من يحذو حذو وريثة خولت 50 غريباً ليقرروا كيف تنفق ملايينها؟

جمعيات المواطنين نموذج لاتخاذ القرارات يعود إلى زمن الإغريق القدامى عاد ليكتسب شعبية

time reading iconدقائق القراءة - 8
مارلين إنجلهورن، سليلة مؤسس شركة \"بي إيه إس إف\" الألمانية العملاقة في مجال الكيماويات في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، سويسرا في 15 يناير 2024 - المصدر: بلومبرغ
مارلين إنجلهورن، سليلة مؤسس شركة "بي إيه إس إف" الألمانية العملاقة في مجال الكيماويات في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، سويسرا في 15 يناير 2024 - المصدر: بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

تعتزم النمساوية الشابة مارلينيه إنغلهورن، وهي وريثة شركة بتروكيماويات، توزيع 25 مليون يورو (27 مليون دولار) من ميراثها على 77 منظمة ناشطة في مجالات الإسكان الميسّر ومكافحة الثغرات الضريبية التي يستغلها الأثرياء وكذلك تغير المناخ، وقد اختارت هذه المنظمات بناء على نصائح تلقتها من 50 شخصاً لا يربطها بهم سابق معرفة.

لقد أنشأت إنغلهورن "جمعية مواطنين"، وهو نموذج غير مألوف في مجال الأعمال الخيرية لكنه ليس جديداً ولا يقتصر على المجال الخيري. إذ تعود بدايات جمعيات المواطنين إلى زمن الإغريق القدماء، وتنطلق من الاعتقاد أن الطريقة الأكثر ديمقراطية لاتخاذ القرارات هي طرحها على مجموعة من أناس يُختارون عشوائياً ويمثّلون الشعب المتأثر بهذه القرارات، وتثقيفهم حول المسألة المطروحة، ثم يُطلب منهم أن يصوتوا عليها، على عكس واقع الحال في الجمعيات المنتخبة.

صيغة جديدة للأعمال الخيرية

أعيد إحياء هذا النموذج عام 2004 في بريتيش كولومبيا في كندا حين جمعت الحكومة 161 مواطناً ليتخذوا قرارات تتعلق بالإصلاح الانتخابي، وقد استُنسخ من بعدها عدّة مرات حول العالم، ومن ذلك إيرلندا، حيث اعتُمدت جمعيات المواطنين لاتخاذ قرارات بشأن مسائل مثل الزواج غير التقليدي والإجهاض. (عدّلت إيرلندا قوانينها في نهاية المطاف انسجاماً مع توصية الجمعيات بتشريع الأمرين). وقد أنشأت مؤسسة "ديموكراسي نيكست" (DemocracyNext) غير الربحية مشاريع لإقامة جمعيات للمواطنين لتعزيز ديمقراطية صنع القرار في بعض المتاحف في ألمانيا وفي الشراكات بين القطاعين العام والخاص في وسط أوريغون.

تمسكت الأعمال الخيرية بالمفهوم الأميركي بصيغة جامدة نسبياً طوال الحقبة الحديثة، وهي تقوم على تخصيص أحد كبار الأغنياء جزءاً من ثروته لصالح مؤسسة تحمل اسمه عادةً ويقرر كيفية توزيع الأموال والمكان الذي ستتجه إليه. هذا الاختلال في موازين القوى هو ما أثار انزعاج إنغلهورن. وقالت: "لا يجب أخذ المؤسسات الخيرية على محمل الجد إلا حين تأخذ في عين الاعتبار تهميشها".

ليست إنغلهورن وحدها التي تعيد النظر في أسلوب العطاء واسع النطاق. فقد عُرف عن ماكنزي سكوت، طليقة مؤسس "أمازون" جيف بيزوس، تبرعات سريعة دون تقييد تبرعاتها بكثير من الشروط، حيث وضعت ثقتها بالمنظمات الخيرية لتقرر أين تؤول الأموال. 

كما بدأت ميليندا فرينش غيتس التي انفصلت في يونيو عن "مؤسسة غيتس" العملاقة والبيروقراطية في يونيو، تنظر في أساليب عطاء جديدة بعد أن منحت 20 مليون دولار لعدد من الخبراء ليوزعوها مباشرة في مجالاتهم.

قالت إنغلهورن في مقابلة إنها استوحت هذا النهج من كتاب (Open Democracy: Reinventing Popular Rule for the Twenty-First Century) للعالمة السياسية في جامعة ييل هيلين لانديمور وقد صدر في 2020. وقد علقت لانديمور على جمعية "المشورة الجيدة" (Guter Rat) التي أسستها إنغلهورن بالقول إنها لم تر شبيهاً لها من قبل. وبعد الإعلان عن الجمعية، اتصلت مجموعة "تيلوس" (Telos Group) الاستشارية في مجال الاستثمار المؤثّر والمشاريع الخيرية في أوروبا مع لانديمور لتسأل عن كيفية الاستفادة من جمعيات المواطنين في أنشطتها.

