
تسعى البنوك الكبرى جاهدة لتحديد كيفية الاستفادة من الذكاء الاصطناعي التوليدي، والإجابة على تساؤلات مثل كيفية استخدامه لجعل بعض موظفيها أكثر ذكاءً، أو إفساح المجال أمام آخرين لإنجاز المهام عالية القيمة فقط، وكيفية استيعاب البيانات ومعالجتها بسرعة أكبر، وتسريع وتيرة عملية اتخاذ القرار، وخفض التكاليف. فكل بنك يخشى أن يسبقه منافسوه في إتقان استخدام الذكاء الاصطناعي.
لكن أصحاب رأس المال الجريء في منطقة خليج سان فرانسيسكو يحذرون من خطر مختلف، وهو أن المقرضين يتجاهلون التهديدات الأخرى. فقد أخبرتني أنجيلا سترينج، الشريكة العامة بشركة "أندريسن هورويتز" (Andreessen Horowitz)، مؤخراً: "عندما أتحدث عن الذكاء الاصطناعي مع البنوك، أقول لهم إن السؤال الذي يجب أن يثير قلقكم هو ماذا لو نجح الذكاء الاصطناعي؟".
ماذا لو استخدم عملاء البنوك الذكاء الاصطناعي في أتمتة المهمة المملة المتمثلة في التسوق بحثاً عن على أفضل أسعار الفائدة على المنتجات المالية البسيطة وبسرعة لا تقاوم؟ ربما لن يمر وقت طويل حتى تتمكن روبوتات الذكاء الاصطناعي التوليدي من الاعتناء بأموالنا بكفاءة بالغة. إنه أمر رائع بالنسبة للعملاء، لكنه ليس بذات القدر من الروعة للبنوك، علماً بأن إمكانية حدوث ذلك لا تعني بالضرورة تحققه. تحيط بهذه الرؤية بعض الإشارات التحذيرية الكبيرة. فعلى سبيل المثال، فقد يكون للذكاء الاصطناعي آثار مدمرة على الاستقرار المالي. سأتطرق لهذه النقطة لاحقاً. لكن اتجاه التطور واضح ويكشف لنا الكثير عن التحديات التي تواجه البنوك، خاصة الصغيرة منها.
تهديد مصادر أرباح البنوك
يتوقع مات هاريس، الشريك في "باين كابيتال فينتشرز" (Bain Capital Ventures)، تهديداً وجودياً لمصدر ربح أساسي للبنوك، وهو صافي هامش الفائدة، الذي يمثل في جوهره الفارق في سعر الفائدة بين ما يدفعه البنك على الودائع وما يجنيه من القروض. وهذا الهامش سيواجه ضغطاً من كلا الجانبين بمجرد أن يمتلك الأشخاص والشركات وكلاء ذكاء اصطناعي مخولين بنقل أموالهم للحصول على أفضل معدلات فائدة على الإيداع أو الادخار وإعادة تمويل ديونهم، ربما حتى عدة مرات يومياً.
اقرأ أيضاً: هل تزدهر شركات الروبوتات الناشئة في عصر الذكاء الاصطناعي؟
قال هاريس، أمام حشد مندهش من الناس في القمة المصرفية للوافدين الجدد التي أُقيمت في سان فرانسيسكو الشهر الماضي، إن "هذا المنتج سيكون الأكثر انتشاراً في تاريخ التكنولوجيا المالية. سيكون هناك مَن يتسوق نيابة عني طوال اليوم وكل يوم. والنظام المصرفي الأميركي الذي نعرفه سينتهي عندما يحدث ذلك".
يجيد الذكاء الاصطناعي التوليدي بالفعل القراءة والكتابة، ما يحتاجه هو مجرد تحسين قدرته على التصرف بشكل مستقل بناءً على ما يعرفه. وقد تتاح هذه الإمكانية خلال فترة تتراوح ما بين عام إلى ثلاثة أعوام، كما أخبرني هاريس بعد حديثه.
اعتراضي الأول يكمن في أن البنوك ستستاء من هذا الأمر وستقاومه في كل مرحلة. وإذا كان بإمكان تمويلات البنوك وأصولها الظهور والاختفاء ما بين دقيقة وأخرى، اعتماداً على تغيرات طفيفة في أسعار الفائدة، الأرجح أنه هذا سيؤدي إلى زعزعة هائلة لاستقرار المقرضين الأفراد والنظام بأكمله. لم يعارض هاريس الفكرة، لكن المبدأ الذي تقوم عليه يدعمه مسؤولو الرقابة في مكتب حماية المستهلك المالي (Consumer Financial Protection Bureau).
الخدمات المصرفية المفتوحة
في أواخر العام الماضي، نشرت الوكالة اقتراحاً طال انتظاره لتنفيذ متطلبات الخدمات المصرفية المفتوحة المنصوص عليها في قانون "دود – فرانك" لعام 2010. وتتعلق هذه الخدمات، في أبسط أشكالها، بفكرة مفادها أنه يفترض أن يتمكن المستهلكون من الوصول بسهولة ويسر إلى جميع بياناتهم المالية والسماح لأطراف ثالثة معتمدة بفعل ذلك أيضاً. أصبحت تلك الخدمات واقعاً في النظام المصرفي في المملكة المتحدة وأوروبا منذ 2018 ويجري تبنيها في عدد من البلدان الأخرى.
