بلومبرغ
تشير إحدى نقاط البيانات الأشد إثارة للجدل في سوق النفط خلال الأعوام الأخيرة وهي مقياس كمية استهلاك الأميركيين للبنزين إلى انهيار الطلب، ما يثير قلق التجار عبر كافة أنحاء العالم.
انخفض مقياس السوق الأكثر متابعة لاستهلاك الوقود في الولايات المتحدة الأميركية الأربعاء الماضي لأدنى مستوياته بذلك التوقيت من السنة منذ ربع قرن. منذ ذروة الصيف، يكشف المؤشر عن هبوط بمقدار مليون برميل يومياً. انخفضت العقود المستقبلية المتداولة في بورصة نيويورك، المعيار العالمي، بنسبة 6.9%، ما يعد واحداً من عدة عوامل محفزة لأكبر تراجع للنفط في يوم واحد خلال سنة في ذلك اليوم.
تؤثر مجريات سوق البنزين في الولايات المتحدة الأميركية بطريقة تتجاوز بشدة الوقود نفسه. يشكل طلب البلاد على الوقود واحداً من كل 11 برميلاً من النفط المستهلك على مستوى العالم، ما يجعله محورياً لحالة الطلب العالمي. قد تؤثر أيضاً على معدلات التضخم، ما يساعد على بلورة النمو الاقتصادي.
الاستهلاك
بينما يحتج مراقبون على غرار مصرف "غولدمان ساكس" بأن البيانات ضخمت من ضعف الطلب، فإن تراجع الاستهلاك، المستمر منذ أسابيع، يدل ذلك على انخفاض أكبر من المعتاد في نهاية موسم القيادة الصيفي في الولايات المتحدة الأميركية. يعزى جزء من الضعف إلى الأسعار في محطات الوقود باهظة الثمن، والتي جاءت في أعقاب صعود النفط لمستويات قياسية موسمية، وهو ارتفاع يقول محللو مصرف "جيه بي مورغان تشيس أند كو" إنها قوضت الطلب.
تشكل أي خسارة في الطلب مشكلة محتملة لأن المصافي ينبغي أن تصنع الوقود بصفة أساسية حتى لو لم يكن لها رغبة في ذلك. تعتمد تغذية المحطات الأوروبية بصورة متنامية على نوع من الخام الأخف التي غالباً ما يُنتج في الولايات المتحدة الأميركية، والتي تنزع لضخ كميات أكبر من البنزين من الأنواع التي تنتجها دول على غرار المملكة العربية السعودية أو روسيا. وبما أن البنزين لا ينُتج بمعزل عن المواد الآخرى، فإن مصافي التكرير الراغبة في الاستفادة من أسعار الديزل العالية بشدة لا يمكنها الابتعاد عن تصنيع البنزين أيضاً.
وقال مارك ويليامز، محلل "وود ماكنزي" (Wood Mackenzie) الخبير المتخصص في أسواق الوقود والتكرير: "بات البنزين منتجاً ثانوياً فائضاً بالنسبة لمصافي التكرير" في الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، مع سعيها إلى تحقيق أرباح قوية من تصنيع الديزل ووقود الطائرات.
ويرجّح ويليامز تلاشي النمو السنوي للطلب على البنزين في بلدان منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية الأورويية مع حلول هذا الربع "إذ يضعف ارتفاع أسعار محطات الطاقة من السفر لأغراض غير ضرورية وندخل لشهور الشتاء الأشد قتامة".
المخزون الأميركي
تجاوزت مخزونات البنزين الأميركي المستويات الطبيعية الموسمية للمرة الأولى خلال 2023، بينما زاد مخزون سنغافورة من الوقود ومنتجات النفط الخفيفة الأخرى فوق متوسط مستويات أكتوبر. على صعيد أوروبا، ساعد نقص وسائل التصدير في دفع المخزونات في مستودعات مستقلة بمركز التجارة في أمستردام وروتردام وأنتويرب لرقم قياسي لهذا التوقيت من السنة (عدا 2020) أول أعوام تفشي وباء كوفيد؛ وفق بيانات تعود لـ2008.
