بلومبرغ
تشتهر مدينة لوفين البلجيكية التاريخية بجامعتها العريقة وكونها مقر عملاق المشروبات والتخمير "أنهاوسر- بوش إنبيف" (Anheuser-Busch InBev)، لكنها لا تتميز باحتضانها مقر مؤسسة أبحاث أشباه الموصلات التي أصبحت الآن محور الاهتمام السياسي والصناعي على حد سواء.
قد يكون "مركز الإلكترونيات الدقيقة" (Interuniversity Microelectronics Centre)، والذي يشار إليه اختصار بـ"أي إم إي سي"، أفضل أسرار بلجيكا الخفية، غير أنه حالياً يجذب طلباً عالمياً وخاصة الأبحاث التي يجريها حول مستقبل رقائق الكمبيوتر، وتطبيقات تلك الأبحاث في مجالات عدة تتراوح من تسلسل الجينوم إلى القيادة الذاتية.
ومع تحول الرقائق الإلكترونية إلى أسلحة سياسية في الصراع التكنولوجي بين الولايات المتحدة والصين، أصبح المركز محط أنظار الحكومات بشكل متزايد. في غضون ذلك، أدى نقص الإنتاج المعوق للصناعة خلال فترة الوباء إلى تسابق العديد من الدول للوصول إلى الأبحاث المتقدمة، حيث تسعى الولايات المتحدة والصين واليابان وأوروبا، جميعها، إلى زيادة الاعتماد على الذات في مجال إنتاج أشباه الموصلات.
وبينما تتشاور المفوضية الأوروبية مع "أي إم إي سي" بشأن خططها لبناء قدرة الرقائق في القارة، قام وفد وزاري كوري جنوبي بزيارة المؤسسة البحثية هذا الشهر. كما طُرح اسمها خلال الشهر الماضي في إطار استعراض البيت الأبيض لسلسلة التوريد الأمريكية جنباً إلى جنب مع شركة "إي إس إم إل" (ASML NV) الهولندية، والتي تحتكر فعلياً الأجهزة اللازمة لصنع الرقائق الأكثر تقدماً. وعلى حد تعبير أحد المراقبين في واشنطن، فإن "أي إم إي سي" تعد واحدة من تلك المؤسسات التي يعلم قليلون بشأنها بينما ينبغي أن تكون معروفة لدى الجميع.
محور الاهتمام
قال الرئيس التنفيذي، لوك فان دن هوف، في مقابلة أجريت في مكتبه بالطابق الخامس عشر من برج "أي إم إي سي" المستقبلي الذي يطل على الريف خارج وسط المدينة التاريخي من جميع الجوانب: "لم نكن يوماً في دائرة الضوء بشكل كبير كما هو الحال اليوم. لقد حظينا باهتمام المسؤولين السياسيين أكثر بكثير من أي وقت مضى، بما في ذلك الساسة المحليين والأوروبيين والأمريكيين".
كما أعرب السياسيون الصينيون عن اهتمامهم بمركز أبحاث الرقائق الإلكترونية، حيث قام رئيس مجلس الدولة، لي كه تشيانغ، بزيارته في أكتوبر 2018، قبل أن تمتد التوترات بشأن التجارة مع إدارة ترمب لتشمل الرقائق الإلكترونية. وشدد لي، حينها، على "الفرص التجارية الهائلة" للعمل مع "أكبر سوق في العالم"، وفقاً لبيان وقائع الزيارة المنشور على الموقع الإلكتروني للحكومة الصينية.
وكان "مركز الإلكترونيات الدقيقة" انضم لشركتي "هواوي تكنولوجيز" و"كوالكوم" لمساعدة "المؤسسة الدولية لتصنيع أشباه الموصلات" (SMIC)، وهي أكبر شركة لتصنيع الرقائق في الصين، لإنشاء شركة متخصصة لأغراض البحث والتطوير. ولكن في غضون ثمانية أشهر من زيارة لي، قامت وزارة التجارة الأمريكية بإدراج "هواوي" على قائمة "الكيانات" الخاصة بها، وتبع ذلك سلسلة من ضوابط التصدير التي تستهدف إعاقة وصول الصين إلى تكنولوجيا الرقائق الأمريكية.
