لتنشيط العلوم والتكنولوجيا في الولايات المتحدة من خلال زيادة الإنفاق الحكومي، هناك خياران في هذه المرحلة، وهما: إما صرف حزمة مالية كبيرة لتحفيز هذا القطاع، أو توقف السياسيين عن المشاركة في صنع القرار على الإطلاق.
وبشكل مأساوي، يبدو أن كلاً من الكونغرس وإدارة الرئيس الأمريكي "جو بايدن" قررا التوقف عن صنع القرار في هذا الملف.
ظل الخبراء الاقتصاديون يصرخون وينددون بتباطؤ الإنتاجية منذ أكثر من عقد. ومنذ حوالي عام 2005، زاد معدل الإنتاجية الكلية للعوامل - وهو المحرك النهائي لجميع مكونات النمو طويل الأجل في مستويات المعيشة - بمعدلٍ أبطأ مما كان عليه في العقود السابقة.
وإذا استمر هذا الأمر، سيؤدي في النهاية إلى تباطؤ نمو الدخل، مما قد يشعل غضب السكان، ويتسبب في اندلاع الاضطرابات السياسية. لذا فإن للحكومة مصلحة راسخة في الحفاظ على نمو الإنتاجية بقوة.
الإنفاق على التكنولوجيا
هناك العديد من الأشياء التي تدخل في قياس معدل الإنتاجية الكلي، بما في ذلك التجارة والضرائب والتعليم. لكن التكنولوجيا تعتبر واحدة من أهم هذه الأشياء.
ويشير الخبير الاقتصادي "بول رومر"، الحائز على جائزة "نوبل"، أيضاً، إلى أن إنفاق المزيد من الأموال على البحث، يرفع من معدل الاكتشافات العلمية. وتتفق الأبحاث النظرية والتجريبية الأخرى بشدة مع رأي "رومر".
في نفس السياق، أوضح الاقتصاديان "سيمون جونسون"، و"جوناثان غروبر" في كتابهما، الذي حمل عنوان: "الانطلاقة السريعة لأمريكا: كيف يمكن للاختراق العلمي إحياء النمو الاقتصادي والحلم الأمريكي"، أن هذه الاكتشافات العلمية تدفع منظومة الابتكار الصناعي العملي للأمام.
وقالوا، إنه كلما موّلت الحكومة المزيد من الأبحاث، كلما ارتفع عدد الابتكارات التي تستطيع الشركات الأمريكية الاستفادة منها.
كما يؤدي ذلك أيضاً إلى زيادة هيمنة الولايات المتحدة على قطاعات المعرفة عالية القيمة، مثل: تكنولوجيا المعلومات، والتقنيات الحيوية، والتصنيع المتقدم.
فقد ظهر العديد من الاختراعات بداية من نظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، إلى التكسير الهيدروليكي، وحتى التصوير بالرنين المغناطيسي، بفضل الأبحاث الحكومية.
ولكن لسوء الحظ، لا تنفق حكومة الولايات المتحدة الكثير من الأموال على الأبحاث هذه الأيام.
تفوق الصين
قد يكون لهذا علاقة بتباطؤ الإنتاجية. ومن المحتمل أيضاً أن يتسبب ذلك في تراجع القدرة التنافسية الصناعية للولايات المتحدة مقارنة بالصين، التي تعد لاعباً متزايد الأهمية في مختلف قطاعات التكنولوجيا الفائقة، وتتفوق الصين الآن على الولايات المتحدة من حيث صادرات التكنولوجيا الفائقة، وبفارق كبير.
قانون "الحدود اللانهائية"
كان من المفترض أن يُصلح الديموقراطيون هذا الأمر، وتضمنت حزمة البنية التحتية المقترحة من الرئيس "جو بايدن" نسب زيادات من رقمين لدعم تمويل العلوم.
وكانت جهود مشروع الكونغرس الذي حمل اسم "قانون الحدود اللانهائية"، وتم تقديمه بقيادة السيناتور "تشاك شومر"، ستضخ 110 مليارات دولار في الإنفاق البحثي، بما في ذلك الأفكار المبتكرة مثل إدارة التكنولوجيا الجديدة لمؤسسة العلوم الوطنية ومراكز التكنولوجيا الإقليمية.
ورغم أن هذا المبلغ لا يقارن بفترة أمجاد تمويل الأبحاث الفيدرالية في الثمانينيات، إلا أنه كان سيُشكل خطوة أولى مهمة نحو إعادة ترسيخ مفهوم التقدم والهيمنة التكنولوجية الأمريكية. وكنت أشعر بالتفاؤل نحو هذا المشروع، كما كنت متشوق لتطبيقه.
