بلومبرغ
اتجه أندريه ميلينشينكو، أحد أثرى رجالات روسيا إلى الإمارات العربية المتحدة بحثاً عن مأمن للشركات التي أنشأها جرّاء ضغوط العقوبات الأوروبية التي تستهدف مليارديرات بلاده.
تفتتح كلٌّ من شركة "سويك آند زوغ" (SUEK and Zug) للفحم ومقرها موسكو، وشركة "يوروكيم" (EuroChem) المصنّعة للأسمدة ومقرها سويسرا، اللتان يملكهما ميلينشينكو، وحدات تجارية محلية في الدولة الخليجية المُصدّرة للنفط، وفقاً لخمسة أشخاص على دراية بالموضوع. استقال ميلينشينكو، الذي بلغ عمره 50 عاماً، من مجلسي إدارة الشركتين قبل فرض عقوبات الاتحاد الأوروبي عليه، على خلفية علاقته المزعومة بالكرملين. وقالت السلطات السويسرية في مايو إنها رفعت تجميد حسابات شركة "يوروكيم" بعدما نقل ميلينشينكو ملكيتها إلى زوجته.
يقضي ميلينشينكو بالفعل مزيداً من وقته في دبي، وقد نقل يخته الشراعي الذي تقدر قيمته بنحو 300 مليون دولار إليها في ديسمبر، واحتفظ به هناك حتى مطلع مارس، وفقاً لبيانات تتبع "بلومبرغ". شوهد اليخت آخر مرة قبالة رأس الخيمة في الإمارات، وصادرت إيطاليا يخته الآخر في مارس.
رفض المتحدثون باسم ميلينشينكو وشركة "سويك"، أكبر منتج للفحم الحراري في روسيا، التعليق، ولم تستجب شركة "يوروكيم" لطلبات التعليق. قال متحدث باسم ميلينشينكو بعد عقوبات الاتحاد الأوروبي التي فرضت في مارس إنه لا انتماءات سياسية له، ولا يوجد مبرر لهذه الإجراءات.
وقال مسؤول إماراتي حكومي لـ"بلومبرغ"، إن الإمارات جادة حيال دورها بحماية سلامة النظام المالي العالمي، وتعمل بشكل وثيق مع القطاع الخاص لتنفيذ العقوبات المالية المستهدفة ومكافحة تخطيها تمشياً مع التزاماتها الدولية.
مناخ دافئ
برزت ثلاث دول في الشرق الأوسط انجذب لها أثرياء روسيا منذ غزو أوكرانيا في 24 فبراير منها الإمارات، ما أضعف جهود الولايات المتحدة لحشد جبهة موحدة ضد فلاديمير بوتين. وكانت تركيا، التي تحظى بشعبية بين الروس الباحثين عن مناخ دافئ، من بين الوجهات المفضلة، وكذلك إسرائيل لكن بدرجة أدنى.
جاء استعداد حلفاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط الناشئ لسلوك طريق منفصل، بعد سنوات من استياء متفاقم بسبب القلق حيال الانكفاء الأمريكي المتنامي. كُشف عن عمق هذا التمزق خلال غزو أوكرانيا، فقد انضم حلفاء الولايات المتحدة في مناطق بعيدة مثل اليابان وكوريا الجنوبية إلى الحملة ضد روسيا بفرض عقوباتهم الخاصة ومُصادرة الأصول، فيما توانى عنها شركاء رئيسيون في الشرق الأوسط.
قال نورمان بيلي، المدير السابق للشؤون الاقتصادية الدولية في مجلس الأمن القومي بالبيت الأبيض، وهو يدرس الأموال الروسية في الشرق الأوسط: "كانت هذه الدول الثلاث تاريخياً حليفات هامة لواشنطن. هذا يُظهر انحساراً مستمراً لنفوذ الولايات المتحدة".
امتنعت الإمارات عن إدانة الغزو الروسي على أوكرانيا في تصويت الأمم المتحدة. كما تنتقد هي وإسرائيل جهود إدارة بايدن لإعادة اتفاق 2015 النووي مع إيران، الذي تعتبرانه تهديداً أمنياً. ورغم أن تركيا من قوى حلف شمال الأطلسي، إلا أنها مستهدفة بعقوبات أمريكية بسبب شرائها أسلحة روسية. بينما زودت أوكرانيا بمسيّرات، إلا أنها حافظت أيضاً على علاقاتها مع بوتين وسَعت لتلعب دور وساطة.
