اعتادت سريلانكا بيع أصولها في الأيام الصعبة، ولم تمر في السابق بأوقات أصعب كثيراً من هذه الأيام.
هذه الجزيرة الصغيرة متعثرة في سداد ديونها، وفي حاجة ماسة إلى 4 مليارات دولار من أجل شراء الغذاء والوقود والأسمدة حتى تقاوم الوقوع في أزمة أعمق.
للمرة الأولى في تاريخها.. سريلانكا تتخلف عن سداد الفائدة على ديونها
رانيل ويكرمسينغ، رئيس الوزراء الذي عُيِّن حديثاً في المنصب للمرة السادسة، لم يهدر وقتاً وأعلن أن الحكومة ستبيع خطوط الطيران السيريلانكية "سريلانكان إيرلاينز" للقطاع الخاص، وهي شركة كانت طائراتها تحلق إلى 126 مقصداً في أكثر من 60 دولة قبل جائحة كورونا.
تعاني الناقلة السريلانكية من ضغوط على ميزانيتها العمومية، حتى من قبل انتشار فيروس كوفيد-19 وربما تعجز عن سداد إيجار طائراتها للشركات المؤجرة، بحسب ما كتب محللو "بلومبرغ إنتيليجنس" الشهر الماضي.
تكبّدت الشركة خسائر بقيمة 125 مليون دولار خلال العام الماضي حتى نهاية مارس 2021، ويُرجَّح أن تواجه صعوبة في العثور على مشترٍ يتحمّلها. غير أن بلداً لا يكفي مخزونه من البنزين إلا يوماً واحداً، ولا يملك سيولة تغطي ثمن 3 سفن تحمل النفط الخام وزيت الأفران ترسو قرب الساحل، فإن بيع أي شيء مهما كان يبدو إستراتيجية جديرة بأن تتبع.
سريلانكا ليس لديها سيولة لدفع ثمن شحنة بنزين واحدة
نفوذ الصين
المشكلة أن سريلانكا قد سلّمت بالفعل بعض أكثر نقاطها الإستراتيجية أهمية إلى الصين، التي كانت تبذل جهوداً كبيرة حتى وقت قريب لتوسع من تواجدها هناك. والآن، عرضت الصين تقديم قروض قيمتها "بضع المئات من ملايين الدولارات" كما قال ويكرمسينغ لصحيفة "فايننشال تايمز"، بينما تسعى حكومته أيضاً إلى إعادة التفاوض على القروض القائمة مع الصين التي تبلغ نحو 3.5 مليار دولار.
يدفع ويكرمسينغ بقوة إلى تسريع وتيرة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، غير أن المفاوضين من طرفه لم يتوصلوا إلى اتفاقية على مستوى الخبراء مع منظمة الإقراض متعددة الأطراف. وحتى يبدأ تدفق أموال القرض، تعيش سريلانكا يوماً بيوم.
"النقد الدولي": حققنا "تقدماً جيداً" في تحليل الوضع الاقتصادي لسريلانكا
رسّخ متظاهرون لأنفسهم حضوراً دائماً في العاصمة كولومبو وهم يواصلون المطالبة باستقالة الرئيس غوتابايا راجاباكسا. وقد كتبوا على إحدى اللافتات: "أعد لنا أموالنا المسروقة"، بينما لا تظهر أي علامة على إمكانية تهدئة غضبهم إزاء دور الحكومة في الأزمة الاقتصادية.
الأفيال البيضاء
الصين هي أكبر دولة دائنة لسريلانكا عبر قروض ثنائية، ومشروعاتها من نوعية الأفيال البيضاء –ميناء هامبانتوتا الذي أقامته الصين والمطار قليل الاستخدام قرب قرية الأجداد لعائلة راجاباكسا– أسهما في تأجيج غضب المواطنين ضد السلالة السياسية التي تضم كلاً من الرئيس وأخيه ماهيندا، الذي استقال من منصب رئيس الوزراء في 9 مايو بعد أحداث العنف التي خلّفت 9 قتلى وعشرات الجرحى.
هل جلبت سريلانكا فيلا صينيا أبيضا إلى عاصمتها؟
أشعل محتجون النار في منزل عائلة راجاباكسا في هامبانتوتا وحطموا تماثيل آبائهم في أحداث توّجت شهوراً من تصاعد الاضطرابات المدنية بسبب قرارهم الكارثي بحظر الأسمدة الذي أدى إلى أزمات نقص الغذاء الحالية، والفشل في معالجة أزمة العملة الأجنبية، وتأخرهم غير المفهوم في طلب المساعدة الدولية.
