يفوق التوقعات ويدعم الاتجاه لرفع الفائدة
حاول الساسة لسنوات إقناع الأشخاص بتحويل مدخراتهم المخبأة تحت الفراش إلى استثمارات تدر عوائد أكبر؛ حيث يوجد نحو كوادريليوني ين ياباني (14 تريليون دولار أميركي)، مخزنة في شكل نقدي أو ما يعادله بيد الأُسر (خارج المصارف) والتي يمكن ضخها في سوق الأسهم. ويبدو أن توسيع نطاق برنامج حسابات الاستثمار المُعفاة من الضرائب الذي أثار ضجة مع إطلاقه في مطلع العام، جاء في التوقيت المناسب.
عقبة الحد الأدنى للاستثمار
لكن الراغبين في أن يصبحوا النسخة اليابانية من بافيت يواجهون مشكلة؛ فالدولة لا تسمح لهم بشراء 3 أسهم أو حتى سهم واحد في شركة تجذب اهتمامهم.
تم تحديد الحد الأدنى للتداول في بورصة طوكيو بـ100 سهم في عام 2018، وذلك بعد سنوات طويلة كانت خلالها كل شركة تضع الحد الأدنى للتداول في أسهمها، والذي كان يتراوح بين سهم واحد وألف سهم. هذا الشرط الجديد، الذي يتطلب شراء 100 سهم دفعة واحدة، جعل العديد من الأسهم الجذابة خارج نطاق المستثمرين المبتدئين. على سبيل المثال، دفع وارن بافيت 114.75 دولار في عام 1942، وهو مبلغ يعادل اليوم نحو 2244 دولاراً، وهو قدر ضئيل مقارنة بـ7.3 مليون ين التي يحتاج المرء لدفعها من أجل شراء أسهم في "كيانس كورب" الرائدة عالمياً في مجال الأتمتة الصناعية، وهو مبلغ يتجاوز بكثير متوسط الأجور في البلاد.
اقرأ أيضاً: "بلاك روك": مؤشرات الأسهم اليابانية قد تتجاوز قممها الحالية
مع ارتفاع عدد المتداولين الأفراد في السنوات الأخيرة، سعى القطاع الخاص إلى استغلال هذه الفرصة. حالياً، تقدم شركات الوساطة عبر الإنترنت برامج تسمح بشراء أقل من 100 سهم، لكنها تأتي مع قيود مختلفة، مثل الرسوم العالية، وغياب التداول الفوري، وصعوبة وضع أوامر شراء مشروطة تُنفذ عند سعر معين، أو تقديم عدد محدود من الأسهم للاختيار. كما أن أصحاب هذه الحصص الصغيرة من الأسهم لا يحصلون على حق التصويت أو القدرة على حضور اجتماعات المساهمين، مما يقلل من شعورهم بأنهم شركاء فعليون في الملكية أو مستثمرون، كما يصف بافيت.
تفضيل الأسهم الأجنبية
هذه العوامل تسبب الحيرة للمستثمرين المبتدئين الذين يخوضون غمار التداول في الأسهم لأول مرة. وقد أدى ذلك إلى وضع يجد فيه المستثمر الفردي الياباني أن شراء سهم أجنبي مثل "أبل" قد يكون أسهل كثيراً من شراء سهم "سوني غروب". وفعلياً، قد يكون شراء سهم واحد في شركة يابانية مدرجة في البورصة الأميركية مثل "سوني" أقل تكلفة من شراء نظيره المدرج في بورصة طوكيو، خاصةً إذا كان المستثمر مستعداً لتحمل مخاطر تقلبات أسعار العملات.
اقرأ أيضاً: أسهم آسيا ترتفع بعد تفوق قياسي لنظيرتها الأميركية
عكما هو متوقع، أبدى الأفراد تفضيلاً كبيراً للاستثمار في الأسهم الأجنبية، خاصة في شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى، نظراً لإمكانية شراء أسهم فردية والاطلاع الجيد على الخدمات التي تقدمها هذه الشركات، وفق ما أبلغني هيرومي ياماجي، الرئيس التنفيذي لشركة "جابان إكستشينج غروب".
