ربما يجعل العالم من التقنية عدواً كرد فعل على ما يعانيه من تمزق بسبب صراعات بين قوى عظمى وانفصال بين الاقتصادات وتضخم مرتفع ومخاوف بأن تتقدم مصلحة رأس المال على مصالح العاملين. فقد يعتبر أن أفضل طريقة للحفاظ على الوضع الراهن هو تدمير الآلية التي تعِد بتغيير الأساليب القائمة.
كان ذلك هو تفكير أصحاب "حركة اللاضية"، التي بدأها عمال النسيج في مطلع القرن التاسع عشر في إنجلترا. في ظل الإحباط بسبب الحظر التجاري والأزمة المالية الناتجة عن الحروب النابليونية، حطم هؤلاء العمال الأنوال الآلية وأطر النسج، آملين في أن يبطئ ذلك موجة الابتكار التي رأوا أنها تؤثر على أرزاقهم.
لهذا المثال أوجه تشابه مقلقة مع الحاضر. إن ريادة الصين بفارق متنامٍ في التقنية النظيفة، مقترنة بفائضها التجاري الهائل ورغبة بكين في التصدير بما يتيح لها تخطي التباطؤ الاقتصادي المحلي، تتزامن مع تعثر جهود التخلص من الكربون في الدول المتقدمة ويولد ذلك مزيجاً ساماً.
إن كانت التقنية الخضراء مثل المركبات الكهربائية والألواح الشمسية والبطاريات المنزلية تُصنّف على أنها أجنبية وتمثل تهديداً وتُستبعد من خلال قوانين وسياسات فرض الرسوم الجمركية، فلن يكون التراجع الكبير في أسعارها كافياً كي تبلغ المستهلكين. إذ إن مخاوف الأمن الوطني الزائفة والسياسات الصناعية ستكون كافية لاستبعادها.
حظر غير مباشر
نحن نرى فعلاً أدلة تشير إلى ذلك في قارات عدة. كانت متطلبات المحتوى المحلي والحواجز الجمركية على الألواح الشمسية، المصممة لتدعيم الصناعات التحويلية المحلية، في مناطق عدة (من بينها الهند والولايات المتحدة وجنوب أفريقيا وإندونيسيا) بمثابة حظر غير مباشر ساهم في رفع التكاليف وأبطأ الانتشار وجاء في صالح الوسائل القائمة لتوليد الكهرباء من الوقود الأحفوري، وبذلك الانبعاثات.
نشر الاتحاد الأوروبي، الذي لا يفرض رسوماً على واردات الألواح الشمسية، نحو ضعف عدد الألواح التي نشرتها الولايات المتحدة العام الماضي، وأكثر من سبعة أمثال عدد الألواح الشمسية التي نشرتها الهند، رغم أن الطقس أقل ملاءمة بكثير لهذه لتقنية.
ويبدو أن المركبات الكهربائية ستكون الجبهة التالية في هذا الصراع. لقد أثار تحوّل الصين من إحدى أكبر الدول المستوردة للسيارات في العالم إلى إحدى أكبر مصدّريها قلق شركائها التجاريين. جاءت أغلب مساعي التصدير حتى الآن من السيارات التقليدية، لكن ميزة الصين التنافسية في الابتكار التقني في المركبات الكهربائية سلطت الضوء على نماذج السيارات الكهربائية التي تنتجها البلاد.
سخط خافت
كان السخط بشأن ذلك مكتوماً حتى الآن. تعني الرسوم الجمركية البالغة 25%، التي فرضتها إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، أن عدداً محدوداً فقط من المركبات الصينية يظهر على الطرق في الولايات المتحدة عموماً، كما أن تواجد هذه المركبات في أوروبا ما يزال غير مهيمنٍ.
ورغم ذلك، أعلن الاتحاد الأوروبي في أكتوبر عن بدء تحقيق في ما إذا كانت السيارات الصينية قد استفادت من إعانات بشكل غير عادلة، كما فتح البيت الأبيض الشهر الماضي تحقيقاً في تقنية صينية تسمح بالتواصل فيما بين السيارات، وهي تقنية تشمل المركبات الكهربائية إلى جانب كثير من السيارات التقليدية.