كان التراجع الظاهر لاستهلاك البنزين أحد القوى الهبوطية العديدة التي برزت مطلع الأسبوع الماضي. سادت حالة أوسع نطاقاً من العزوف عن المخاطر إثر قلق أيضاً بشأن التأثير الاقتصادي لاحتمال زيادة أسعار الفائدة على المدى الطويل ما خفض أسعار النفط.
وأثارت البيانات الأميركية، التي تقيس كمية البنزين المنقولة من المصادر الأساسية إلى سوق الجملة، استياء التجار قبل سنة بعد أن ألقت المراجعات والتغييرات الواسعة النطاق في منهجية القياس بظلال من الشكوك حول دقتها.
الصادرات المفرطة في التقديرات أو الواردات المقدرة بأقل من حجمها يمكنها تشويه الأرقام؛ ولكن رغم ذلك يراقبها تجار البنزين والنفط بطريقة موثوقة.
هبوط الأرباح
خلال غالبية السنة الجارية، جنت مصافي النفط أرباحاً ضخمة من كل من البنزين والديزل، وهما المنتجان الأساسيان في القطاع.
وفي الوقت الراهن، يمكن أن يساعد الديزل الذي ما يزال مرتفع السعر المصافي على تعويض تراجع هوامش البنزين، أو الأرباح حسبما يقول التجار. أوضح جون أويرز، المدير العام لوحدة تحليلات الوقود المكرر في شركة "آر بي إن إنرجي" (RBN Energy)، أنه لزيادة كميات الديزل وتخفيض البنزين، يمكنهم ضبط نقاط الفصل في عملية التقطير، وبإمكانهم تحويل الإمداد من البنزين إلى وحدات التقطير، ومحاولة معالجة الخام الأثقل.
رغم ذلك، يوجد حد أقصى لمدى قدرة القطاع على فعل ذلك، ومدى اعتمادها على الديزل، والذي هبط على العموم بعد ارتفاع ضخم خلال موسم الصيف.
صعدت أرباح قطاع الديزل خلال الشهور الأخيرة، بفضل قيود الإمدادات بصفة أساسية بما فيها هبوط عائدات المصافي وأعطال محطات المعالجة. وفي حين تلاشت هذه الارتفاعات الكبيرة منذ ذلك الوقت، ما تزال هوامش الأرباح أعلى كثيراً من المستويات الطبيعية الموسمية عبر أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وآسيا.
تراجع أكبر
أشار يوجين ليندل، رئيس المنتجات المكررة في شركة استشارات القطاع "إف جي إي"، إلى أن التوقعات المستقبلية للمصافي آخذة في التدهور مع انهيار أرباح البنزين وتراجع هوامش أرباح الديزل بوتيرة بطيئة. وأضاف أن هوامش الأرباح الآسيوية لمصافي التكرير المعقدة -تحديداً وحدات تكسير متبقيات السوائل المحفزة- تحولت إلى السالب بوقت مبكر من الشهر الحالي، مع مزيد من التراجعات ستعيق غالباً استهلاك الخام.
لكن في نهاية المطاف، نظراً لأن المملكة العربية السعودية وروسيا ودول أخرى في تحالف "أوبك+" قد قلصت إمدادات الخام الغني بالديزل، فمن غير المنتظر أن تخفض المصافي عملياتها التشغيلية بطريقة كبيرة لأنها تواجه صعوبة في مواكبة إنتاجها لاحتياجات المستهلكين.
يتعرض البنزين أيضاً لظروف غير مواتية جراء زيادة الإنتاج في الشرق الأوسط، وانهيار الطلب في نيجيريا بعد إزالة الدعم، والتراجع المتوقع في احتياجات واردات البرازيل مع دمج الإيثانول في الوقود بقدر أكبر، بحسب إينيس جونكالفيس، كبيرة محللي النفط في شركة "كبلر" والتي أضافت: "حتى يبدأ السوق في الاستعداد لموسم القيادة الصيفي في الولايات المتحدة الأميركية العام السنة، سيكون هناك قليل من الدعم لهوامش الأرباح في أوروبا".