اليوم، يشارك مركز أبحاث "أي إم إي سي" في برنامج للمنح الدراسية لتمويل الباحثين الصينيين في مرحلة ما بعد الدكتوراه. ووفقاً لتقارير وسائل الإعلام المحلية، أصبح المركز في فبراير، عضواً في "رابطة ووشي لصناعة أشباه الموصلات" بمقاطعة جيانغسو، وهي منطقة رئيسية لإنتاج الرقائق. وبحسب فان دن هوف، فإن تواجد "أي إم إي سي" في الصين يقتصر على أقل من خمسة أشخاص، ولا يقوم بأي نشاطات خاصة بالبحث والتطوير.
وحول زيارة لي، قال الرئيس التنفيذي لمركز الأبحاث الدولي عندما سُئل عن إقحام السياسة في الصناعة: "كان الوضع مختلفاً تماماً عندما حدث ذلك قبل ثلاث أو أربع سنوات عن ما هو عليه الآن".
وأضاف فان دن هوف أن مؤسسة "أي إم إي سي" تلتزم بقواعد التصدير بشكل صارم، بما في ذلك تلك التي تفرضها واشنطن، وشدد على أن القدرة البحثية للمؤسسة لم تتضرر من الضغوط السياسية. مستطرداً: "لكن علينا أيضاً أن نكون واقعيين ونواجه الحقائق التي تشير إلى أن هذه التوترات الجيوسياسية آخذة في الازدياد في الوقت الحالي".
في عام 1984، تم تأسيس "أي إم إس سي" من قبل حكومة فلاندرز الإقليمية، ولديه الآن حوالي 4500 موظف بما في ذلك الطلبة الباحثين. ويحصل على حوالي 75% من التمويل من شركائه من عمالقة صناعة الرقائق الرئيسية بدايةً من "إنتل" و"تايوان لصناعة أشباه الموصلات"، إلى "سامسونغ للإلكترونيات" و"أبلايد ماتيريالز" (Applied Materials).
جهود بحثية
تمتع مركز "أي إم إي سي" للأبحاث بعلاقة رئيسية مع "المؤسسة الدولية لتصنيع أشباه الموصلات" على مدار الثلاثين عاماً الماضية. وذلك من خلال استخدامه لآلات الطباعة الحجرية الخاصة بالشركة الصينية ليصبح مركزاً رائداً للأبحاث فيما يُعرف باسم "القياس" أو "التحجيم"، أو صناعة رقائق تتميز بأحجام أصغر وأكثر قوة من أي وقت مضى. وتضم منشآت الشركة الصينية لصناعة أشباه الموصلات "خط إنتاج تجريبي" بتكلفة 2.5 مليار يورو (3 مليارات دولار)، والذي يسمح للباحثين بالعمل على عمليات صناعة الرقائق التي عادة ما تسبق التصنيع المتطور الحالي بجيلين إلى ثلاثة أجيال. ومن ثم، في الوقت الذي يبلغ فيه حجم الشرائح الأكثر تقدماً في العالم 5 نانومتر، أو أجزاء من المليار من المتر، يعمل مركز "إي إم إي سي" البحثي بالفعل على إنتاج رقائق بحجم 2 نانومتر فأقل.
من جهة أخرى، تجري معاهد "فراونهوفر" (Fraunhofer) الألمانية و"نيتري" (Netri) الفرنسية أيضاً أبحاثاً حول الرقائق الإلكترونية في أوروبا، بينما تستشهد "تايوان لصناعة أشباه الموصلات" بمؤسسة "أبحاث أشباه الموصلات" الأمريكية كشريك إلى جانب مؤسسة "أي إم إي سي"، لكن يمكن اعتبار نطاق بحث الأخيرة بمثابة السبب وراء ريادتها.
قال بات غيلسنجر، الرئيس التنفيذي لشركة "إنتل"، في مقابلة في مايو: "تحظى أوروبا بجوهرتين، الأولى هي "إي إس إم إل" الهولندية، صانعة آلات الطباعة الحجرية الأكثر تقدماً، والثانية هي "أي إم إي سي"، لأبحاث أشباه الموصلات الأكثر تقدماً في العالم".
مناخ من السرية
ولكن هذا العمل يجعل مركز "أي إم إي سي" للأبحاث أيضاً هدفاً للسرقة الصناعية. فقد ذكرت صحيفة "دي تايتط" (De Tijd) ، في عام 2018، أن السلطات البلجيكية قامت بترحيل باحث صيني في "أي إم إي سي" للاشتباه في قيامه بالتجسس. وأكد فان دن هوف التقرير، رغم قوله إن الأحداث وقعت في وقت سابق لنشر الخبر.
