الشرق
تسببت أزمة شحّ العملة الصعبة التي تعاني منها مصر بظهور 4 مستويات مختلفة لسعر صرف الدولار أمام الجنيه، تتمثل بالسعر الرسمي في البنوك، والسوق السوداء، وسوق الذهب، وشهادة إيداع (GDR) بنك CIB في بورصة لندن، ما يصعّب أعمال الشركات والتجار وحياة المواطنين على حدٍّ سواء، وسط ظروف اقتصادية غير مسبوقة تعيشها البلاد.
هذا الواقع أدّى إلى اتساع الفجوة في سعر الدولار مقابل الجنيه في السوقين الرسمية والموازية إلى أكثر من 60%. يبلغ سعر الجنيه المصري الرسمي في البنوك 30.9 جنيه مقابل الدولار منذ أشهر عدة، وهو أقل بكثير من سعره في السوق السوداء المحلّية حيث وصل إلى 50 جنيهاً للدولار الواحد في الأيام الأخيرة.
تعاني مصر من شح شديد في السيولة الدولارية منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها، ما أدى لخفض قيمة الجنيه المصري 3 مرات منذ مارس 2022، ودفع سعر الجنيه إلى الانخفاض أمام الدولار بنحو 25% منذ بداية العام حتى الآن، وبنحو 50% منذ مارس من العام الماضي.
الضغوط السابقة تشير جميعها إلى أن هناك خفضاً جديداً لقيمة الجنيه، وهو ما تترقبه الأسواق في وقت تشدد مؤسسات التمويل الدولية في مطالبة السلطات بتطبيق أسعار صرف مرنة للصرف.
سوق الذهب
تسعير الذهب في مصر يُعدُّ مرآةً تعكس سعر الدولار الحقيقي في السوق السوداء. وبإجراء عملية حسابية لمعرفة كيفية احتساب سعر الدولار في السوق الموازية، فإنه يتم قسمة سعر غرام الذهب (عيار 24) في السوق المصرية والبالغ حالياً 3100 جنيه على سعره في البورصة العالمية والذي يبلغ حاليا 63 دولاراً، ليتبيّن أن الدولار تم تقويمه بـ49.20 جنيه.
أحد تجار الذهب أوضح لـ"الشرق" أنه يتم احتساب أسعار الذهب في مصر وفقاً لسعر الدولار بالسوق الموازية، والذي يتغير من يوم لآخر، مشيراً إلى أن سعر غرام الذهب عيار 21 يصل حالياً في السوق إلى 2700 جنيه، لكن إذا تم احتسابه وفقاً للسعر الرسمي للبنك فلن يتجاوز 2000 جنيه.
التاجر، الذي طلب عدم الإفصاح عن اسمه نظراً لحساسية الأوضاع، أضاف أنه يتم تسعير الذهب حالياً على أساس 49 جنيهاً أمام الدولار، مقابل 42 جنيهاً قبل أسبوعين.
من جانبه، يوضح لطفي منيب، نائب رئيس الشعبة العامة للذهب والمجوهرات في اتحاد الغرف التجارية لـ"الشرق" أن التجار لا يسعرون الذهب، إذ يتم تسعيره وفق قواعد ومعادلات ثابتة؛ "لكن هذه القواعد والمعادلات تغيب لعدم وضوح الرؤية".
بلغ حجم واردات مصر من الذهب المعفى من الضريبة الجمركية نحو 3.3 طن خلال 6 أشهر، كما كشف مسؤول حكومي سابقاً لـ"الشرق".
ووافق مجلس الوزراء المصري، مطلع الشهر الحالي، على مد العمل بالقرار الخاص بإعفاءات واردات الذهب بأشكال نصف مشغولة والمعدّة للتداول النقدي والحلي والمجوهرات وأجزائها من معادن ثمينة لمدة 6 أشهر تنتهي في مايو 2024؛ "وذلك لما أحدثه من مردود إيجابي في محاولة ضبط الأسواق واستعادة الاستقرار والتوازن للأسعار"، كما ورد في بيان مجلس الوزارء.
سعيد إمبابي، المدير التنفيذي لمنصة "آي صاغة" لتداول الذهب والمجوهرات عبر الإنترنت، قال بدوره إن "التسعير فى مصر يكون بناءً على عوامل العرض والطلب، لكن فى المقام الأول يكون ذلك استناداً لسعر الدولار، والذي تجاوز حالياً مستوى 50 جنيهاً في السوق السوداء".
المستوردون والسوق السوداء
يُنوّه أمير هلالي، أحد مستوردي السيارات، ورئيس لجنة المستوردين في شعبة السيارات بغرفة القاهرة التجارية، بأن شركات السيارات تسعّر الدولار حالياً في السوق السوداء بنحو 51 جنيهاً، فيما تسعّر اليورو بما يتراوح بين 53-55 جنيهاً.
هلالي أضاف لـ"الشرق" أن أغلب المعارض والشركات أوقفت البيع حالياً بسبب عدم استقرار سعر العملة الأجنبية في السوق الموازية حيث يشهد كل يوم ارتفاعاً، لافتاً إلى أن السوق تترقب استقراره عند مستوى محدد كما كان قبل فترة غير بعيدة.
فيما يقول أحد مستوردي مستلزمات إنتاج الأجهزة المنزلية والكهربائية لـ"الشرق"، إن احتساب سعر الدولار في السوق الموازية يرتبط بتسعير الذهب، وسعره في البنك، وسعره عالمياً.
وتابع: "الشركات الصناعية التي تستورد الخامات، تحتسب سعر الدولار في السوق السوداء عن طريق "متوسط سعر المخزون"، من خلال احتساب المخزون الجديد مع القديم واحتساب متوسط سعر لكي تستطيع الشركات البيع بدون رفع الأسعار بشكل مبالغ فيه؛ "فلو قمنا بتسعير الدولار عند 50 جنيهاً سيرتفع سعر المنتج بشكل كبير يصعب معه عملية البيع".