اشتكى المصرفيون الأوروبيون، مثل آنا بوتين، الرئيس التنفيذي لـ"بانكو سانتاندير"، بشكل متكرر وصاخب عن عدم الإنصاف في الاضطرار إلى التخلي عن البيانات لشركات التكنولوجيا من دون الحصول على مقابل.
اقرأ أيضاً: مبرمجون حائزون على جوائز ينتجون ذكاءً اصطناعياً ليعمل عنهم
الثورة التي وعدت بها الخدمات المصرفية المفتوحة لم تصل إلى أوروبا، لكنها أحدثت فارقاً واحداً كبيراً، فقد أجبرت البنوك على تطوير واجهات برمجة التطبيقات (APIs) أو بوابات يمكن من خلالها ربط برنامج آخر بنظم تكنولوجيا المعلومات الخاصة بالبنك للسماح بمرور البيانات والتعليمات. وبدون هذه البرمجيات، لن تعمل شركات التكنولوجيا المالية مثل "وايز"، وهو تطبيق للعملات الأجنبية مُدرج في لندن، بنفس الكفاءة تقريباً وقد تختفي من الوجود.
كانت البنوك الأميركية مشغولة بتطوير واجهات برمجة التطبيقات الخاصة بها بغض النظر عن الخدمات المصرفية المفتوحة، نظراً لحاجتها المتزايدة للتمكن من الاتصال بالأنظمة الخاصة بالعديد من العملاء من المؤسسات أو الشركات.
الأمور تجري بسرعة كبيرة
لذا، إذا كانت التكنولوجيا اللازمة لإنشاء روبوت "سمارت موني بوت 1.0" (SmartMoneyBot 1.0) موجودة، فماذا سيمنعني من إطلاقه، بخلاف الافتقار التام لمهارات الحوسبة؟
أولاً، تعد التبعات على الاستقرار المالي حقيقية وخطيرة. فقد أظهر انهيار 4 بنوك إقليمية أميركية وبنك "كريدي سويس" العام الماضي مدى سرعة حدوث الذعر في عالم مليء بوسائل التواصل الاجتماعي وسهولة عمليات السحب عبر الإنترنت.
وفي الولايات المتحدة، لم يؤدِ إطلاق بنك الاحتياطي الفيدرالي لخدمة المدفوعات الفورية خلال الصيف الماضي إلا لتسريع وتيرة الأمور. ويمكن لروبوتات الذكاء الاصطناعي، التي تعمل باستمرار على نقل الأموال وفقاً لأفضل سعر فائدة، القضاء على بنك تماماً بالصدفة دون أن يتساءل أحد عن سلامته، وستضطر الجهات التنظيمية لفحص التداعيات بدقة.
الثقة في الذكاء الاصطناعي
السؤال الآخر هو ما إذا كان المستهلكون سيثقون بسهولة في علامة تجارية ناشئة تعمل في مجال الذكاء الاصطناعي للعناية بأموالهم. وتشير تجارب المملكة المتحدة وأوروبا إلى أن الأمر ربما لا يكون كذلك، فقد أدى ظهور الخدمات المصرفية المفتوحة إلى توقع خبراء الصناعة منصات جديدة متطورة، حيث يمكن للناس دمج جميع أعمالهم المصرفية واستثماراتهم، ومن ثم التخلي عن العلامات التجارية وفروع البنوك القديمة للأبد.
لم يحدث هذا حتى الآن، ويرجع ذلك جزئياً إلى تراجع الطلب، فالناس يخشون ما لا يعرفونه. غير أن الخدمات المصرفية المفتوحة أجبرت بنوكاً عديدة على تطوير تطبيقات أفضل وخدمات أكثر ذكاءً.
اقرأ أيضاً: مسؤول الذكاء الاصطناعي.. وظيفة جديدة بأجر مليون دولار سنوياً
تقول أنجيلا سترينج، من "أندريسن هورويتز"، إن الجيل "زد" (مواليد منتصف التسعينيات والعقد الأول من القرن الواحد وعشرين) والأجيال الأصغر سناً، التي نشأت على الهواتف الذكية، لديهم نظرة مختلفة للخدمات المالية، خاصة بعد الأزمتين المصرفيتين في 2008 و2023، موضحة أن "هذا الجيل سيثق على الأرجح بأفضل المهندسين لرعاية أموالهم، بدلاً من البنوك".
ربما؟ لا أعرف (وهذا يشعرني بكبر السن). ومع ذلك، هناك شيء واحد أتوقعه، وهو أن القطاع المصرفي في الولايات المتحدة سيشهد موجة أخرى من الفوضى التنافسية. وسيقع الضرر الأكبر على آلاف البنوك المحلية الصغيرة التي لا تستطيع تحمل تكاليف الاستثمار التكنولوجي المطلوب للحفاظ على أهميتها.