المستقبل حليف الشركات الأميركية.. لكن ماذا عن الأميركيين؟

رفعت ثورة الذكاء الاصطناعي القيمة السوقية للشركات الأميركية ولكن التاريخ يخبرنا أن ذلك لا ينعكس دائماً إيجاباً على العمال

time reading iconدقائق القراءة - 9
صورة تعبيرية ترمز إلى الرقائق والذكاء الاصطناعي - بلومبرغ
صورة تعبيرية ترمز إلى الرقائق والذكاء الاصطناعي - بلومبرغ
المصدر:

بلومبرغ

هل من مقياس لتقييم قوة أمة أفضل من قوة شركاتها؟ إن الشركات المزدهرة مصدر للثروة والنفوذ، ونبع للتقنيات الحديثة، ودلالة على نجاعة عمل مؤسسات التعليم والتمويل والقانون والسياسة.

أداء كبرى الشركات الأميركية أفضل من أي وقت

لذا بعد مرور ثماني سنوات على وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض وقد جلب معه رؤية قاتمة تصوّر الولايات المتحدة على أنها في حالة انحدار، وبعد مضي أربع سنوات على تفشي جائحة كورونا التي اختبرت العزيمة الوطنية، وسنتين على بدء الحرب الروسية على أوكرانيا، بدا لافتاً أن أداء الشركات الأميركية الكبرى أفضل من أي وقت مضى.

في 2023، كانت 32 شركة أميركية تتربع على قائمة أكبر 50 شركة عامة من حيث القيمة السوقية، وهو العدد الأعلى استناداً إلى البيانات المتوفرة منذ 1995. ينجلي مدى هذه الهيمنة حين ندرك أن الشركات الأميركية تشكل 74% من القيمة السوقية لشركات تلك القائمة، فيما أن أقرب منافساتها على الهيمنة عالمياً، أي الشركات الصينية، قيمتها 3% من ذلك.

لكن ما سبب هذا التباين؟ يعود ذلك في جزء منه إلى قوّة  الداخل الأميركي، وذلك لناحية ما تنعم به البلاد من بيئة لا مثيل لها تشجيعاً للابتكار، فضلاً عن أسواق رأسمالية عميقة وسائلة، تضاف إليها أخلاقيات العمل التي تمتاز بها أمّة المهاجرين هذه، إلى جانب الضرائب والقيود الناظمة الداعمة للشركات، وهي كلها عوامل دائماً ما تنشأ فيها شركات ناجحة. وما شركة "إنفيديا" التي توقد رقائقها الإلكترونية ثورة الذكاء الاصطناعي، إلا مثال جديد على ذلك.

كما أسهم ضعف الأطراف الخارجية في رسم جزء من هذه الصورة، إن تضييق الصين على رواد الأعمال في إطار حملة الرئيس شي جين بينغ لتحقيق "الرخاء المشترك"، سبب لها أضراراً من صنعها. أمّا كبريات شركات الهند فتواجه عثرات نتيجة ضعف الحوكمة، وهو ما أثبتته سلسلة الفضائح التي ألمت بها. أما في أوروبا، فإن تشرذم الأسواق الوطنية وارتفاع الضرائب وشدة القيود الناظمة، تضع العصي في دواليب قدرة القارة على المنافسة دولياً.

شركات ضخمة قد لا تخدم المصلحة العامة

إن كان العالم يتجه حقاً نحو حقبة نزاعات بين الأنظمة الديمقراطية والدكتاتورية، وبين الأسواق الحرة والسيطرة الحكومية، فإن وجود أهم الشركات في الولايات المتحدة هو مصدر قوة لا يُستهان بها لصالحها، ورمزية قوية تدل على فضائل نظام السوق الحرة الديمقراطية. ومن إيجابيات ذلك أيضاً أن 58% من الأميركيين يملكون أسهماً في الشركات، ما يعني أن شريحة واسعة من المجتمع تستفيد من هذه المكاسب المالية.

لكن رويداً، فقبل أن نحتفل بذلك ونروي شطراً من سيرة حياة بنجامين فرانكلين استذكاراً، لا بد أن نطرح سؤالاً. في 1953، رد تشارلي ويلسون على مخاوف من أن يستغل منصبه الجديد كوزير للدفاع لخدمة مصالح شركة "جنرال موتورز" التي كان يعمل لديها سابقاً، وقال لأعضاء الكونغرس إن "ما يخدم مصلحة (جنرال موتورز) يخدم مصلحة أميركا".

لكن حتى في تلك الحقبة من التفاؤل المفرط بشأن نجاح الشركات وازدهار الطبقة الوسطى، ظهرت من إجابة ويلسون المبالغة. بعد مضي سبعة عقود على ذلك، تزدهر أرباح الشركات، فيما يخيم الركود على دخل الطبقة الوسطى، وتتزايد الأسئلة حول مدى توافق مصالح الشركات مع الصالح العام.

يُعد حجم الشركات جزءاً من المشكلة، إذ كانت القيمة السوقية لأكبر 50 شركة في 1995 تعادل حوالي 9% من الناتج الإجمالي المحلي العالمي. لكن بحلول 2023، ارتفعت هذه النسبة إلى 27%.

أدرك الآباء المؤسسون مخاطر تركّز كل هذه القوة في أيدي الشركات. حتى أن توماس جيفرسون كان يأمل في "سحق... أرستقراطية الشركات الغنية" قبل أن "تتحدى حكومتنا في اختبار قوة"، على حد قوله.

