فلاديمير بوتين جعل من مهمة جيروم باول الصعبة، مهمة أصعب.
حتى قبل أن يبدأ الرئيس الروسي غزو أوكرانيا، كان رئيس الاحتياطي الفيدرالي يواجه ضغوطاً من أجل مواجهة التضخم، دون أن يتسبب ذلك في ركود اقتصادي –في مهمة خطيرة كانت زيادة أسعار الفائدة بنسبة صغيرة هذا الأسبوع أحدث مشاهدها. أما الحرب، فهي تجعل هذه المعضلة أكثر تعقيداً، بزيادة وتيرة ارتفاع الأسعار وإضعاف الاقتصاد في الوقت ذاته، إذ إن تأثير الأولى (زيادة الأسعار) يدفع الاحتياطي الفيدرالي إلى الإسراع في رفع أسعار الفائدة. أما الأثر الثاني (إضعاف الاقتصاد)، فيتطلب منه التروي في ذلك.
اقرأ أيضاً: الاحتياطي الفيدرالي يعتمد على التخمين في تحديد أسعار الفائدة
تنبيه: هذه المقالة لن تحاول حل المعضلة التي تواجه الاحتياطي الفيدرالي، والمتعلقة بما ينبغي أن يفعل. لكن مع ذلك، هناك طريقة للتفكير في حلول وسط، ربما تكون مفيدة، وهي تبدأ بنبذ فكرة أن الاحتياطي الفيدرالي ينبغي عليه أن يحارب التضخم من الأساس.
بدلاً من ذلك، دعونا نفكر في طريقتين لارتفاع معدل التضخم. أحياناً يحدث التضخم بسبب زيادة وتيرة الإنفاق في مختلف جوانب الاقتصاد، وأحيانا أخرى يحدث بسبب أزمات سلبية يتعرض لها مستوى الإنتاجية.
اقرأ المزيد: كيف سهلت حرب بوتين وظيفة جيروم باول؟
في الحالة الأولى، ينبغي على الاحتياطي الفيدرالي أن يتولى مسؤولية مواجهة الزيادة في معدل التضخم، إذ تكون هذه الزيادة ناتجة عن سبب نقدي خالص –هو الإفراط في الإنفاق. وينبغي على الاحتياطي الفيدرالي أن يرى في هذا النوع من التضخم مشكلة، هو نفسه الذي تسبب بها وليست مشكلة وقعت عليه. وقد أوضح جوشوا هندريكسون، أستاذ الاقتصاد في جامعة مسيسيبي، أن تغيير البنك المركزي نظرته إلى المشكلة على هذا النحو، كان عاملاً رئيسياً في السيطرة على التضخم بعد حقبة سبعينيات القرن الماضي.
خلال فترة طويلة من السبعينيات، كان الاحتياطي الفيدرالي يعتبر أن العوامل الحقيقية الدافعة لمعدل التضخم، هي عوامل غير نقدية، مثل جشع البلدان المنتجة للنفط، والشركات الكبيرة، والنقابات العمالية. وقد تسبب هذا التحليل في تكبيل قادة البنك المركزي، وجعلهم عاجزين عن تحقيق استقرار الأسعار.
سبب ارتفاع التضخم
لم يتراجع معدل التضخم إلا عندما بدأ الاحتياطي الفيدرالي يرى أن المشكلة الرئيسية تتمثل في زيادة المعروض النقدي، وهي مشكلة يستطيع أن يسيطر عليها. ومعنى ذلك أن نفهم أن الاحتياطي الفيدرالي هو من كان سبباً في ارتفاع التضخم، وليس مجرد أنه عاجز عن وقفه. وقد شرح هندريكسون ذلك في إحدى مقالاته الشهر الماضي، موضحاً أن الاحتياطي الفيدرالي كان يعفي نفسه من المسؤولية باعتباره رجل إطفاء عديم الفاعلية، بينما هو في حقيقة الأمر من كان يشعل الحرائق، وينبغي عليه أن يتوقف عن صب الوقود.
في النوع الثاني من التضخم، لا تزيد كمية الإنفاق الإجمالية في الاقتصاد، وبدلاً من ذلك تتسبب أزمة العرض السلبية في أن كمية الإنفاق ذاتها تشتري كمية من السلع أقل عدداً أو حجماً وأعلى سعراً. فلا يكون الاحتياطي الفيدرالي مسؤولاً عن هذا النوع من زيادة الأسعار وقلة الإنتاج. ولا يتعلق السؤال هنا بما إذا كان البنك المركزي يستطيع مواجهة هذا النوع من التضخم أم لا – فهو يستطيع – وإنما بما إذا كانت تلك المواجهة واجبة أم لا.
