بلومبرغ
ساعدت جهود روسيا منذ عدة سنوات لإزالة سيطرة الدولار على اقتصادها وأسواقها المالية حتى الآن في تخفيف تأثير العقوبات التي فرضتها عليها الولايات المتحدة وحلفاؤها، حتى في الوقت الذي يطرحون فيه إجراءات أكثر صرامة يمكن أن تختبر مدى الانفصال الحقيقي عن الدولار.
خفّضت روسيا احتياطياتها من الدولار إلى 16% فقط من مخزون البنك المركزي في عام 2021، أي أقل بأكثر من 40% قبل أربع سنوات فقط.
ويعني هذا خفضاً كبيراً لما تمتلكه من سندات الخزانة الأمريكية، إذ جري تقليص الملكية بنسبة 98% تقريباً مقارنة بالذروة في عام 2010، وإزالة الأصول الدولارية من صندوق الثروة السيادي.
ستساعد هذه الإجراءات الآن في حماية روسيا من بعض أسوأ تداعيات التصعيد الناتجة عن العقوبات الأمريكية والأوروبية بعد أن بدأ الرئيس فلاديمير بوتين غزواً واسع النطاق لأوكرانيا.
تقليص التعاملات بالدولار
في حين أن العقوبات حتى الآن تمنع الدولة من الاستفادة من المستثمرين الدوليين، فضلاً عن حظر الولايات المتحدة للمشتريات الجديدة في السوق الثانوية اعتباراً من مارس، فإنّ الجهود المبذولة لجعل روسيا أقل اعتماداً على الدولار قد تخفف تأثير العقوبات وقد تُكسِب بوتين الوقت لتحمل عقوبات أكثر صرامة لفترة من الوقت على الاقل.
قد تتمثل العقوبات الإضافية في عزل روسيا عن نظام "سويفت" للمدفوعات، وهي منصة مراسلة متكاملة للطلبات والمدفوعات الدولية، وهي عقوبة أكثر تكلفة بكثير وتؤدي إلى رد فعل أكثر شدة في الأسواق العالمية، لكن هذه الخيارات مثيرة للانقسام.
فقد ورد أن رئيس وزراء المملكة المتحدة بوريس جونسون يضغط من أجل طرد روسيا من هذا النظام، لكن الرئيس الأمريكي جو بايدن استبعد مثل هذا الإجراء يوم الخميس.
قال إحسان خومان، رئيس أبحاث الأسواق الناشئة لأوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا في مجموعة "ميتسوبيشي يو إف جي المالية اليابانية" في دبي: "لقد اتخذت روسيا خطوات كبيرة للتنويع بعيداً عن الدولار، مما أدى إلى درجة من المرونة، على الرغم من أن العقوبات الاقتصادية الشاملة تؤدي إلى تقلبات مؤثرة في السوق ولا ينبغي التغاضي عن الركود".
بطبيعة الحال يستحيل أن تتخلى روسيا عن الدولار تماماً، فالصادرات الأساسية للبلاد هي النفط والمنتجات البترولية والغاز الطبيعي ويجري تداولها جميعاً تقليدياً في الأسواق العالمية بالدولار.
ومع ذلك، يجري تداول بعض عقود صادرات النفط الروسية باليورو حالياً، وبالتزامن مع الهجوم على أوكرانيا الذي دفع سعر النفط الخام المرتفع بالفعل إلى ما يزيد على 100 دولار للبرميل، فقد تكون روسيا أقل حاجة للوصول إلى الأسواق المالية الأجنبية على أي حال، وفقاً لما قاله باريش أوباديايا، مدير استراتيجية العملة في شركة "أموندي أسيت مانجمنت".
أضاف أوباديايا: "لا يحتاج الروس حقاً إلى إصدار سندات، إذ لا توجد فرصة لحدوث أزمة في ميزان المدفوعات في حال إدماج احتياطاتهم من العملات الأجنبية مع صندوق الرفاهية الوطني الخاص بهم".
يقدّر بنك روسيا أن فائض الحساب الجاري للبلاد في يناير بلغ مستوى قياسياً مسجلاً 19 مليار دولار، بعد أن تضاعف عن نفس الفترة في عام 2021.
ويشرف صندوق الرفاهية الوطني، وهو صندوق ثروة سيادي ممول بالنفط ويشكل جزءاً من احتياطيات روسيا، على أكثر من 170 مليار دولار. ولم يمتلك أي دولارات منذ يونيو 2021.