تطيبق التجربة على المستثمرين

اليوم، تدرس لانديمور إلى جانب باحثين من جامعة "هارفرد" وكلية "بوث" للأعمال في جامعة شيكاغو سبل استخدام مثل هذه الجمعيات على مستوى المستثمرين أيضاً. وذلك على اعتبار أن الصيغة الحالية القائمة على اجتماعات المساهمين ومجالس الإدارة غير مجدية كفاية في ترجمة رغبات المساهمين إلى أفعال تنفذها الشركات على أرض الواقع. قالت لانديمور: "لا نعرف كيف نمنح المستثمرين صوتاً بالطريقة المناسبة... ثمّة طلب من المستثمرين بأن تحدّ (الشركات) من تركيزها البالغ على الربح، لكنه لا يلقى آذاناً صاغية".

قال الخبير الاقتصادي في "هارفرد" أوليفر هارت وأستاذ التمويل في شيكاغو لويجي زينغاليس إن الشركات تتصرف بطرق شتى تمكنها من تحقيق غاياتها، ولكن ذلك لا يصبّ لصالح المجتمع أو حتى معظم المساهمين أنفسهم.

أعطى هارت مثالاً على تلك الضغوط التي تمارسها شركة "إكسون موبيل" (Exxon Mobil) ضد تبني قوانين مكافحة التغير المناخي، فإذا نجح المستثمرون في إقناع الشركة بالتراجع، "قد ينخفض سعر سهم (إكسون) وبالتالي تقل مكاسبهم... ولكن ذلك سيمكنهم من العيش في عالم أفضل".

يرى هارت وزينغاليس أن أي شخص لديه حساب تقاعد أو استثمار في صناديق المؤشرات لدى مجموعة "فانغارد" (Vanguard) أو "فيدلتي إنفستمنت" (Fidelity Investments) هو مساهم في هاتين الشركتين، ولو بشكل بسيط. لكن تراكمياً، فإن "فانغارد" و"فيدلتي" وشبيهاتهما هم من أكبر المساهمين في الشركات المدرجة على مؤشر "إس آند بي 500". إذاً كيف تحرص على إيصال أصوات مستثمريها؟

رأسمالية ديمقراطية

قدم الأستاذان اقتراحاً إلى شركة خدمات تقاعد لا يرغبان في الإفصاح عن اسمها حالياً من أجل إنشاء جمعية للمستثمرين. وقد اقترحوا أن تختار عشوائياً 150 شخصاً تزوّد كلاً منهم بحزمة من المعلومات حول المواضيع المعروضة للنقاش، ويخضعون إلى كثير من الندوات التثقيفية عبر الإنترنت.

بعد فترة تشارك المعلومات، يلتقون معاً في عطلة نهاية أسبوع، وينقسموا إلى مجموعات يرشدها ميسّرو نقاش لبحث المسائل المطروحة. في نهاية المطاف، يحدد الممثلون المختارون الإرشادات التي يجب على الصندوق أن يتبعها. بحسب تقديرات زينغاليس، فإن تكلفة تنفيذ مثل هذا المشروع بالشكل الملائم تبلغ نحو مليون دولار، ولكن ما هذا المبلغ إلا نقطة في بحر موارد شركة مثل "فانغارد".

في نهاية المطاف، ما تصبو إليه كلّ هذه الجهود هو إضفاء طابع ديمقراطي على الرأسمالية. وقال زينغاليس: "لو كنت تي. بون بيكنز، وأملك حصة 5% وتوجهت إلى مجلس الإدارة، فإن المجلس سيعيرني الانتباه"، في إشارة إلى قطب النفط الراحل. وأضاف: "إذا أنا (فانغارد) وأنا أمثّل 25% من أسهمك ويقول المستثمرون لديّ بأن عليك القيام بهذا وذلك، فلماذا نُعامل بطريقة مختلفة عن تي. بون بيكنز؟".

بالطبع، العملية الديمقراطية ليست ضمانة للنتائج الأخلاقية، وتأكيداً على ذلك، يكفي النظر إلى الدول التي تجري فيها انتخابات في ظلّ أنظمة استبدادية. إلى ذلك، نشأت معارضة سياسية في السنوات الماضية ضد شركات إدارة الاستثمارات التي تنظر في العوامل البيئية والاجتماعية. ولكن إنغلهورن، الوريثة التي تقول إنها تخلت عن جزء كبير من ثروتها، ترى أن اتباع نهج جديد في صنع القرار أمر يستحق العناء.

تصنيفات

قصص قد تهمك