إن معالجة سلاسل التوريد تتجاوز قدرة أي بنك مركزي بطبيعة الحال. وما يستطيع بنك الاحتياطي الفيدرالي أن يفعله يقتصر على تخفيض مستوى الإنفاق، ما يمثل بدوره ضغطاً هبوطياً على مستوى الأسعار. غير أن ذلك يعد استجابة خاطئة في مواجهة أزمة نقص المعروض، لأنها تواجه ندرة في البضائع باصطناع ندرة في النقود، وتصبح النتيجة المترتبة على ذلك هي مضاعفة أثر الضربة التي وجهتها أزمات العرض فعلاً إلى مستويات المعيشة.
من النقائص المؤسفة الكثيرة التي نراها في عالم الحقيقة، أن هذين النوعين من التضخم قد يقعان معاً في الوقت ذاته، وقد حدث ذلك في سبعينيات القرن الماضي، كما أنه يحدث في الوقت الراهن.
خطآن محتملان
هذا التزامن يفتح الباب أمام اقتراف خطأين مختلفين، أحدهما أن نعزو مشكلة التضخم كاملة إلى أزمات العرض التي تخرج عن سيطرة الاحتياطي الفيدرالي، ونتجاهل الإفراط في الإنفاق، مثلما فعل البنك المركزي في سبعينيات القرن الماضي. أما الخطأ الثاني، فهو التعامل مع مشكلة التضخم كما لو أنها تعبير خالص عن فرط الإنفاق، وأن نتجاهل تأثير أزمات العرض. وقد ارتكب الاحتياطي الفيدرالي ما يشبه هذا الخطأ في عام 2008: فقد دفعه الخوف من ارتفاع أسعار الوقود إلى تطبيق سياسة تقشفية مفرطة ساهمت في حدوث الركود العظيم.
المسار السليم إذن من الناحية النظرية، هو أن يقوم الاحتياطي الفيدرالي بتحديد أسعار الفائدة، وأن يضبط توجهاته بشأن أسعار الفائدة في المستقبل، بهدف تحقيق استقرار مستوى الإنفاق. سيؤدي ذلك في اللحظة الراهنة إلى إضعاف نمو الاقتصاد، لكنه لن يتقبل من معدل التضخم الذي يتجاوز المستوى المستهدف، سوى ذلك الجزء الناتج عن أزمات جانب العرض.
لاشك في أن ذلك، مما يسهل فيه القول ويستعصي على الفعل. غير أن إرساء هذا الهدف سيساعد قادة البنك المركزي على تحديد حجم تأثير الحرب الروسية – وقرارات الإغلاق المرتبطة بفيروس "كوفيد-19" في الصين في ما يخص الموضوع – على السياسة النقدية. هناك احتمال أن تؤثر الأحداث العالمية سلباً على مستويات الإنفاق، مثلاً عن طريق إشاعة التوتر بين الناس بما يجعلهم يتمسكون بأرصدتهم الدولارية بدلاً من إنفاقها على الاستهلاك والاستثمار. غير أن التأثير المؤكد للأزمات الخارجية، هو مزيد من اضطراب سلاسل التوريد.
ترحيب السوق
لا ينبغي لذلك أن يثني الاحتياطي الفيدرالي عن هدفه. فهو يحتاج إلى تطبيق التقشف النقدي، لأنه سمح بنمو مفرط وسريع في مستوى الإنفاق. وقد لقي إعلانه هذا الأسبوع برفع أسعار الفائدة ربع نقطة مئوية ترحيباً، وإن كانت تلك خطوة ربما غير كافية في هذا الاتجاه.
غير أن الاحتياطي الفيدرالي لا ينبغي أن يسمح لمشكلة سلاسل التوريد الناتجة عن سلوك روسيا والصين أن تؤثر على قراره في ما يتعلق بحجم ووتيرة التقشف النقدي الذي يحتاج إلى تطبيقه. فلا يجب أن يفرض التقشف النقدي لمجرد أن تلك الأحداث تتسبب في زيادة الأسعار. ولا ينبغي عليه أيضاً أن يقلل من درجة التقشف النقدي لمجرد أن هذه الأحداث تلحق ضرراً بمستوى الإنتاج في الولايات المتحدة. فقد عكّر بوتين صفاء الصورة التي يتحرك فيها البنك المركزي، لكنه لم يغير مهمته.