بلومبرغ
تتجه التجارة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين إلى تحطيم أرقام قياسية، ما يُعدّ علامة على وجود روابط متماسكة بين أكبر اقتصادين على مستوى العالم وسط لغة خطاب متشددة حول الأمن القومي في واشنطن ومخاوف "فك الارتباط".
توضح بيانات الحكومة الأميركية الخاصة بالعام الماضي حتى نوفمبر 2022 أن الواردات والصادرات ستبلغ أعلى مستوى في تاريخها، أو أنها ستقترب من هذه المستوى كثيراً على أقل تقدير، مع صدور التقرير النهائي في 7 فبراير المقبل. نشرت بكين لتوها الأرقام الخاصة بها للسنة بأكملها والتي كشفت بلوغ التجارة مستوى قياسياً بقيمة 760 مليار دولار تقريباً.
توجد بعض التحفظات. تراجع حجم التجارة مع اقتراب نهاية السنة المنصرمة، في ظل تباطؤ الطلب على الواردات بالولايات المتحدة ونضال الصين لإدارة القيود المفروضة لاحتواء مرض كوفيد. علاوة على عدم تعديل بيانات التجارة وفق معدل التضخم، ما يعني أن ارتفاع الأرقام بالدولار ربما لا يعكس زيادة في كمية السلع المصدرة.
تشدد أميركي
على الرغم من ذلك، فإنها تُعتبر أرقاماً مذهلة بالنسبة لحقبة يُعدّ فيها التشدد في التعامل مع الصين أقرب لحالة الإجماع بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري بواشنطن. يبيّن ذلك مدى ترابط الاقتصادين بطريقة هائلة، حتى في وقت ترمي فيه الولايات المتحدة الأميركية للحد من تقدم الصين وتبذل بكين مساعيها للتصدي لنفوذ واشنطن العالمي.
سنغافورة تحذّر من "دوامة تصعيدية" مع تآكل الثقة بين الولايات المتحدة والصين
ظهرت مؤشرات إيجابية في الآونة الأخيرة، بما فيها أول اجتماع وجهاً لوجه بين الرئيسين الأميركي جو بايدن والصيني شي جين بينغ في نوفمبر الماضي، بجانب وجود خطط لإجراء اتصالات أكثر رفيعة المستوى، تتضمن قيام وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكين بزيارة للصين العام الجاري. لكن تسوية الطرفبن لخلافاتهما بسهولة مسألة غير واردة، بما فيها موقف بكين فيما يتعلق بتايوان وبحر الصين الجنوبي، علاوة على وجود دافع قوي لدى واشنطن لتقييد حصول بكين على تكنولوجيا أشباه الموصلات المهمة.
"ما تريده الشركات"
يسأل ديفيد دولار، كبير الباحثين بشؤون السياسة الخارجية بمعهد "بروكينغز": "هل باستطاعتنا، في ظل وجود حرب تكنولوجية، الاحتفاظ بعلاقة تجارية قوية جداً على كافة الأصعدة الأخرى؟ حدسي يقول نعم، حيث يعتمد الأمر على مدى الكفاءة الاقتصادية، وما تريده الشركات وتمكنها من توفير سلع وخدمات للمستهلكين".
أضاف أن هذا النوع من "فك الارتباط القاطع" الذي تدافع عنه بعض الأطراف بواشنطن "سيؤثر سلباً بطريقة كبيرة على مستويات المعيشة بالولايات المتحدة". تابع: "أنا فقط لا أعتقد أن سياسة الولايات المتحدة ستمضي في هذا المسار، بصرف النظر عن لغة الخطاب".
"إنفيديا" تنتج معالجاً جديداً لسوق الصين يتوافق مع حظر الصادرات الأميركية
ستُجري الصين على الأرجح نفس الحسابات أيضاً، إذ ما زال النمو الاقتصادي بقيادة الصادرات يمثل العامل الرئيسي لازدهار مستويات المعيشة وتحقيق الاستقرار.
