بلومبرغ
يحاول المصرفي الاستثماري الذي ساهم بفتح باب ثروات الشرق الأوسط أمام "صندوق رؤية" البالغ حجمه 100 مليار دولار، القيام بمحاولته الثانية لجذب مليارات المنطقة.. لكن هذه المرة منفرداً.
ساهم راجيف ساندار، المولود في الهند، بحصول صندوق الاستثمار في التكنولووجيا التابع لمجموعة "سوفت بنك" برئاسة ماسايوشي سون، على تعهدات بقيمة 45 مليار دولار من "صندوق الاستثمارات العامة" السعودي و15 مليار دولار من شركة "مبادلة للاستثمار" في أبوظبي.
تلا ذلك استثمار الصندوق في شركات ناشئة ناجحة، من ضمنها "أوبر تكنولوجيز" (Uber Technologies) و"وي ورك" (WeWork). لكن تراجع أسهم هذه الشركات أدّى إلى ابتعاد ميسرا عن نشاط الصندوق في 2022، بعد فترة شابتها اشتباكات داخلية وانخفاض في قيمة الاستثمارات.
هذه الكبوة لم تردع ميسرا، فهو يحاول العودة الآن، لكن هذه المرة عبر صندوق ائتمان، معتمداً على نفس الجهات في الشرق الأوسط لجمع الأموال. إنها مقامرة تتسم بالجرأة التي أظهرها هو وسون في المرة السابقة، لكن ميسرا يؤكد أنه مصمم على القيام بعمل أفضل بعد مشاهدة الأخطاء الاستثمارية التي ارتُكبت في أعقاب تدافع "سوفت بنك" لتوظيف الأشخاص.
قال ميسرا، البالغ من العمر 62 عاماً، في مقابلة مع بلومبرغ نيوز: "لقد تعلمت الدرس". وجذب المصرفي الاستثماري حتى الآن 6.8 مليار دولار من الداعمين لصندوقه "ون إنفستمنت مانجمنت" (One Investment Management)، بما في ذلك "مبادلة" و"رويال غروب" المملوكة للشيخ طحنون بن زايد آل نهيان، وهو يسعى لزيادة حجم الصندوق إلى أكثر من 10 مليارات دولار، آملاً بإقناع السعودية بالاستثمار فيه.
وفي حين يتعهد ميسرا باستخدام أموال العملاء بقدرٍ من الحذر، إلاّ أن هذا المسعى تصاحبه مجموعة من المخاطر المرتبط بعضها فيه شخصياً، بالنظر إلى تاريخه السابق مع إدارة أموال الشرق الأوسط. كما أن الاقتصاد العالمي الذي تعصف به اضطرابات جيوسياسية قد يعكس ظروفه المعاكسة على الأسواق المالية. يُضاف إلى ذلك أن سخاء المنطقة في ضخ الأموال له حدود، باعتراف ميسرا نفسه، حيث يؤكد أن هذه السخاء "ليس بئراً لا قاع له، فإذا خسرت الأموال، يتم إغلاق البئر".
جواز السفر الإماراتي
بغض النظر عن نجاح ميسرا أو فشل مسعاه، فلا يمكن إنكار فرادته بكونه من خارج المنطقة ومؤتمن على المليارات من أموال صناديقها، ما يعكس قدرته على المناورة والحفاظ على علاقات وثيقة رغم عثرات "صندوق رؤية". كما أنه يبرز كأحد المستثمرين القلائل الذين تجاوزوا التنافس الاقتصادي بين الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، واستطاعوا جذب الأموال من كلا الجانبين.
أوضح مؤشر على علاقة ميسرا بالعائلة الحاكمة في أبوظبي هو حصوله على جواز سفره الإماراتي، الذي يمثل أحد أقوى وثائق السفر في العالم ولا يتم منحه سوى لمجموعة مختارة للغاية من الأجانب. ويتردد المصرفي المخضرم على المنطقة 6 مرات في السنة على الأقل، حيث يقيم في فندق "فور سيزونز" الفخم في أبوظبي، و"ريتز كارلتون" في الرياض، الفندق الذي شهد حملة ولي العهد السعودي لمكافحة الفساد في 2017.
يُعتبر الشرق الأوسط، الذي يحتضن صناديق ثروة سيادية تسيطر على أصول بقيمة 4 تريليونات دولار، محط اهتمام ميسرا. لاسيما أن 5 من أصل أكثر 10 صناديق نشاطاً عام 2023 كانت من الخليج، وفي مقدمتها صندوق الاستثمارات العامة السعودي الذي أنفق لوحده 31.6 مليار دولار.
خلال السنوات العجاف لأداء "صندوق رؤية"، ظلّ ميسرا على اتصال مع مستثمريه في الشرق الأوسط، حيث كان يطلعهم على أوضاع استثماراتهم، ما ساعده، إلى جانب جهوده لتعظيم عوائدهم، على الاحتفاظ بثقتهم حتى عندما تدهورت العديد من أسهم الشركات التي يراهن عليها "صندوق رؤية".