سعت إدارة بايدن لإصلاح العلاقات في جميع أنحاء المنطقة منذ الغزو، لكنها فشلت بإقناع الحلفاء الخليجيين بالمساعدة في كبح ارتفاع أسعار النفط التي أججت التضخم حول العالم في علامة أخرى على تراجع نفوذها. الإمارات عضو في منظمة البلدان المصدرة للبترول "أوبك"، التي تواصل تنسيق الإنتاج مع روسيا.
البنوك الأصغر
فيما أُقصيت بعض أكبر بنوك روسيا من نظام المدفوعات الدولي "سويفت" (SWIFT) بعد الغزو، تمكّن رجال أعمال خاضعين للعقوبات من تحويل أموال عبر بنوك أصغر إلى تركيا والإمارات، وفقاً لمصرفيين ومحامين ومسؤولين على دراية بهذه الممارسات. أضافوا أن عدداً من أصحاب الثروات الضخمة لديهم بالفعل حسابات مصرفية في أوروبا وأمريكا الشمالية، استخدموها لتوجيه الأموال بعيداً عن خطر التجميد. وقالوا إن أثرياء روس ذوي علاقات رفيعة المستوى تمكنوا من نقل نقود إلى الدولة الخليجية، أحياناً عبر طائرات خاصة، لكنهم رفضوا الإدلاء بتفاصيل.
في غضون ذلك، ظهرت العملات المشفرة كوسيلة لتحويل الأموال دولياً تحت قليل من الرقابة.
كان الضوء مسلطاً على تركيا والإمارات قبل الحرب بسبب تساهل بالرقابة على الأموال الأجنبية. وضعتهما مجموعة العمل المالي (Financial Action Task Force)، وهي هيئة مراقبة الجرائم المالية العالمية، في مارس وأكتوبر، على التوالي، على قائمتها الرمادية للبلدان التي لا تفعل ما يكفي لمواجهة تدفقات مالية مشبوهة.
ويقول المسؤولون الإماراتيون إن بلادهم مفتوحة أمام الشركات والمستثمرين من حول العالم، لكنهم يسعون باستمرار لتعزيز الإطار التنظيمي ومكافحة الجرائم المالية.
لم ترد وزارة الخارجية التركية على طلبات التعليق. قال وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، في منتدى الدوحة في مارس إنه سيسمح للمليارديرات الروس بممارسة الأعمال التجارية في تركيا طالما كان ذلك يتماشى مع القانون الوطني والدولي.
سبل معقدة
أصبح قياس حجم التدفقات المرتبطة بروسيا أكثر صعوبة لأنها أُخرجت من الشبكات المصرفية الرسمية. يسهل إخفاء حركات النقد أو العملات المشفرة وغالباً ما تكون التعاملات عبر شبكات معقدة من شركات وهمية مصممة للتعتيم وعبر صناديق استئمان مبهمة، أو أقرباء أو محامين معينين للمساعدة على تجاوز العقوبات.
يقول مسؤولون أمريكيون إنهم ناقشوا فرض عقوبات ثانوية على النفط الروسي في ظل مطالبة أوكرانيا بمزيد من الإجراءات، ما قد يعرض أي دولة أو شركة تجارية تنتهك العقوبات الأمريكية لعقوبات من واشنطن. تلك فكرة تفريقية، لأنها ستضر، وقد تقصي بعض الحلفاء، خاصة من يعتمدون على الغاز روسيا وسلع أخرى منها.
قالت جودي فيتوري، الأستاذة في جامعة "جورج تاون" التي تدرس العلاقة بين التدفقات المالية والأمن القومي للولايات المتحدة: "هناك عملية إعادة تنظيم جيوسياسية كاملة تحدث. لا أعتقد أنه لدى الولايات المتحدة إجابة".
سعت إدارة بايدن راهناً لسد بعض الثغرات عبر منع الكيانات الأمريكية من تقديم خدمات الاستشارات المحاسبية وتأسيس الشركات والإدارة لأي كيان روسي. اتخذت المملكة المتحدة إجراءات مماثلة، ما صعَّب على شركات الخدمات المهنية الغربية مساعدة الروس الذين يبحثون عن ملاذات من العقوبات.
إذا كان المليارديرات الذين ينقلون أصولهم إلى إسطنبول أو دبي قلقين بشأن تلك الولايات القضائية، فإنهم لا يبدون ذلك.