يفسر ذلك سبب نجاة كثير من التجارة من الرسوم الجمركية المفروضة أثناء فترة حكم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، واستمرارها خلال إدارة بايدن، التي طرحت مجموعة من التدابير الخاصة بها ترمي إلى إعاقة قدرة الصين على تطوير أشباه الموصلات المتقدمة. كما مرر الكونغرس الأميركي تشريعاً يستهدف ما يعتبره المشرعون انتهاكات صينية لحقوق الإنسان، ولتدعيم عمليات تصنيع الرقائق الإلكترونية الأميركية.
"خطر وجودي"
قال مايك بيرنز، الشريك بشركة رأس المال المغامر "موراي هيل غروب"، التي تركز على قطاع أشباه الموصلات: "تدور هذه المعركة حول إحراز التفوق التكنولوجي". أضاف أنه لا يستتبع ذلك بالضرورة خلاف تجاري على نطاق أوسع، نظراً لأن البلدين لديهما أهداف متباينة -الزعامة التكنولوجية بالنسبة للولايات المتحدة، والاستقلال التكنولوجي بالنسبة للصين- ولا يتعارض تحقيق الهدفين.
غير أن هناك خطراً أن ينتهي الأمر بهما بالوقوع في مسار تصادمي، حيث أوضح بيرنز: "يتعين على الولايات المتحدة الحرص على ألا تشكل جهود حماية زعامتها خطراً وجودياً على الصين عن طريق تقويض قدرتها على التحرك صوب تحقيق الاستقلال لعمليات تصنيع أشباه الموصلات".
أهمية الرقائق تبرز جيوسياسياً في عالم غارق بالبيانات
ربما كان لتفاقم التوترات السياسية على مدى الأعوام الأخيرة أثر أكبر على تدفقات رأس مال الأصول الثابتة يتجاوز أثره على التجارة.
خفضت الشركات الأميركية استثماراتها الجديدة بالصين. أشار ثيلو هانيمان، الذي يرصد الاستثمار المباشر بين الولايات المتحدة والصين لشركة "روديوم غروب" (Rhodium Group)، إلى أنه بالنسبة لكثيرين، "لا تصب عملية حساب المخاطر مقابل المكاسب في صالح الاستمرار بالعمل داخل الصين".
أضاف أن الشركات يساورها القلق حيال توقعات الصين نفسها للنمو، فضلاً عن التوترات الجيوسياسية المتزايدة. تابع: "نشاهد قطعاً قرينة تدل على أن المستثمرين يسحبون أموالهم".
خطاب غير واقعي
تتحول بعض الشركات إلى أماكن على غرار فيتنام والمكسيك، ما قد يساعد هاتين الدولتين في الاستئثار بحصة أكبر من الواردات الأميركية على حساب الصين، وذلك رغم أن الشركات الصينية ربما تعثر أيضاً على سبل للعمل بهذين الاقتصادين، ولتستمر في التصدير للولايات المتحدة الأميركية.
في هذه الأثناء، تراجع الاستثمار الصيني بالولايات المتحدة بصورة هائلة منذ صعوده منتصف العقد المنتهي في 2010. يعزو هانيمان بلوغ تلك الذروة لإدخال تعديل بقانون صيني خلال 2014 تقريباً، منح الشركات المحلية حرية أكبر بمواصلة تنفيذ مشروعات خارج البلاد، ما نتج عنه صفقات شراء وفيرة لشركات وعقارات أميركية.
رغم ذلك، يوجد الكثير من الشركات الكبيرة التي تمتلك استثمارات رأسمالية ضخمة بالصين والتي تعطي إشارات تدل على البقاء لفترة طويلة، وهناك شركات عالمية كثيرة مستعدة للاستمرار بتكديس الأموال فيها.
أكد علي واين، كبير محللي شركة "أوراسيا غروب" (Eurasia Group) ومؤلف كتاب صدر حديثاً يتناول العلاقة بين الولايات المتحدة الأميركية والصين: "مايزال الحديث عن فك الارتباط يتجاوز الحقيقة على أرض الواقع. وسيكون من الصعب على الولايات المتحدة والصين، إن لم يكن مستحيلاً، قطع الروابط الاقتصادية بينهما بصورة كاملة".