وتابع فان دن هوف: "لكن هذه ليست حالة السرقة الأولى، لدينا حالات أخرى حدثت مع أشخاص آخرين حيث لا يتصرفون وفقاً للقيم وقواعد السلوك الخاصة بنا"، مضيفاً أن الحوادث لا تقتصر على مواطني أي دولة بعينها.
الحكومات أيضاً تعمل في جو من الحساسية المتزايدة تجاه التكنولوجيا، حيث تقوم المملكة المتحدة، حالياً، بمراجعة للأمن القومي بعد استحواذ شركة "نيكسبيريا" (Nexperia) المملوكة للصين على أكبر مصنع للرقائق في بريطانيا. وحتى الآن، لم تمنح الحكومة الهولندية ترخيص تصدير لشركة "إي إس إم إل" لشحن واحدة من أكثر أجهزتها تقدماً إلى الصين، فيما أوضحت الولايات المتحدة، بشكل قاطع، أنها تفضل بقاء التكنولوجيا في هولندا.
من ناحية أخرى، قال مارتين راسر، مدير برنامج التكنولوجيا والأمن القومي في "مركز الأمن الأمريكي الجديد" في واشنطن، إنه من المرجح أن تركز إدارة بايدن على مؤسسة "أي إم إي سي" في مباحثاتها مع الاتحاد الأوروبي بشأن توسيع نطاق التحالف الأمريكي في المواجهة التقنية مع الصين.
قال راسر، الذي عمل سابقاً في مجال التكنولوجيا والابتكار في وكالة الاستخبارات المركزية: "كنت سأندهش إذا لم يفعلوا ذلك، حيث تعد "أي إم إي سي" منشأة فريدة من نوعها بالفعل".
اقرأ المزيد: صناعة "الرقائق الإلكترونية".. ساحة لمعركة جديدة بين أمريكا والصين
ورداً على سؤال حول ما إذا كانت إدارة بايدن قد تواصلت مع مؤسسة الأبحاث الدولية، قال فان دن هوف إن هناك "العديد من المباحثات الجارية بشأن العديد من هذه الموضوعات"، لكنه رفض الإفصاح عن الأطراف المشاركة في المباحثات. وأضاف أن "أي إم إي سي" حريصة على "المساهمة بطريقة إيجابية في تطوير صناعة أشباه الموصلات. ومن ثم سنجري تلك المباحثات، أياً كان ما يمكننا القيام به لدعم تلك الغاية".
مستقبل الرقائق
ويعد تصنيع أشباه الموصلات المركبة أحد المجالات التي ستحظى بالاهتمام في المستقبل، حيث تعمل الصين على حشد التمويل لتطوير ما تطلق عليه "رقائق الجيل الثالث"، والمصنوعة من مواد مركبة مثل نيتريد الغاليوم، في محاولة لإحراز ريادة دون الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية القائمة على السيليكون. من جهته، شكك فان دن هوف في أن تعدو السوق المستقبلية كونها مجرد سوق متخصصة لتطبيقات بعينها وليس بديلاً للسيليكون.
وقال: "لا أعتقد أن أشباه الموصلات القائمة بذاتها تشكل سوقاً ضخمة. ولكننا نعتقد أن السيليكون هو القاعدة المثالية لأشباه الموصلات".
وعلى حد قول الرئيس التنفيذي لمؤسسة "أي إم إي سي"، فإن قانون مور، الذي ينص على أن عدد المكونات على رقاقة السيليكون سيتضاعف كل عامين، "لا يتباطأ بأي حال من الأحوال"، على الرغم من أن وسائل تحقيقه ستتغير لتجمع بين الابتكارات مثل التصميمات الجديدة، وأنواع الترانزستورات، هذا بالإضافة إلى استمرار تقليص حجم الرقاقات وقال:
سنصل إلى أقل من نانومتر واحد.
كما بدا فان دن هوف متفائلاً بشأن إمكانات الصناعة خارج نطاق استخداماتها الحالية. وقال إن تكنولوجيا الرقائق يمكن أن تحسن إنتاج الغذاء ومراقبته، على سبيل المثال. وهذا حتى في مواجهة تصاعد الرياح الجيوسياسية غير المواتية.
وأضاف فان دن هوف: "هناك أشياء كثيرة تحدث في العالم في هذه اللحظة، لكنني أعتقد أنه من المهم جداً أن نظل هادئين. فالفرص ضخمة للغاية".