تنامي سطوة شركات التقنية

فعلاً، تشير الأدلة اليوم إلى أن أرستقراطيي الشركات منهمكون بالضغط على موظفيهم وتضخيم الأسعار بدافع الجشع والمطالبة بخفض الضرائب وإخضاع السياسيين إلى رغباتهم. في 1995، كانت أكبر 50 شركة عالمية تدفع معدل ضرائب وسطياً فعلياً يبلغ 35% ولم تتخط هوامش أرباحها 6%. بحلول 2023، تراجع معدل الضرائب الوسطي الفعلي إلى 20%، ما يعكس زيادة الاعتماد على الملاذات الضريبية، فيما ارتفعت هوامش الأرباح إلى 20%.

تستخدم الشركات الكبرى جزءاً من هذه الأرباح لتحظى بنفوذ على السياسات الحكومية. وقد حقق لها ذلك انتصاراً كبيراً في الولايات المتحدة في نهاية يونيو حين اتخذت المحكمة العليا قراراً بإلغاء ما يُعرف بـ"مبدأ شيفرون"، وبذلك قلصت بشدة صلاحيات هيئات ناظمة مثل وكالة حماية البيئة في إحداث قواعد، وبذلك رجحت كفة الشركات أكثر في ميزان "اختبار القوة" الذي تناوله جيفرسون.

حجم هذه الشركات الضخم يحميها أيضاً من المنافسة. فيتحدث وارين بافيت الذي تحتل شركته "بيركشاير هاثاوي" المرتبة التاسعة في التصنيف، عن أهمية وجود "خندق مائي" يحيط بقلاع الشركات لحمايتها من الدخلاء. ويبدو أن هذه الخنادق تزيد اتساعاً. في عام 2000، كانت هناك 27 شركة جديدة على قائمة أكبر 50 شركة، وفي 2023، انخفض هذا العدد إلى 14 فقط.

لقد أحدث تنامي أهمية قطاع التقنية تحولات في آليات العلاقة بين الشركات والمصلحة الوطنية. في 1995، كانت شركات التقنية تشكل 8% من القيمة السوقية لأكبر 50 شركة، لكن هذه النسبة ارتفعت إلى 51% في 2023. ويُعزى جزء من هذا الارتفاع إلى سعي تلك الشركات لتحقيق مصالها حتى لو على حساب الأولويات الوطنية.

لا يصعب جلب أمثلة على ذلك، فقد كان هناك خبر مفاده أن شركة "أبل" وقعت اتفاقية سرية مع حكومة الصين بقيمة 275 مليار دولار، متعهدة بالمساهمة في تطوير اقتصاد البلاد وقطاع التنقية فيها. وحين كانت "فيسبوك" ما تزال تأمل بولوج سوق الصين، طلب مارك زوكربيرغ من الرئيس تشي أن يختار اسماً لطفله المنتظر. أمّا شركات أشباه الموصلات التي التزمت بنصوص العقوبات لا روحيتها، فقد أجبرت الهيئات الناظمة الأميركية على الانخراط بلعبة تصيّد وتتبع، لتمنع الصين من الحصول على رقاقات متقدمة تُستخدم في تطوير الذكاء الاصطناعي.

تهديد الذكاء الاصطناعي للعمال

تسلّط مساعي الولايات المتحدة للتصدّي لطموحات الصين في مجال الذكاء الاصطناعي الضوء على مسألة أخرى. إن صعود الروبوتات القادرة على ما يشبه التفكير، سيخدم بلا شك المرادفات الحقيقية لشركة سايبرداين الخيالية، التي ظهرت في سلسلة أفلام (The Terminator) وهي تصنع قتلة آليين، ولكن هل ذلك لمصلحة الجميع؟ جواب ذلك مرتبط بما إذا كان الذكاء الاصطناعي سيدعم العمالة ويعزز إنتاجيتها أم سيكون بديلاً لها فيدفع موظفي المكاتب نحو البطالة، كمصير أقرانهم أصحاب المهارات اليدوية بعد أتمتة المعامل.

كانت الثورة الصناعية الثانية، التي حملت ابتكارات مثل خط الإنتاج الذي استحدثه هنري فورد ومصباح توماس إديسون الكهربائي، عززت أرباح الشركات وأجور العمال في آن معاً. وفي السيناريو الإيجابي، يمكن أن تتبع ثورة الذكاء الاصطناعي المسار نفسه.

لكن هذه النتيجة ليست مضمونة. وكان الخبيران الاقتصاديان من "معهد ماساتشوستس للتقنية" دارون عجم أوغلو وسايمون جونسون قد بيّنا في كتابهما الصادر في 2023 (Power and Progress) أنه في السياق التاريخي العام، حملت التطورات التقنية إيجابيات للازدهار، ولكن خلال السنوات والعقود التي عاش فيها من شهدوا هذه التطورات التقنية، فإن عدد الخاسرين غالباً ما كان أكبر من عدد الرابحين.

أغدقت الثورة الصناعية الأولى المال على أصحاب المصانع، لكن عقوداً مرت قبل أن يستفيد العمال من المكاسب.

أشار عجم أوغلو وجونسون إلى أن اختراع ماكينات النول الآلية في بداية القرن التاسع عشر أدى إلى تفشي البطالة بين نساجي النول اليدويين، وانخفضت أجورهم بأكثر من النصف.

وقد تسلك ثورة الذكاء الاصطناعي نفس هذا المسار. وقد خلُصت دراسة لصندوق النقد الدولي في يناير إلى أن الخطر قد يطال 30% من الوظائف في الاقتصادات المتقدمة.

الخطر اليوم هو أن نكون جميعاً بمثابة نساجي نول يدوي. في هذا الحالة، فإن ارتفاع أسهم شركات الذكاء الاصطناعي الرائدة في الولايات المتحدة ربما يكون رهاناً ضد جيل من العمالة الأميركية.

تصنيفات

قصص قد تهمك