هناك أيضاً مدينة "كولومبو بورت سيتي"، وكان الهدف منها أن تضع العاصمة في منزلة المركز المالي الآسيوي الكبير التالي. لكن وضعها كمنطقة اقتصادية خاصة يعني أن الحكومة لا ترى فائدة تذكر لتلك الحافة الصخرية التي أنشأتها بموازاة الواجهة المائية. وتسيطر عليها -مثل الميناء- شركة مملوكة للصين، مع خضوع جزء كبير منها لعقد امتياز لمدة 99 عاماً.
الهند
بطبيعة الحال، ليست الصين وحدها من تريد فرض نفوذها على سريلانكا. وربما تكون حصة الهند أصغر حجماً، ولكنها مازالت لديها تأثير كبير بمجرد نفوذها السياسي والاقتصادي في المنطقة. قدّمت نيودلهي أكثر من 3.5 مليار دولار من المساعدات هذا العام للمساهمة في سداد تكاليف الوقود والغذاء والدواء.
تسبب وصول شحنات هندية من زيت الديزل والبنزين، على مدى الأسبوعين الماضيين، في حالة من الفوضى في مدينة كولومبو إذ تدفّق المواطنون على محطات الوقود لمحاولة ملء سياراتهم.
في سبتمبر من العام الماضي، دخلت إحدى شركات الهند الكبرى، هي مجموعة "أداني غروب" (Adani Group)، في صفقة قيمتها 700 مليون دولار بهدف تطوير محطة حاويات في المياه العميقة في سريلانكا والتي وصفها معهد "لوي إنستيتوت" (Lowy Institute)، ومقره في سيدني، بتطور "إستراتيجي يغيّر قواعد اللعبة" في معركة بسط النفوذ بين بكين ونيودلهي. فستُقام هذه المحطة بجوار محطة تديرها الصين في ميناء كولومبو (تدير شركة "تشاينا ميرشانت بورتس غروب" الصينية للموانئ التجارية أيضاً ميناء هامبانتوتا".
ثم في شهر يناير، استحوذت شركة "لانكا آي أو سي" (Lanka IOC) التابعة لشركة "إنديان أويل" (Indian Oil) على حصة 49% من مشروع التنمية المشترك لمزرعة خزان النفط "ترينكومالي" (Trincomalee)، مع احتفاظ شركة "سيلان بتروليم" (Ceylon Petroleum) بـ51% عند إنهاء صفقة انعقدت في عام 1987، في عهد رئيس وزراء الهند راجيف غاندي.
إن موقع سريلانكا على واحد من أكثر الطرق الملاحية نشاطاً في العالم يعني أن لها أهمية حاسمة في الحفاظ على سلاسل التوريد العالمية.
أصول أخرى
إذن، أي شيء آخر تستطيع أن تطرحه البلاد للخصخصة؟ هذا السؤال يؤرّق المتخصصين في الاقتصاد السياسي مثل أهيلان كاديرغامار، الذي يشعر بالقلق بسبب الأثر الاجتماعي لخروج أصول مهمة من تحت سيطرة الحكومة .
قال كاديرغامار، الذي يعمل محاضراً أول في جامعة "جافنا" (Jaffna)، إن المسؤولين سيفكرون في "هيئة كهرباء سيلان" وشركة "سيلان بتروليم" (Ceylon Petroleum). وهو يتوقع أن تحدث مقاومة كبيرة لهذه الخطوة.
تُعدّ هيئة الكهرباء إحدى مواطن القوة في البلاد. يقول كاديرغامار: "يتمتع عدد قليل من الدول النامية بهذه النوعية من توصيل الكهرباء وخدماتها التي عند سريلانكا. بل حتى أسر العمال الذين يشتغلون باليومية يحصلون على الكهرباء، ويستفيدون منها في تعليم أطفالهم". سيضغط صندوق النقد الدولي على الحكومة لتخفيض خسائر الهيئة، كما يتوقع كاديرغامار، وربما تميل الحكومة إلى الرغبة في ملء جيوبها عبر بيع هذا القطاع بدلاً من إصلاحه.
الصين تبدي استعدادها لتقديم مساعدة عاجلة لصالح سريلانكا
حتى الآن، لا يبدو أن أمام البلاد خياراً آخر إلا أن تعتمد على ثروة وكرم الهند والصين. فقد قال البنك الدولي إنه لا يعتزم تقديم تمويلات جديدة حتى تطرح كولومبو "إطاراً ملائماً للسياسة الاقتصادية الكلية" يُعيد إلى البلاد الاستقرار والنمو. وإذا استطاعت سريلانكا أن تتراجع عن بيع مقتنياتها الثمينة، ربما تُتاح أمامها الفرصة للمقاومة حتى تجمع أشلاء اقتصادها مرة أخرى.