في ظل إبطاء شركات صناعة السيارات الأوروبية والأميركية وتيرة العمل على أهدافها للتخلص من الكربون وتراجع أسعار معادن البطاريات، الذي يُرجّح أن يجعل تكلفة السيارات الكهربائية الصينية أقل بكثير من تكلفة المركبات التقليدية، فإن التهديد الواضح المتمثل في المركبات المستوردة الأرخص والأكثر صداقة للبيئة والأفضل سينمو.
وقالت وزيرة التجارة الأميركية جينا ريموندو في فبراير: "تخيلوا لو كانت هناك آلاف أو مئات الآلاف من المركبات المتصلة بالصين على الطرق الأميركية، ويستطيع شخص في بكين أن يعطلها فوراً وبشكل متزامن".
مسار قاتم
يبدو أن سيناريو فيلم "الفجر الأحمر" هذا، يركز على السيارات، وهذا غريب إذا أخذنا في الاعتبار أن 60% من الهواتف المحمولة المزودة بالمستشعرات التي استوردتها الولايات المتحدة على مدى العقد الماضي صُنعت في الصين، وترتفع هذه النسبة إلى نحو 90% إذا أضفت لها تلك المصنّعة في المكسيك ودول جنوب شرق آسيا التي تُستخدم عادةً كأبواب خلفية للتجارة.
قد يزداد هذا المسار قتامة بشكل كبير إذا جلبت انتخابات هذا العام سياسيين أكثر حمائية ممن يغلبون حقوق المواطنين على المهاجرين ليحلوا محل الإدارات الوسطية لرئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في بروكسل والرئيس الأميركي جو بايدن في واشنطن.
ومثلما رأينا في اليابان وجنوب أفريقيا والهند، فقد تكون التعديلات البسيطة لزيادة الغموض في القواعد التنظيمية فعالة بشكل ملحوظ في تعطيل مسار التقنية النظيفة.
يشير ذلك إلى أنه ما تزال هناك مساحة أمام الشعبويين اليمينيين ليجربوا طرح قانون أكثر تشدداً بشأن التقنية الخضراء بدل المعارضة التي كانت خطابية إلى حد كبير ومارستها إدارات ترمب ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك.
إزالة البيروقراطية
يمكن لجانبي هذا الصراع التجاري أن يتخذوا خطوات لتفادي هذا المصير. إن الدول المتقدمة بحاجة إلى إزالة البيروقراطية التي تعيق مساعيها الطموحة للتخلص من الكربون وتقديم دعم أكبر للطلب على التقنية الخضراء.
يميل المصنّعون للاعتقاد بأن أهداف التخلص من الكربون قد تُترك حين يزداد الوضع صعوبة، وهذا شك عقلاني، لذلك لا يستثمرون بقوة مثل منافسيهم الصينيين الذين يعتقدون بأنهم يحظون بدعم الدولة. النتيجة هي تزايد هيمنة الصين.
كما أن تلك الدول بحاجة أيضاً إلى أن تتذكر أن ما لديها حالياً لا يشكل أمن طاقة. إن رؤية ريموندو الكابوسية بأن يحيق مستبدون الأجانب دماراً بشبكات النقل ليست بحاجة إلى وسائل مواجهة سرية. لدى الدول المصدّرة للنفط فعلاً ما يكفي من النفوذ في أسواق الطاقة لرفع التكاليف على الصناعات والأسر إلى مستويات مدمرة.
ولا تستطيع بكين أن تحول دون سطوع الشمس على الألواح الشمسية الصينية في ألمانيا، لكن موسكو خفضت فعلاً إمدادات الغاز إلى أوروبا.
مسعى مختلف
من جانبها، ينبغي أن تدرك الصين أنها لن تتمكن من التصدير بقدر يسمح لها بتخطي متاعبها الاقتصادية الحالية، وأن محاولاتها لتحقيق ذلك لن تؤدي سوى إلى تسريع التيارات الحمائية الآخذة في النمو يوماً بعد يومٍ لدى شركائها التجاريين. إن السعى لرفع استهلاك الأسر، بدل إحداث موجة أخرى لازدهار الصادرات، هي الطريقة المثلى لإعادة التوازن إلى اقتصادها.
إن مواجهة التحدي العالمي المشترك المتمثل في احترار الكوكب يحتم أن يعمل العالم بأكمله بتناغم. لن يثمر تسريع وتيرة الحرب التجارية عن شيء سوى إبطاء سرعتنا نحو هدف الصفر.