تجربة سابقة
ما يجري حالياً هو أبعد ما يكون عن التجربة الأولى لروسيا مع العقوبات التي فرضتها الاقتصادات الكبرى الأخرى بعد ضم شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في عام 2014، إذ جرى تعليق عضوية روسيا في مجموعة الدول الثماني الكبرى، كما فُرضت عقوبات على بعض المواطنين والشركات الروسية.
شجّع ذلك صانعي السياسة الروس على تحويل الاقتصاد بعيداً عن الاعتماد الشديد على الدولار، بما في ذلك التحركات لتسوية مزيد من المعاملات الدولية بعملات أخرى.
وفي عام 2020 تفوّق اليورو على الدولار كعملة أساسية لتسعير الصادرات الروسية إلى الصين، التي أصبحت أحد الشركاء التجاريين الرئيسيين للبلاد.
وفي هذا الشهر فقط قالت شركة "غازبروم" المنتجة للغاز والمملوكة للدولة إنها لن تقبل سوى اليوان الصيني لتزويد الطائرات الروسية بالوقود في المطارات الصينية.
انخفضت حصة الدولار من عائدات الصادرات الروسية من 69% في عام 2016 إلى 56% خلال النصف الأول من عام 2021، فيما تضاعف اليورو إلى 28%، وفقاً لدراسة أجرتها آنا زادورنوفا، الخبيرة الاقتصادية في بنك "يو بي إس غروب".
"سويفت"
على الرغم من عدم اعتماد اقتصاد روسيا على الدولار، فإنه لا تزال طرق معاقبة أخرى مفتوحة أمام الولايات المتحدة وغيرها. فقد يؤدي تقييد وصول روسيا إلى نظام "سويفت"، الذي يتعامل مع المدفوعات بعملات مختلفة، إلى حدوث أزمة كبيرة.
فعلى الرغم من امتلاك بنك روسيا نظام مراسلة يمكن استخدامه بديلاً محتملاً لنظام "سويفت"، فإنه قيد الاستخدام المحدود حالياً.
فعندما جرى التهديد بإمكانية حظر وصول روسيا إلى نظام "سويفت" في عام 2014، قدّر أليكسي كودرين، وزير المالية السابق المقرب من بوتين، أنه يمكن أن يقلل الناتج المحلي الإجمالي لروسيا بنسبة 5% في عام واحد.
قال مانيك نارين، رئيس استراتيجية الأسواق الناشئة متعددة الأصول في بنك "يو بي إس"، قبل فرض العقوبات الأمريكية الأخيرة: "لا يزال هناك خطر استبعاد روسيا من نظام (سويفت). فبينما كانت روسيا تعمل على الحد من ضعفها حيال ذلك الأمر، فإنها لا تزال تمثل صدمة اقتصادية سلبية كبيرة".
امتنع بايدن عن الإعلان عن فرض قيود على وصول روسيا إلى نظام "سويفت" خلال خطابه يوم الخميس، لكنه أكد أن مثل هذه الخطوة هي خيار مطروح.
وبدلاً من ذلك، وعد الرئيس الأمريكي بفرض "تكلفة باهظة على الاقتصاد الروسي"، كما كشف النقاب عن قائمة جديدة من العقوبات من شأنها أن تحدّ من قدرة روسيا على القيام بأعمال تجارية باستخدام الدولار واليورو والجنيه الإسترليني والين.
عقوبات مؤثرة في روسيا
قال كلاي لوري، نائب الرئيس التنفيذي لمعهد التمويل الدولي، إنّ العقوبات التي فُرضت على روسيا سيكون لها تأثير "كبير" في النظام المصرفي والاقتصاد في روسيا.
وأضاف أنه سيكون من الأصعب على النظام المصرفي الروسي القيام بأعمال تجارية حالياً في ظل محدودية الوصول إلى التمويل الأجنبي.
قد تصبح شركات النفط الكبرى أيضاً أهدافاً للعقوبات، مما يجعل من الصعب إجراء المعاملات.ومع ذلك يرى المستثمرون أن روسيا قادرة على مواجهة العقوبات دون اتخاذ خطوات أكثر تشدداً.
قال سايمون هارفي، رئيس تحليل العملات الأجنبية في "مونيكس يوروب": "لقد عزلت روسيا نفسها عن الأسواق العالمية، إذ إنها تعلمت عديداً من الدروس خلال السنوات العشر الماضية ووضعت نفسها لمواجهة هذا الاحتمال".
وأضاف: "لكن يوجد خطر يتمثل في أن العقوبات الحالية يجب أن تكون على نطاق أوسع بكثير للتأثير في الاقتصاد. وأعتقد أن هذا هو السبب في أن ترى رد فعل السوق حالياً".