صندوق رؤية
تمّ الكشف عن "صندوق رؤية" بعد فترة وجيزة من انسحاب سون، المؤسس والرئيس التنفيذي لـ"سوفت بنك"،ممّا كان في ذلك الحين أكبر رهاناته الاستثمارية والمتمثل بصفقة الاستحواذ على شركة "آرم هولدينغز" (ARM Holdings) المتخصصة في صناعة الرقائق مقابل 32 مليار دولار.
يكشف ميسرا أن ماسايوشي سون أخبره أن "الثورة التالية قادمة، وهي الذكاء الاصطناعي، علينا الاستثمار في هذا المجال بسرعة، ونحن بحاجة لجمع الأموال". كان ذلك منتصف عام 2016، قبل أشهر فقط من إطلاق "صندوق رؤية".
تعود علاقة المصرفي الاستثماري الهندي الأصل مع الرئيس التنفيذي الياباني إلى أوائل العقد الأول من القرن الحالي، حين ساعد ميسرا خلال عمله في في "دويتشه بنك" المستثمر الجريء سون لتمويل أكبر عملية استحواذ مدعومة بالرافعة المالية في آسيا بذلك الوقت، وهي صفقة الاستحواذ على أعمال الاتصالات اللاسلكية لمجموعة "فودافون" في اليابان عام 2006. وفي "سوفت بنك"، كان ميسرا مهندس حزمة القروض التي ساعدت "سبرينت"، شركة الاتصالات الأميركية التي استحوذ عليها سون في 2012، على تجنب الإفلاس.
أكسبت هذه الصفقات ميسرا ثقة سون، ما دفع الأول إلى أعلى المستويات في "سوفت بنك" ووضعه في قلب قصة "صندوق رؤية". ويفصح ميسرا: "قمنا معاً بإعداد عرض تقديمي صغير، وذهبنا إلى قطر وأبوظبي والمملكة العربية السعودية". مضيفاً: "لم يسبق لنا إدارة أي أموال، ولم يكن لدينا أي علاقات، وكان سون يريد جمع 100 مليار دولار".
تعهد صندوق الاستثمارات العامة بمبلغ 45 مليار دولار بعد اجتماع لمدة 45 دقيقة، حضره ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان ورتب اللقاء محافظ الصندوق ياسر الرميان. فيما تعهدت أبوظبي من جانبها بتمويل قدره 15 مليار دولار.
و"بعد ذلك سارعنا بتوظيف الكفاءات"، بحسب ميسرا. وأدّت القرارات الاستثمارية في وقتٍ لاحق إلى خسارة "صندوق رؤية الأول" خلال السنة المالية المنتهية في مارس 2023 إلى تسجيل خسائر غير محققة تناهز 16 مليار دولار.
وأعاد الصندوق حتى الآن حوالي 70% من الأموال التي تمّ جمعها إلى المستثمرين، بمضاعف 1.2 مرة قيمة رأس المال عند ضخّه، وفق تقييم متحفظ بحسب بيانات مقدّمة من "سوفت بنك". في حين أن استثماراً مماثلاً في مؤشر "إس آند بي 500" كان يمكن أن يتضاعف مرتين خلال تلك الفترة.
ويؤكد ميسرا أنه ليس لديه أي دور نشط بالاستثمارات الجديدة في "صندوق رؤية"، رغم أنه لا يزال عضواً في لجنة الاستثمار، وشارك أيضاً بقرارات تعويضات الموظفين، وبضمان أقصى قدر من العوائد لشركاء الصندوق المحدودين، وأكبرهم "صندوق الاستثمارات العامة" و"مبادلة". معتبراً أن مهمته تلك كانت أفضل درس يمكن أن يحصل عليه في مجال الاستثمار.
وفي حين ينوّه بأنه لا يزال مقرّباً من سون، لكنه يعترف بأنهما التقيا مرتين فقط العام الماضي وكانا يتواصلان في الغالب عبر الهاتف.
مشروعه الجديد "OneIM"
يشير ميسرا إلى أن أحد أسباب قراره بمغادرة المجموعة اليابانية هو تجنب تضارب المصالح مع بدئه التخطيط لخطوته التالية. ويقوم مشروعه الجديد صندوق ون آي إم" (OneIM) على توزيع رأس المال عبر فئات الأصول المختلفة وسط الاضطرابات التي تجتاح الأسواق بكافة أنحاء العالم، مع التركيز على الائتمان، باعتباره مدير أصول يتجاوز الاستثمار في قطاع التكنولوجيا.
ولد ميسرا عام 1962 في مدينة جامشيدبور الهندية، نسبة إلى مؤسس مجموعة تاتا، حيث كان والده يعمل في ذلك الوقت. ودرس بمعهد التكنولوجيا في دلهي قبل أن ينتقل إلى جامعة بنسلفانيا، ومن ثم نال درجة الماجستير في إدارة الأعمال من "كلية سلون للإدارة" التابعة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، قبل أن يشرع في حياته المهنية متنقلاً من "ميريل لينش" و"دويتشه بنك" إلى "يو بي إس"، كما قضى فترة وجيزة في "فورتيس إنفستمنت غروب"، التي استحوذت عليها "سوفت بنك".