وقال ياماجي: "يمثل ضخ مبلغ ضئيل في الأسهم اليابانية عقبة أمام الجيل الشاب"، مضيفاً أن البورصة تناقش طرقاً لحل مشكلة الحد الأدنى الحالي للاستثمار (100 سهم)، بما يتضمن سبلاً محتملة لخفض هذا الحد، كما يأمل في اتخاذ خطوات في هذا الشأن في "المستقبل المنظور".
تجزئة الأسهم لاستقطاب الأفراد
لجأ عدد من الشركات ذات الشهرة الكبيرة إلى تجزئة الأسهم لمحاولة جذب المتداولين من الأفراد، قبل طرح نظام "نيبون لحسابات المدخرات الشخصية" (NISA). شركة "نيبون تلغراف آند تليفون كورب" التي كانت مثالاً واضحاً في البلاد على حماقة شراء الأسهم، وما يزال سعر سهمها أقل من أعلى مستوياته التي سجلها في 1987 بنسبة 40%، بعد 3 أشهر فقط من إدراجها، قامت بتجزئة أسهمها إلى 25 سهمهاً لكل سهم العام الماضي.
اقرأ أيضاً: "الساموراي السبعة" اليابانية تضاهي عمالقة الأسهم الأميركية
كما قامت شركات أخرى معروفة بسوء أدائها طويلاً ، مثل "نينتندو" و"فاست ريتايلينغ،"بجعل شراء أسهمها أرخص. لكن الأمر ما يزال يتطلب رهاناً بـ5500 دولار لمن يرغب في الاستثمار في مبتكرة "سوبر ماريو". ويمثل ذلك عائقاً أمام زيادة أعداد المستثمرين الشباب الذي يشترون الأسهم مثل أقرانهم الأميركيين، بغض النظر عن حجم الضغط الواقع عليهم من التضخم في اليابان لتحقيق عوائد.
توقعات لا تستحق العناء
تمثل الشركات نفسها واحدة من أكبر العقبات؛ حيث تعبر عن تذمرها من التكاليف الإضافية المترتبة على كل مساهم جديد من حيث المواد المطبوعة (كالإفصاحات والتقارير التي ترسلها إليهم)، أو الإزعاج الناجم عن حضور الانتهازيين المتغطرسين لاجتماعات المساهمين. وفي النهاية، يرى غالبية الأشخاص أن محاولة تجاوز توقعات السوق لا تستحق العناء.
هذا بالضبط ما خلص إليه وارن بافيت بنفسه، إذ اعتبر أنه كان يجدر به استثمار مبلغه (114.75 دولار) في صندوق يتتبع مؤشر (S&P 500)، والذي كان من الممكن أن يربح منه 600 ألف دولار بحلول عام 2019.
على الرغم من كل ما قدمته ثورة الاستثمار خامل الإدارة لصالح المدخرين، فإن فهم سحر امتلاك جزء صغير من شركة معينة -قد تتفاعل معها يومياً، أو تشتري منتجاتها، أو تستقل قطاراتها- يبقى أبسط من فهم الصناديق المتداولة في البورصة أو الصناديق المشتركة.
المستثمرون الأجانب في اليابان معروفون بتقلباتهم، وفي الماضي، كان تغيير الرواية كافياً لدفعهم إلى التحارج من الاستثمارات. لضمان استمرار الانتعاش، يجب على المستثمرين المحليين أن يقتنعوا بأن هذا ليس مجرد نجاح زائف أو مضلل. لذلك، إذا أرادت اليابان أن تشجع المدخرين على استخراج أموالهم المخبأة، يتعين عليها أن تتعظ من بافيت في سن 11 عاماً.