لكن بعد شهرين فقط، أصبحت الجهود المبذولة لاستعادة تمويل العلوم في الولايات المتحدة في حالة فوضى.
وحاول "بايدن" التوصل إلى حل وسط للتوفيق بين الحزبين – رغم أن هذا أمر مستبعد - من خلال إلغاء تمويل الأبحاث طواعية من خطته الخاصة بالبنية التحتية.
في هذه الأثناء، تم إحباط قانون "الحدود اللانهائية" بشكل كامل. ويوضح صموئيل هاموند، الذي يعمل في مركز "نيسكانن"، أنه تم تخفيض مبلغ التمويل البحثي الجديد إلى مبلغ زهيد، بينما لا يزال تمويل المراكز التقنية الإقليمية الجديدة موجوداً، ولكن هذا البند كان دائماً ما يمثل جزءاً متواضعاً من مشروع القانون.
أهمية التمويل الفيدرالي للأبحاث
بعبارة أخرى، يبدو أن قادة الولايات المتحدة لا يدركون الأهمية الكبيرة للتمويل الفيدرالي للأبحاث، بوصفه أداة للازدهار الاقتصادي الوطني والتنمية. وبدلاً من ذلك، فهم يؤمنون باتخاذ مزيد من الإجراءات قصيرة المدى.
وتم إعادة توجيه مشروع قانون"الحدود اللانهائية" في الغالب كمشروع قانون لتعزيز صناعة أشباه الموصلات، وقطاع النطاق العريض للجيل الخامس.
وبعبارة أخرى مجدداً، يمكن القول إن "شومر" والقادة الآخرون يحاولون دعم القطاعات التي تتضح أهميتها اليوم، بدلاً من وضع الأساس لصناعات الغد.
مصانع الرقائق الإلكترونية
ربما لا تكون المساعدة في تمويل بناء مصانع تصنيع الرقائق باهظة الثمن إهداراً كاملاً للمال، لكنها ليست بديلاً عن تمويل الأبحاث الأخرى.
ففي المرة الأخيرة التي حاولت فيها الحكومة الأمريكية دعم صناعة أشباه الموصلات في مواجهة المنافسة الدولية، أنشأت اتحاد "سيما تك" للتصدي لهيمنة اليابان على صناعة رقائق الذاكرة.
ولكن مشروع "سيما تك" فشل، ولم تستعد الولايات المتحدة مطلقاً قيادة قطاع شرائح الذاكرة.
وتبين بعدها أن هذا أمرٌ غير مهم، حيث استحوذت شركة "إنتل" والشركات الأمريكية الأخرى على سوق المعالجات الدقيقة الأكثر ربحاً، واستفادت من التقنيات التي تم تطويرها بواسطة الأبحاث الممولة فيدرالياً.
صناعات المستقبل
يجب أن يكون إنشاء صناعات الغد هو الدور الأساسي للحكومة. وسوف يعتمد الدفاع عن الأسواق الحالية مثل الرقائق الدقيقة بشكل عام على استراتيجية الشركات وثقافتها، أكثر من اعتمادها على التمويل الفيدرالي. فمن غير المرجح أن يؤدي ضخ الأموال بشكل مباشر في شركات مثل "إنتل" إلى جعل نماذج أعمالها أكثر قابلية للتطبيق.
وبدلاً من ذلك، يتعين على الحكومة الأمريكية أن تفعل الشيء الذي لن تفعله الشركات الخاصة، وهو: دعم الأبحاث الأولية التي ينتج عنها اكتشافات يمكن لجميع الشركات استخدامها، بما في ذلك الشركات الناشئة التي لم يتم إنشائها بعد.
ويعد التخلي عن الوعود بإنفاق مبالغ كبيرة على الأبحاث علامة خطيرة على وجود حكومة مغترة ومشتتة، تركز بصورة أكبر على مشاريع لحوم الخنازير والحيوانات الأليفة من اهتمامها بالتقدم التكنولوجي واستمرارية القطاعات الصناعية على المدى الطويل.
ختاماً، يمكن القول إن الإعانات التي تركز على دعم صناعات مثل أشباه الموصلات لن تعوض عن تضييع هذه الفرصة الاستراتيجية.
ونأمل أن يدرك الرئيس الأمريكي، والكونغرس هذا الخطأ، وأن يقوموا بطرح مبادرات جديدة لتمويل الأبحاث في أقرب وقت ممكن.