أبحر مالا يقل عن أربعة يخوت ذات صلة بروسيا إلى تركيا منذ بدء الحرب، وفقاً لبيانات تتبع "بلومبرغ". من بينها "إكليبس" (Eclipse) و"ماي سولاريس" (My Solaris) اللذين يملكهما الملياردير الروسي رومان أبراموفيتش، مالك نادي "تشيلسي لكرة القدم"، إضافة إلى "بريداتور"(Predator) التابع لإسكندر محمودوف، أحد أقطاب التعدين. لقد كانت هناك يخوت أخرى في تركيا لدى اندلاع الحرب.
لدى أبراموفيتش، المشمول بعقوبات بريطانيا والاتحاد الأوروبي، بدائل في إسرائيل.
عقارات إسرائيل
النظام المالي في إسرائيل منظم بإحكام. صعَّبت الضمانات القائمة بغرض وقف تمويل الإرهاب وغسل الأموال على الروس تحويل الأموال عبر البنوك، برغم أنه ما يزال بإمكانهم شراء العقارات بسهولة نسبية، وفقاً لمصرفيين ومحامين ووسطاء عقارات.
تقدم الدولة أيضاً الجنسية لليهود من كل أنحاء العالم، ما يجعلها خياراً واضحاً للروس من أصل يهودي. فيما استقبلت إسرائيل الأوكرانيين الفارين والروس المحبطين، فإن عدداً كبيراً من المليارديرات مؤهل لذلك أيضاً.
حصل أبراموفيتش، الذي بلغ عمره 55 عاماً، على الجنسية في 2018، بعدما كافح لتجديد تأشيرته البريطانية، واشترى قصراً بقيمة 65 مليون دولار في مدينة هرتسليا الإسرائيلية بعدها بعامين، كما يملك عقارات أخرى هناك.
استجرت إسرائيل تقريباً كلّ ما تتلقاه من الولايات المتحدة، بعد ظهور أبراموفيتش في صور في مطار تل أبيب في مارس، فقد حذّرت وكيلة وزارة الخارجية للشؤون السياسية، فيكتوريا نولاند إسرائيل من "أن تصبح الملاذ الأخير للأموال القذرة التي تغذي حروب بوتين"، ثم غادرت طائرة أبراموفيتش إسرائيل متجهة إلى تركيا.
قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية إن الدولة لن تسمح لنفسها بأن تكون سبيلاً لتجاوز العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة ودول غربية أخرى على روسيا، وأنشأت لجنة عمل لضمان فهم قطاعات الاقتصاد المختلفة للعقوبات والعواقب المترتبة على عدم الامتثال.
جاذبية عقارات تركيا
تقع المخاوف السياسية أيضاً نصب أعين تركيا، حيث شكَّل الروس خُمس السياح الأجانب العام الماضي، وتشتري تركيا ما يقرب من نصف غازها من روسيا. أصبح من الصعب بشكل خاص الآن على تركيا أن تنسحب مع ارتفاع التضخم القياسي الذي أثار غضباً عاماً قبل عام من الانتخابات الرئيسية.
قال سيرغي فولتشينكوف، الشريك في شركة "توليرانس هومز" (Tolerance Homes) في منتجع أنطاليا التركي على البحر المتوسط، إن معظم زبائنه روس، وقد ارتفع الطلب خمسة أضعاف منذ الغزو. أضاف: "يشتري بعضهم ما يصل إلى 15 شقة دفعة واحدة للحصول على الجنسية".
رفعت تركيا منذ الغزو حد الاستثمار العقاري الأدنى للأجانب للحصول على الجنسية من 250 ألف دولار إلى 400 ألف دولار. ما يزال هذا الأمر جذاباً بشكل خاص للروس الأكثر ثراءً الذين يحتاجون بدائل، فيما ينهى الاتحاد الأوروبي برامج جواز السفر الذهبي.
تضاعفت مبيعات المنازل للأجانب في الأشهر الأربعة الأولى من 2022 مقارنة بالعام السابق، وفقاً لبيانات رسمية. وتصدّر الروس في أبريل قائمة المشترين الأجانب في تركيا لأول مرة.
وقال دافوت سيتين، رئيس غرفة تجارة وصناعة أنطاليا، إن الموجة الأولى من الطبقة الوسطى الروسية تبعتها فئة أثرى، وأضاف: "لم يكونوا موجودين طوال العقد الماضي، فقد اختاروا أوروبا الغربية.. بإمكانهم العودة بعد كل هذه العقوبات والمصادرات".