يقضي ميسرا بضعة أسابيع كل عام في فيلته مترامية الأطراف الواقعة على قطعة أرض مساحتها أربعة أفدنة قرب وسط نيودلهي، وهي المدينة التي اضطرت عائلته ذات يوم إلى استئجار غرفة واحدة على سطح أحد الأبنية فيها، فيما كانت تعاني من أزمة مالية بعد وفاة والده بشكل مفاجئ نتيجة سكتة قلبية.
بدأ ميسرا ببناء شبكة علاقاته في الشرق الأوسط عام 2013، بعدما رأى فرصةً في ثرواتها التي كانت بمثابة "كنز مخفي" للعديد من المستثمرين الدوليين. ولم يكن لمعظم الصناديق الخليجية حينها تواجداً كبيراً في الأسوق العالمية.
سرعان ما أدرك ميسرا أهمية اللقاء المباشر مع أصحاب القرار للحصول على التمويل، فبدأ القيام برحلات مكوكية إلى المنطقة. وبمرور الوقت، قام بتشكيل قائمة علاقات شخصية ضمت محافظ صندوق الاستثمارات العامة السعودي ياسر الرميان، والذي غالباً ما يُشاهد برفقته في "مبادرة مستقبل الاستثمار" التي تُعقد سنوياً في الرياض.
أمّا في أبوظبي، فيعمل ميسرا بشكل وثيق مع الدائرة المقربة من الشيخ طحنون، الذي يقود إمبراطورية تفوق أصولها 1.5 تريليون دولار. كما تشمل اتصالاته الرئيسية في العاصمة الإماراتية سيد بصر شعيب، الرئيس التنفيذي للشركة العالمية القابضة البالغة قيمتها السوقية 246 مليار دولار، وصوفيا لاسكي، المديرة التنفيذية البارزة والعضو في مجالس إدارة العديد من الشركات المحلية، وبنغ شياو، الرئيس التنفيذي لشركة "جي 42" (G42) التي تجسد توجه الشيخ طحنون نحو الذكاء الاصطناعي.
استراتيجية أكثر حذراً
في صندوقه الجديد، يتطلع ميسرا إلى تحقيق عوائد بنسبة 20%، معترفاً بأن أيام العوائد التي تصل إلى 30% على الصناديق ذات رؤوس الأموال الضخمة قد تكون ولّت. لكنه يعتقد أن الائتمان أمامه عام آخر من الفرص على الأقل، وقد يتطلع إلى الدخول في الأسهم الخاصة بعد ذلك، متعهداً بتحمل مخاطر أقل هذه المرة، بما يمثل خروجاً عن الماضي عندما ضخ "صندوق رؤية" مليارات الدولارات في مجموعة من الشركات الناشئة بتقييمات مرتفعة محدثاً هزةً في صناعة رأس المال الجريء.
"ون آي إم" يُعدُّ متواضعاً بهذه المعايير. فموقعه الإلكتروني الذي تمّ إنشاؤه مؤخراً لا يحتوي سوى على القليل من التفاصيل حول العمليات أو الاستثمارات. ويخطط ميسرا لإبقائه على هذا النحو، في حين أن فريقه الذي اختاره بعناية، والذي يضم 25 متخصصاً في مجال الاستثمار بقيادة مساعديه الموثوق بهما منذ فترة طويلة مونيش فارما وياني بيبيليس، وكلاهما عملا معه في "دويتشه بنك" و"صندوق رؤية"، يبحث عن الفرص في المقام الأول في الولايات المتحدة وأوروبا.
في العام الماضي، قدم "ون آي إم" قروضاً لشركة "وي ورك"، بحسب إيداعات الأوراق المالية المقدمة من شركة المكاتب المفلسة حديثاً. كما أنه يدعم أيضاً استحواذ شركة "أبولو غلوبال مانجمنت" (Apollo Global Management) على شركة "واغاماما" (Wagamama) المملوكة من "ذا ريتستورانت غروب" (The Restaurant Group)، حسبما أفادت "بلومبرغ نيوز" هذا الشهر.
وفيما يُعتبر خروجاً آخر عما وصفه بالنهج "الفوضوي" في عمله السابق، كشف ميسرا أن "ون آي إم" استثمر مليار دولار فقط من أصل 7 مليارات دولار جمعها حتى الآن. قائلاً إنه بمجرد إنشاء التحالفات والمنصات وفريق أكبر، سيكون نشر رأس المال بشكل أسرع أمراً سهلاً. وأضاف: "لا يمكنك إجباري على الاستثمار بشكل أسرع ما لم تكن الاحتمالات في صالحي".
وعندما سُئل عن مساره المهني وما قد يخبئه المستقبل، اقتبس ميسرا من أحد المنجمين الذي استشارته عائلته منذ عقود، وقال مبتسماً: "ستسير الأمور من حسن إلى أحسن".