وأضاف المستورد، الذي اشترط عدم نشر اسمه، أن كل شركة تختلف عن الأخرى من حيث التسعير، لكن الغالبية تحتسب متوسط ما بين سعر البنك وسعر السوق.
البورصة والدولار
انخفضت قيمة الجنيه مقابل الدولار على شهادات إيداع (GDR) البنك التجاري الدولي (CIB) في بورصة لندن مقارنةً بسعر سهم البنك في البورصة المصرية، لتصل إلى نحو 56.96 جنيه لكل دولار، أي ما يعادل 1.25 دولار تقريباً لسعر السهم، بينما يوازي سعره في بورصة مصر والبالغ 71.2 جنيه، وفق سعر الإغلاق الخميس، حوالي 2.3 دولار وفق سعر الصرف الرسمي، بما يعكس فجوة تسعير الجنيه بين بورصتي لندن ومصر.
من المفترض أن يعادل سعر سهم البنك في مصر نفس تداول سعر شهادة الإيداع في لندن عند تحويله بمتوسط سعر الصرف الرسمي 30.94 جنيه، لكن فجوة السعر توضح تفضيل المستثمرين الاحتفاظ بسعر السهم بالدولار وبقيمة أقل من المتداولة في مصر بسبب ضغوط نقص العملة الأجنبية.
كانت مصر عملت مؤخراً على بيع بعض أصولها إلى مستثمرين بهدف توفير سيولة دولارية، ونجحت في جمع ما يصل إلى 2.5 مليار دولار، وهي تأمل في جمع مليار دولار أخرى من بيع أصول إضافية خلال الفترة المقبلة.
3 أسعار لدى البنوك
يُرجع حسن الصادي، أستاذ اقتصادات التمويل في جامعة القاهرة، ظهور أكثر من سعر للدولار فى مصر إلى وجود "عشوائية بالسوق ومشاكل هيكلية"، شارحاً: "البنوك نفسها لديها 3 أسعار للدولار الواحد، الأول بسعر الصرف المعلن عند مستويات 30.80 جنيه وهو نادر التوفير، وآخر بسعر يزيد 10% عن السعر الرسمي بحساب عمولة التدبير على العملات الأجنبية باستخدام بطاقات الائتمان فى المعاملات الدولية وخارج مصر، فضلاً عن سعر ثالث فى العقود المستقبلية غير قابلة للتسليم التي تطبقها بعض البنوك".
توفر البنوك في مصر عقوداً محلية للجنيه غير قابلة للتسليم المعروفة بـNDF للتحوط ضد المخاطر التي تتعرض لها العملة المحلية.
ويرى الصادي أن التحرير المرتقب لسعر الصرف "لن يحل الأزمة ويوحد السعر داخل السوق، فالحل الوحيد هو العمل على توفير العملات الأجنبية لسد الفجوة التمويلية، وتقليل النفقات ذات المكوّن الدولاري".
بنظر تاجر في محافظة الجيزة، فإن ارتفاع سعر الدولار القياسي يعود إلى الارتفاع المتزايد فى الطلب على العملة الخضراء فى مقابل ندرة المعروض، وإلى "تهافت الأفراد مع تكهنات قرب تحرير سعر الصرف، بما يرفع السعر لمستويات قياسية، خاصةً وأن كثير من المسافرين والتجار متوسطي وصغار الحجم يدبرون العملة لأغراض تجارتهم في السوق السوداء أيضاً".
من الأفراد إلى الحكومة
هاني جنينة، كبير الاقتصاديين في "كايرو كابيتال"، يعتبر أن "تسعيرة الدولار في الذهب تعكس إلى حد كبير تهافت الأفراد على التحوط من التضخم، فهناك الكثير من الأشخاص لديهم حذر من التعامل مع السوق السوداء خوفاً من المساءلة القانونية، فيلجؤون إلى شراء الذهب نظراً لأمان التعامل فيه، فيستغل تاجر الذهب تلك الفئة ويضع هامش ربح نظير هذا الأمان".
أما بالنسبة للشركات؛ "فلديها قدرة أكبر على جمع الدولار من السوق بأسعار مختلفة، لذلك نجد سعر السوق السوداء "أحن شوية" من تسعيرة الذهب بالدولار"، بحسب جنينة.
وفيما يخص شهادات إيداع (GDR) بنك CIB، فيشير إلى أن هذه الآلية تستخدم بشكلٍ أساسي من قِبل الشركات العالمية التي تريد تحويل أرباحها من العملات المحلية إلى دولار للخارج، وأيضاً من شركات مصرية ترغب في تحويل دولار للخارج من أجل مدفوعات أو ديون أو لغرض الاستيراد، ولا تستطيع فعل هذا بواسطة البنوك، فتلجأ إلى سوق شهادات الإيداع.. وهذه العمليات تتضمن عمولات وسمسرة، ما يجعل الدولار في سوق الـGDR أعلى من السوق الموازية.
ويلفت جنينة إلى دور القطاع الحكومي أيضاً؛ حيث "هناك معلومات متضاربة حول مدى اعتماد الحكومة على السوق السوداء، ولا استطيع التعليق عليها بالتأكيد أو النفي، بعض الناس يؤكدون وآخرون ينفون، وإن كنت أظن أن هناك بعض التعاملات للحكومة في السوق السوداء من أجل استيراد سلع أساسية، لاسيما أن السوق السوداء تحتوي على كمية كبيرة من الدولارات كتحويلات المصريين في الخارج التي قد تدخل عن طريق مصادر غير مسجلة".